المسار المهني: نهاية حتميّة أم رحلة دائمة التّغير؟
ماذا لو كانت الحياة المهنيّّة ليست خطّاً مستقيماً، بل عبارةً عن طرقٍ متعدّدةٍ ومتغيّرةٍ تعتمد على اهتماماتِنا وتطوّراتِنا الشّخصيّة؟
يعاني الكثيرون من فكرة أنّ اختيار المهنة هو عمليّةٌ نهائيةٌ تشبه خطِّ النّهاية في آخر المضمار، حيث يُفترض أن يصل الشّخص إلى نقطةٍ واضحةٍ ومحدّدةٍ بمجرد إنهاء الدّراسة والتّدريب. يتمّ بناءُ هذا التّصوّر منذ الطفولة عندما يسألنا الكبار: "ماذا تريد أن تُصبحَ عندما تكبر؟"، فنبدأ في التّحديدِ السّريع للأحلام والمهن مثل أن نصبحَ رجالَ إطفاءٍ أو مشاهيرَ في عالم الموسيقى. ومع تقدّمِنا في الحياة، يبقى هذا السّؤال يطاردُنا، ونشعر بالضغط لتحديدِ "الوجهة" النّهائية لمسارِنا المهنيّ.
ولكن ماذا لو كانت المهنة ليست هدفاً نهائياً بحدِّ ذاتِها، بل رحلةً طويلةً تتخلّلها محطّاتٌ وتجاربٌ مختلفةٌ؟ ماذا لو كانت الحياة المهنيّّة ليست خطّاً مستقيماً، بل عبارةً عن طرقٍ متعدّدةٍ ومتغيّرةٍ تعتمد على اهتماماتِنا وتطوّراتِنا الشّخصيّة؟
الوجهة المهنيّّة في ثقافتِنا
نميل إلى حثِّ الشّباب على اختيارِ تخصصاتِهم الدّراسيّة والمهنيّّة بأسرع وقتٍ ممكنٍ، لأنَّ هذا يُعتبر قراراً حاسماً لمستقبلِهم. نعتقد أنّ البداية الصحيحة ستقودهم حتماً إلى النّجاح المهنيّّ. ولكن الواقع يشير إلى أنّ الإنسان بطبيعتِه يتغيّر ويتطور مع مرور الوقت، وبالتالي تتغيّر توجهاتُه واهتماماتُه. لذلك، الاعتقاد بأنّ المسار المهنيّ يجب أن يكون خطياً ومستقراً هو اعتقادٌ خاطئٌ تماماً. قد يختار الكثير منّا مجالاً دراسياً معيّناً بناءً على توقُّعاتٍ أو رغباتٍ سابقةٍ، ليكتشف لاحقاً أنّ اهتماماته قد تحوّلت. على سبيل المثال، قد يبدأ الشّخص بدراسةِ علم الأحياء ليكتشف أنّ شغفَه الحقيقي هو الكتابة أو الفنون. هذا التغيّر ليس شيئاً سيئاً، بل هو جزءٌ من طبيعةِ الإنسان المتغيّرة.
شاهد أيضاً: علي مطر: كيفَ غيّرت LinkedIn الشّبكات المهنيّة
تقدّم التجارب الشّخصيّة أمثلةً واضحةً على هذا التحوّل. على سبيل المثال، بدأ كاتبُ المقال دراسته في تخصّص علم الأحياء البشري والاقتصاد، لكنّه وجد نفسه بعد التخرّج يعمل في مجالٍ بعيدٍ تماماً عن تخصّصِه. ورغم أنّه كان يتوقّع مساراً مهنياً محدّداً، انتهى به الأمر إلى الكتابة كمهنةٍ. وهذا دليلٌ على أنّ الحياة المهنيّّة ليست حتميةً أو معروفةً مسبقاً، بل هي نتيجةٌ للتّجارب المتعدّدة الّتي يمرّ بها الشّخص. الخوف من الوقوع في "فخ المهنة" شائعٌ بين الكثيرين، وهو ينبع من الاعتقاد بأنّنا يجب أن نلتزم بمسارٍ مهنيٍّ محدّدٍ منذ البداية. لكنّ الحقيقة هي أنّ الانفتاح على التّجربة واستكشاف اهتماماتٍ جديدةٍ هو ما يقودنا إلى تحقيقِ الرّضا المهنيّ. لا يجب أن نخشى التّغيير أو الابتعاد عن التّوقعات السّابقة. علينا أن نتعلّم أنّ الحياة المهنيّّة ليست رحلةً منظّمةً نحو وظيفةٍ مثاليّةٍ، بل هي مجموعةٌ من الاختياراتِ والمغامرات التي نصنعها بأنفسِنا.
دور الشّركات في تحديد الوجهة المهنيّّة
للشّركات أيضاً دورٌ كبيرٌ في هذا السّياق. يجب أن تدعم الشّركات ثقافةَ التعلّم المستمر، وأن تتيح للموظّفين الفرصة لاكتسابِ مهاراتٍ جديدةٍ داخل العمل. عندما يشعر الموظّفون بأنّهم يستطيعون استكشافَ مجالاتٍ جديدةٍ والتّعلم المستمر، يصبحون أكثر انخراطاً وإنتاجيّةً. ولذلك، فإنَّ بناء بيئة عملٍ تشجّع على الفضول والتّطوّر يعزّز الرّضا الوظيفي، ويزيد من قيمة الموظّفين للشركة. وعلى القادة أن يفكّروا في استراتيجياتٍ محددةٍ لخلق بيئة عملٍ مرنةٍ داعمةٍ للتّطور. يمكن تحقيق ذلك من خلال توفير مساراتٍ مهنيّةٍ مرنةٍ تتيح للموظّفين تجربةَ أدوارٍ مختلفةٍ داخل الشّركة، وتفعيل برامجِ الإرشاد التي تربط الموظفين الجدد بمرشدين أكثر خبرةً، إلى جانب تقديم برامجٍ تعليميةٍ مستمرةٍ لضمان أن يبقى الموظفون على اطّلاعٍ بأحدث التطورات في مجالهم. كذلك، يمكن أن تساهمَ شبكات دعم الموظّفين في تعزيز شعورِ الانتماءِ للمجتمع داخل الشّركة.