الإرادة مجرد خرافة: مفهوم جديد لضبط النفس والسيطرة على الذات
استراتيجيات الفهم العميق لضبط الذات بالارتكاز على التخطيط الاستراتيجي والذكاء العاطفي بدلاً من الاعتماد على قوة الإرادة فقط.
على مدى عقودٍ من الزّمن، طغى مفهوم الإرادة على مجالات تطوير الذات وعلم النفس، إذ كان القائد ذلك الشّخص الصّارم صاحب العزيمة الصّلبة، والقادر على تطويع أي شخصٍ لاتباع النّظام، والمتمكّن من التّغلّب على أي إغراءٍ أو تحدٍّ بمجرّد امتلاك عنصري الإصرار والتّصميم.
لكن يكشف لنا تمحيصٌ دقيقٌ للأدبيّات النّفسية عن واقعٍ أكثر تعقيداً، يتحدّى المفهوم التّقليدي للإرادة كصفةٍ مستقلةٍ. وبناءً على هذا، يفهم الأشخاص ذوو الذكاء العاطفي هذا التعقيد جيّداً، إذ يستغلون استراتيجياتٍ تنظيميّة بديلة لتحقيق النّجاح الشّخصي والمهنيّ، وهنا يبرز دور تقنية الإغراء المحوريّ من بين هذه الاستراتيجيات، ممّا يكشف أن السّيطرة الذّاتية الحقيقيّة تتعلّق أكثر بالتّجنب الاستراتيجيّ من تحمّل القوّة الغاشمة.
نظرة أعمق لمفهوم ضبط الذات
التّصور التّقليديّ للإرادة، التي غالباً ما يتمّ تصويرها على أنّها عضلةٌ تزداد قوةً بالاستخدام، يعود في جذوره إلى نموذج الطّاقة لضبط النّفس الذي طرحه عالم النّفس الاجتماعيّ روي باوميستر Roy Baumeister. بناءً على هذا النّموذج، يعتبر ضبط الذات طاقةً محدودةً تنفذُ بالاستهلاك، في ظاهرةٍ تُعرف بنضوب الذات، إذ تُشير هذه النّظرية إلى أنّ زجّ إرادتنا دائماً في مقاومةِ إغراءٍ ما، سيؤدّي حتماً إلى تراجع قدرتنا على ضبط الذات على المدى البعيد.
لكن، مؤخّراً تعرّض هذا النّموذج لتدقيقٍ متزايدٍ، وعليه فقد وجدت الدّراسات الحديثة صعوبةً في تكرار نتائج التّجارب الأساسيّة التي تدعم نظرية نضوب الأنا، ممّا أثارَ تساؤلاتٍ حول شموليّة هذه الظّاهرة. هذا ويعتقد النّقاد أن تصويرَ الإرادة كطاقةٍ يمكن استهلاكها يُسهّل كثيراً التّعقيد والتنوّع الكبيرين لمفهوم ضبط النّفس، كما ويتجاهل أهميّة العوامل مثل: الحافز، والمشاعر، والفروق الفرديّة في استراتيجيّات التحكّم.
تطبيق الاستراتيجيات الصحيحة للنجاح
بالفعل، يُدرك الأشخاص ذوو الذكاء العاطفي أنّ النّجاح في تنظيم الذات يتطلّب أكثر من مجرّد مقاومة الإغراء بواسطة الإرادة. بدلاً من ذلك، يستخدمون مجموعةً من الاستراتيجيّات الأخرى التي لا تعتمد على مواجهة الإغراءات مباشرةً، وإحدى هذه الاستراتيجيات هي تجنّب الإغراء، والتي تتضمّن تنظيم البيئة والرّوتين اليوميّ للشّخص بطريقةٍ تُقلّل من التّعرض للإغراءات من الأساس، إذ يعترف هذا النّهج بحدود الإرادة البشريّة ويركّز على الإجراءات الوقائيّة بدلاً من المقاومة الرّدية.
إلى جانب تجنّب الإغراء، يمارس الأشخاص النّاجحون تقنية وضع الأهداف التي تقدّم توجيهاً واضحاً وتحفيزاً، مقلّلةً بذلك الحاجة إلى الاعتماد على الإرادة عبر جعل السّلوكيات المطلوبة أوتوماتيكيّةً ومعتادةً أكثر، إذ يعتمد هؤلاء الأشخاص أيضاً على مفهوم المراقبة الذّاتية، التي تتضمّن متابعة السّلوكيات والنّتائج للكشف عن الأنماط وإجراء التّعديلات حسب الضّرورة. بالإضافة إلى ذلك، يعمدون إلى التّباين الذّهني لتخيّل العقبات الممكنة ووضع خططٍ "إذا حدث هذا، سأفعل ذاك" محدّدةً لتجاوزها، في سبيل الاستعداد للعمل وفقاً لأهدافهم دون الحاجة لاستهلاك كميةٍ كبيرةٍ من الإرادة.
تسلّط هذه الاستراتيجيات الضّوء على فهمٍ أعمق لضبط النّفس، يرتكز على أساس التّخطيط الاستراتيجيّ والذكاء العاطفي بدلاً من الاعتماد على القوة المجرّدة، إذ إنّ الأفراد أصحاب الذكاء العاطفي قادرون على استشراف بيئاتهم، ومشاعرهم، ودوافعهم بأساليب تتوافق مع أهدافهم طويلة الأجل، محافظين بذلك على مواردهم الذّهنيّة.
تتجاوز آثار هذا التّغيير في الفهم مجال التّنمية الشّخصيّة، لتصلَ إلى القيادة وكفاءة المؤسسات، إذ إنّ القادة الذين يعرفون محدوديّة الإرادة ويسعون لخلق بيئةٍ تُخفّف من الإغراءات وتُعزّز استخدام الاستراتيجيات التّنظيميّة البديلة، قادرون على رفع مستوى ضبط النّفس الجماعي لفرقهم، كما يستطيعون تعزيز أداء الفريق، وتحفيز قدرته على التّكيف، مع رفع مستوى رضاه عبر تشجيع ثقافة تثمين التّخطيط الاستراتيجيّ، ووضع الأهداف، والتّعامل مع المشكلات بنهجٍ استباقيٍّ.
لمزيدٍ من النصائح المفيدة للصحة النفسية والجسدية، تابع قناتنا على واتساب.