التعليم كوسيلة للتنمية المستدامة .. ماليزيا واليابان نموذجاً
السر في التجربتين الماليزية واليابانية، يكمن في الاهتمام بالتعليم والتركيز على بناء الإنسان.
نجحت التنمية المستدامة في تحويلِ دولةٍ مثل ماليزيا من دولةٍ تعتمد أساساً على تصدير المنتجات الزّراعيّة إلى دولة تُصَدِّر المنتجات عاليةِ التّقنية في مجالات الصّناعات الإلكترونيّة والكهربائيّة، فضلاً عن نجاحها في تحويل وتنويع مصادر دخلها القوميّ من الصّناعات التّقليديّة إلى الصّناعات المُتطوّرة، وتحديث الزّراعة، وسبل السّياحة، واستثمار البترول.
ماليزيا واستراتيجية التعليم
كما تمكّنت التجربة الماليزية من معالجة مشاكل الفقر، ومحاربة الفساد، والحفاظ على البيئة في آنٍ واحدٍ، ونجحت في رفع نموّ إجمالي النّاتج المحليّ سنوياً من عجزٍ بقيمة 7.4 مليار دولار عام 1998 إلى فائضٍ بقيمة 8.7 مليار دولار عام 2022 بحسب بيانات البنك الدوليّ.
وتتفق الدّراسات على أن ماليزيا نجحت في تجربتها التّنمويّة بناءً على ما يسمى "اقتصاد المعرفة" التّي تعتمد على أهميّة رأس المال البشريّ والفكريّ، وزيادة دور الإبداع كعوامل أساسيّة في التنمية المستدامة طويلة الأجل، وأكدت تلك الدّراسات على أنّ البعد الإبداعيّ للنّشاط الاقتصاديّ يتمثّل في الابتعاد عن التقليديّة في الاقتصاد بمعنى التّركيز على الأصالة والتّجدد والإبداع.
ووفقاً لدراسة أجرتها "أكاديميّة الشّرق" حول التنمية المستدامة في ماليزيا، قد بلغ إجمالي الإنفاق الحكوميّ على التّعليم عام 1990 نحو 5.69%، ووصل إلى 4.16% عام 2019، مع العلم أنّ الحكومات الماليزيّة المتعاقبة حرصت على تطوير التّعليم في كافّة مراحله، لعلمها أنّ النّمو لا يمكن أن يتحقّق بدون تعليمٍ عصريٍ؛ الأمر الذّي ظهر جلياً في انخفاض معدلات البطالة بناءً على متطلبات السّوق.
اليابان واستراتيجية التعليم
على الرّغم من فوارق التّجارب التّاريخيّة للبلدين، فإنّ اليابان اعتمدت كذلك استراتيجيّة التّعليم من أجل التنمية المستدامة، حيث بنت تلك الدّولة التّي تعرّضت لمأساةٍ قاسيةٍ خلال الحرب العالميّة الثّانية تمثلّت بقصف مُدنها بالقنابل الذّرية، مقاربةً مختلفةً عن السّائد، وقالت إنّ الهدف الأسمَى هو الاستثمار في النّاس عبر نشر التّكنولوجيا، وتبادل المعرفة، وتثقيف المُجتمعات.
فعلى سبيل المثال، أطلقت الحكومة اليابانيّة جائزة "اليونيسكو- اليابان للتربية من أجل التنمية المستدامة"، والّتي تهدف إلى مكافأة جهود الأفراد والمؤسسات المهتمّة بأنشطة التّعليم للتنمية المستدامة، وهدفها إبراز دور التّعليم في ربط الأبعاد الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، والبيئيّة للتنمية المستدامة، مع العلم أن تلك الجائزة تتألّف من ثلاث جوائز سنويّة قدرها 50 ألفَ دولارٍ لكلّ فائزٍ.
الدول العربية
في المقابل، فإن الدّراسات الإحصائيّة تُظهر أنّ الدّول العربيّة مجتمعةً أنفقت 4.3% من ناتجها المحليّ الإجماليّ على التّعليم بحلول العام 2014، وتقدّر قيمته بـ 124.27 مليار دولار، مقابل 947.07 مليار دولار أنفقتها الدّول الأوروبيّة في الفترة ذاتها على القطّاعات التّعليميّة، أيْ أنّ الأوروبيين أنفقوا قرابة 6 أضعاف الرّقم على كلٍّ فرد لقاء تعليمه، ما يجعل من المقارنة أمراً غير منطقي.
لقد أظهرت التّجربتان الماليزية واليابانية أنّ دولاً ليست غنية بالموارد الطّبيعية، مثل: النّفط، والغاز، والحديد، والفوسفات وغيرها، بل وحتى أن دولاً تعرّضت لكوارث طبيعيّةٍ، ولحروبٍ مأساويّةٍ، قادرةٌ على الخروج من كلّ ذلك بناءً على قدرات أبنائها من خلال التّعليم وإخراج الخبرات البشريّة القادرة على تصميم الاختراعات المُتطورة، والابتكارات الجديدة؛ لتكون خطوةً جديدةً للبشريّة على مسار التّطور والحضارة، وتُحقّق تنمية مستدامة للإنسان تمنحه مزيداً من الرّخاء والرّفاهية، وتجعل من العلم سبيلاً واضحاً للإنماء والتّنمية.
إن البلدان العربيّة لا تحتاج مزيداً من الأعداد البشريّة في سُكّانها، الذّين تُصدِّرهم إلى المهجر غرباً أو شرقاً، بقدر ما تحتاج إلى استثمارهم عبر التّعليم وبناء القدرات لكونهم أكبر منجمٍ للعوائد التّنمويّة، وذلك بدلاً عن حقول النّفط، والغاز، والحالة الرّيعيّة التّي تُبنى عليها معظم الاقتصادات العربيّة الغنيّة منها والنّامية، والتّي بات بعضها مؤخراً (كما في دول الخليج) يلاحظون أهميّة التّعليم واستثمار رأس المال البشريّ في العمليّة التنموية، إيماناً منهم بأنّ منابع الإبداع الإنسانيّ أكثر ديمومة من منابع الثّروات الطّبيعيّة.