الاكتئاب عالي الأداء: الصّراع الذي لا تراه خلف النّجاحات
لا ترى الأعين إلا الابتسامات، لكن خلف السّتار يعيش بعض النّاجحين في دوامة الاكتئاب الصّامت
من الخارج تبدو ليلى 42 عاماً صحفيّةً ناجحةً تثير إعجاب زملائها وزميلاتها واحترامهم، لكنّ السّيّدة الأربعينيّة تعيش في عالمٍ آخر مختلفٍ عن الظّاهر الّذي يبدو للجميع كما لو أنّه حياةٌ مثاليّةٌ، في الحقيقة تعيش السّيّدة الأربعينيّة حالةً من الاكتئاب عالي الأداء، الّذي يعانيه كثرٌ في مختلف أنواع العمل، خاصّةً في قطاع الأعمال والدّراسة.
تقول ليلى الّتي أدركت معاناتها مع الاكتئاب عالي الأداء، حين طُلب إليها تحرير مادّةٍ صحفيّةٍ عنه، إنّها تعيش في سباقٍ لا نهاية له، تضغط على نفسها بشدّةٍ لتحقيق المزيد وتنجح، لكنّها في المقابل لم تعد تستمتع بأيّ شيءٍ، ولا حتّى بأبسط الأشياء الّتي كانت حتّى الأمس القريب تجلب لها بهجةً عارمةً، كلقاء الأصدقاء وممارسة هوايتها بالسّباحة.
الأمر الأكثر خطورةً، هو أنّ السّيّدة الأربعينيّة لا تشارك مشكلتها هذه مع أيّ شخصٍ آخر، بالنّسبة للجميع فهي الصّحفيّة النّاجحة والأمّ المثاليّة، والصّديقة الّتي يحبّون اللّجوء إليها دائماً، وهذا بالضّبط ما يشير إليه الاكتئاب عالي الأداء الّذي يصيب الأشخاص النّاجحين في العادة.
ما هو الاكتئاب عالي الأداء؟
الاكتئاب عالي الأداء هو نوعٌ من الاكتئاب الّذي يُصاب به الأشخاص الّذين يتمكّنون من أداء مسؤوليّاتهم بنجاحٍ، ويبدون مستقرّين من الخارج، هؤلاء الأشخاص غالباً ما يكونون طلّاباً متفوّقين، موظّفين ناجحين، أو أصحاب وظائف مرموقةٍ. حياتهم تبدو طبيعيّةً، بل وحتّى مثاليّةً أحياناً، لكن داخليّاً، يعانون من مشاعر العزلة، والإحباط، وتدنّي احترام الذّات، وأحياناً حتّى شعورٍ مستمرٍّ بعدم الرّضا.
يوضح المعالج النّفسيّ جون تي ماير من كامبريدج في مقاطعة ماساتشوستس الأميركيّة، أنّ الاكتئاب عالي الأداء، ليس تشخيصاً رسميّاً في الطّبّ النّفسيّ، لكنّه أصبح مصطلحاً شائعاً؛ لأنّه يعبّر عن واقعٍ يعيشه الكثيرون. يقول ماير: "في مجتمعنا، أصبح النّاس أكثر انفتاحاً حول معاناتهم مع الاكتئاب، لكن في الوقت نفسه يشعرون بضغطٍ هائلٍ لتحقيق التّوقّعات العالية" [1].
علامات الإصابة بالاكتئاب عالي الأداء
في الحقيقة، لا تختلف أعراض الإصابة بهذا النّوع من الاكتئاب عن باقي الأنواع الأخرى، لكن الأخصّائيّة النّفسيّة إيرينا غورليك، تتحدّث عن علامتين اثنتين لا يمكن تجاهلهما.
الأولى، هي النّقد الذّاتيّ المتكرّر، وتحدث حين نقوم بعملنا، ونلتزم بمواعيد التّسليم، إلّا أنّنا ننتقد ذواتنا باستمرارٍ، أو يرافقنا شعورٌ بعدم الرّضا عن أدائنا. وبحسب غورليك، فإنّ النّظرة السّلبيّة للذّات أو للحياة بشكلٍ عامٍّ من أهمّ علامات الاكتئاب عالي الأداء.
أمّا العلامة الثّانية، فهي حين نفقد المتعة في ممارسة الأشياء الّتي كنّا نحبّها. تقول غورليك، إنّ المزاج يلعب دوراً كبيراً، وبحال لم نعد نستمتع بالأشياء الّتي كانت تسعدنا، فإنّ هذا قد يكون دليلاً واضحاً على الاكتئاب.
بمعنًى آخر، الأنشطة الّتي كنّا نحبّها، مثل مشاهدة الأفلام أو لقاء الأصدقاء، قد تصبح شيئاً مؤجّلاً وغير محبّبٍ.
مع ذلك، هناك عدّة علاماتٍ أخرى مرتبطةٌ بهذا النّوع، تشمل:
- وجود شهيّةٍ للطّعام دون الاستمتاع به.
- العلاقة الحميميّة لم تعد متمتّعةً مثل الماضي.
- الالتزام بالهوايات، لكن ليس بنفس القدر من النّشاط.
- الشّعور بقلّة الرّاحة، والتّعب المستمرّ، رغم أنّ ساعات النّوم لم تقلّ.
- صعوبة اتّخاذ القرارات، حتّى البسيطة منها، مثل ماذا سنتناول على الغداء؟
- قضاء الوقت مع الأصدقاء والعائلة، لكن مع الشّعور بالانفصال.
- فقدان الشّغف تجاه النّجاح، رغم الاهتمام بالعمل.
تقول غورليك، إنّنا في حالة الاكتئاب عالي الأداء، يمكن أن نستمرّ بتقديم واجباتنا وتحقيق الإنجازات، ما يوحي للآخرين وأحياناً لأنفسنا بأنّنا بخيرٍ، وتضيف أنّ مجرّد القيام بالمهامّ والنّجاح بها لا يعني أنّ صحّتنا النّفسيّة بخيرٍ.
بناءً على الوضع السّابق، قد يكون روّاد الأعمال وكبار الموظّفين في هذا القطاع، أحد أكثر الأشخاص الّذين يواجهون مثل هذا النّوع من الاكتئاب.
الاكتئاب عالي الأداء في عالم الأعمال
ربّما من المستحيل أن نتخيّل بأنّ روّاد الأعمال الّذين أسّسوا شركاتٍ كبيرةً ناجحةً، يعانون أو قد عانوا سابقاً من الاكتئاب، لكنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تماماً. في عالم الأعمال، حيث الضّغط الكبير المستمرّ، يمكن أن يكون بيئةً خصبةً للاكتئاب عالي الأداء.
في عام 2014، شارك برادلي سميث الرّئيس التّنفيذيّ لشركة "ريسكيو ون فاينانشال" (Rescue One Financial)، قصّته مع الاكتئاب وروى لـ.Inc كيف كان يعمل لساعاتٍ طويلةٍ في عام 2008 لتقديم استشاراتٍ لعملاءٍ مثقلين بالدّيون، الّتي كان هو نفسه غارقاً فيها.
لاحقاً اضطرّ سميث نفسه، لصرف كلّ مدّخراته واستنفاذ رصيدٍ ائتمانيٍّ بقيمة 60 ألف دولارٍ، كذلك بيع ساعته الرّولكس والاستدانة من والده 10 آلاف دولارٍ، ورغم كلّ تلك الضّغوط، كان سميث يظهر متفائلاً أمام موظّفيه وشركائه [2].
بغضّ النّظر عن قصّة سميث الّتي تمثّل صعوبات النّجاح والاكتئاب المرافق للّحظات الاقتراب من الفشل، فإنّ روّاد الأعمال النّاجحين يمكن أن يعيشوا الاكتئاب أيضاً. فمن الخارج، يبدون مثالاً يحتذى، ولكن داخليّاً، يشعرون كما لو أنّهم سجناء في شركاتهم. بعضهم ينظر إلى النّجاح كضغطٍ إضافيٍّ، ويعيشون حالةً من اليأس؛ لأنّهم لا يجدون أيّ معنىً حقيقيٍّ وراء ما يقومون به، ومع ذلك، من النّادر أن يصرّحوا عن أفكارهم تلك.
وبحسب الطّبيبة النّفسيّة المتخصّصة في التّعامل مع روّاد الأعمال، شيري والينغ، فإنّ روّاد الأعمال أكثر عرضةً للاكتئاب بنسبة 30%، ومشاكل الإدمان بنسبة 12%. وتضيف أنّ هذه الإحصائيّات المثيرة للقلق تزداد سوءاً نتيجة العلامات التّحذيريّة الدّقيقة الّتي تجعل من الصّعب عليهم طلب المساعدة.
ومن خلال تجربتها كطبيبةٍ نفسيّةٍ متخصّصةٍ بالتّعامل مع روّاد الأعمال، لاحظت والينغ أنّ نوع الاكتئاب الّذي يصيب هذه الشّريحة يسمّى "الاكتئاب عالي الأداء"، والّذي غالباً ما يأتي بأعراضٍ خفيّةٍ وغامضةٍ، ما يدفع البعض للاعتقاد بأنّها مجرّد تعبٍ أو توتّرٍ.
تضيف والينغ: "نفس الغريزة وقوّة الإرادة الّتي تدفع قادة الأعمال للمخاطرة والنّجاح، قد تدفعهم أيضاً للتّظاهر بأنّ كلّ شيءٍ على ما يرام، حتّى لو كانوا يعانون بصمتٍ" [3].
شاهد أيضاً: تحديّات تواجه الأثرياء وتجعل طعم المال مرّاً
كيف نواجه الاكتئاب عالي الأداء؟
رغم أنّ الأفراد الّذين يعانون من الاكتئاب عالي الأداء قادرون على أداء وظائفهم بشكلٍ جيّدٍ إلى حدٍّ معقولٍ في حياتهم اليوميّة، فإنّ هذا لا يعني أنّ تجربتهم أقلّ تحدّياً أو أهمّيّةً، ذلك أنّ أعراض هذا النّوع من الاكتئاب تملك تأثيراً عميقاً على جودة حياة الشّخص، ومن الضّروريّ معالجتها.
العلاج النّفسيّ
ينظر إلى العلاج السّلوكيّ المعرفيّ (CBT) كاستراتيجيّةٍ فعّالةٍ في معالجة الاكتئاب عالي الأداء، حيث يساعد على تغيير أنماط التّفكير السّلبيّة وتطوير مهاراتٍ للتّعامل مع المشاعر والضّغوط. كما أنّ جلسات العلاج الجماعيّ أو مجموعات الدّعم توفّر مساحةً للتّواصل وتبادل التّجارب.
الأدوية
قد تشمل خطّة العلاج استخدام مضادّات الاكتئاب مثل SSRIs، الّتي تخفّف الأعراض، وتحسّن الحالة النّفسيّة. لكن، بالتّأكيد، من الضّروريّ استشارة طبيبٍ مختصٍّ لتقييم الفوائد والمخاطر.
تغييرات نمط الحياة
ممارسة الرّياضة، واتّباع نظامٍ غذائيٍّ متوازنٍ، والنّوم الجيّد، وتقنيات إدارة الضّغوط مثل التّأمّل واليقظة الذّهنيّة تساعد في تحسين المزاج. كما أنّ تقوية العلاقات الاجتماعيّة والانخراط في أنشطةٍ مفيدةٍ يخفّف من العزلة المصاحبة للاكتئاب.
إذاً، يمثّل الاكتئاب عالي الأداء أحد أنواع المعاناة الّتي تمثل تحدّياً مزدوجاً، حيث يختلط الألم الدّاخليّ بالنّجاح الخارجيّ، ممّا يصعّب التّعرّف عليه ومعالجته. ورغم أنّه قد يمرّ دون ملاحظةٍ في كثيرٍ من الأحيان، إلّا أنّ تأثيره العميق على الصّحّة النّفسيّة لا يمكن تجاهله. لذلك، يبقى من الضّروريّ تعزيز الوعي المجتمعيّ بهذه الحالة، وتشجيع ثقافة الانفتاح والحديث عن المشاعر دون خوفٍ من الوصم.
وتذكّروا دائماً أنّ الحياة ليست سباقاً دائماً نحو الإنجاز، بل هي رحلةٌ تستحقّ أن نخوضها بسلامٍ نفسيٍّ وتوازنٍ داخليٍّ. إنّ التّعاطف مع النّفس ومع الآخرين هو المفتاح لفهمٍ أعمق لهذا النّوع من الاكتئاب، ولبناء مجتمعٍ يقدّر الإنسان بكلّ أبعاده، وليس فقط بما يظهره للعالم.