التوطين.. كيف أصبحت الإمارات أمة قوية بسببه؟
نظرةٌ عميقةٌ على برنامج التوطين في الإمارات العربية المتحدة والخطوات التي حققها للنهضة بالاقتصاد.
حقّقت دولة الإمارات العربية المتّحدة نهضةً شاملةً اقتصاديةً واجتماعيةً في العقد الماضي، ويعود هذا في الكثير منه إلى اتّباع سياسة التّوطين، والتي كانت من المبادرات شديدة الأهميّة التي دعمت عمل القطّاع الخاصّ بمجموعةٍ مهمّةٍ من الطّرق والتي أثّرت من ناحيةٍ أخرى على الجوانب الاجتماعيّة والثّقافية والاقتصاديّة بشكلها الشّامل. [1]
فما هو التوطين عموماً وكيف نجحت دولة الإمارات في استغلاله بشكلٍ صحيحٍ تماماً لخدمة رؤيتها المستقبليّة وتحقيق التّفوّق على الكثير من الدّول المجاورة بل ومنافسة الدّول الغربيّة؟ هذا ما سوف نتعرّف عليه الآن.
كيف بدأت عملية التوطين في الإمارات؟
كان انتشار النّفط والغاز هو السّبب الرّئيسي للانتعاش الاقتصاديّ في المنطقة، وقد تمكّنت دولة الإمارات العربية المتّحدة من جذب المغتربين والمواهب الأجنبيّة من كلّ أنحاء العالم، ومع توفير الدّعم الماليّ وفرص العالم، هيمن هؤلاء المغتربون تماماً على القطّاع الخاصّ، فأصبحت نسبةُ العمالةِ من المغتربين 80% من إجمالي الموظّفين في القطّاع الخاصّ عام 2004م، وتزايدت إلى 99.57% عام 2009م.
وإذا عرفنا أنّ القطّاع الخاصّ في الإمارات مسؤولٌ عن توظيف 3 ملايين شخصٍٍ، فإنّ هذا يعني أن 13000 إماراتي فقط هم من كانوا يعملون في القطاع الخاصّ في حين عمل بقيّة المواطنين ضمن القطّاع العام.
وقد أرادت الحكومة الإماراتية بشدّةٍ تصحيح هذا الوضع وضمان عدم عزل الإماراتيين تماماً عن القطّاع الخاصّ والتّقليل من اعتماد الشّركات الأجنبيّة الصّارخ على المواهب الأجنبيّة، ومن ثمّ بدأت سياسة التّوطين لدمج وإحلال المواطنين الإماراتيين في مجالاتِ الأعمال والاقتصاد.
ولأن الحكومة الإماراتيّة تدرك الأهميّة الشّديدة لدمج المواهب المحليّة في القطّاع الخاصّ على مدى واسعٍ، فإنّها أطلقت الكثير من المبادرات التي تشجّع كلّاً من المواطنين وأصحاب العمل بالتّعاون في الكثير من المجالات، وكان منها مبادرة NAFIS والتي كان من أهدافها سدّ الفجوة في التوقّعات بين المهنيين الإماراتيّين ومؤسّسات القطّاع الخاصّ والتّقريب بينهما.
كما انطلقت عدّة برامج وطنيّةٍ للتّوظيف في أبوظبي، وكان هدفها الأساسيّ تزويد المواطنين الإماراتيّين بالمهاراتِ المتنوّعة واللازمة للحصولِ على وظائف مجزيةٍ ماديّاً وتحقيقِ الكفاءة في المجالات المختلفة.
كيف ساهم التوطين في تعزيز مكانة دولة الإمارات؟
رفع السّيادة الثّقافية والاجتماعيّة للدّولة وزيادة الاعتراف العالميّ بها كان من أهمّ نتائج توطين الوظائف في الإمارات العربية المتّحدة، فمع زيادة الإماراتيين الحيويين المساهمين بفاعليةٍ في الاقتصاد، أصبحت الدّولة ليست بمأمنٍ فقط من العقوبات الدّولية والاقتصاديّة عند اتّخاذ أيّ موقفٍ سياسيّ أو اجتماعيّ، بل إنّها تمكّنت أيضاً من إحداث تحوُّلٍ إيجابيّ في رؤية وتوجّه الشّركات التي ترغب في التّعاون مع القطّاع الحكومي أو مع الشّركات العائليّة، ومن أهمّ المظاهر المؤكّدة لزيادة توطين الوظائف في الإمارات:
1. الحفاظ على الثقافة
حيث تتمتّع دولة الإمارات العربيّة المتّحدة بتراثٍ ثقافيّ فريدٍ، وكلّما انخرط الإماراتيّون مع المغتربين في مجالات العمل المختلفة فإنّهم بالتّدريج يفرضون ثقافتهم لتكون مقبولةً على نطاقٍ أوسع في مجتمعٍ يعجّ بالمغتربين من كلّ الجنسيات، فسواء في الطّعام أو الملابس أو التّعاملات اليوميّة، فإنّ الثّقافة الإماراتية التّراثية تصبح مقبولةً يوماً بعد يومٍ، وهذا يضمن ليس الحفاظ على الثّقافة فقط، ولكن يمنح الأجنبيّ الزّائر للبلاد فرصةً قويةً للاستمتاع بتجربةٍ إماراتيةٍ متكاملةٍ حتى إذا كان يأتي في زيارة عملٍ وليس للسّياحة.
2. إعادة إدخال اللغة العربية والحفاظ عليها
تعتبر اللّغة الإنجليزية هي الأكثر انتشاراً وعلى نطاقٍ واسعٍ في الإمارات العربيّة المتّحدة نتيجةَ كثرة العرقيّات وضخامة عدد المغتربين من جميع الجنسيات، فكانت الإنجليزية لفترةٍ طويلةٍ للغاية هي الأكثر استخداماً في الحياة اليوميّة، ومع هذا نجد أنّ اللّغات التي تأتي بعدها في الانتشار تتمثّل في الأردنيّة، والهنديّة، والفلبينية، وليست العربيّة، وهذا اعتماداً على هيمنة عرقٍ معينٍ على نوعٍ محدّدٍ من الصّناعة.
ولكن الأمر بدأ يتحسّن تدريجيّاً مع وجود عددٍ متزايد من السّكان الإماراتيين في القوى العاملة ليُعاد إدخال اللّغة العربية بشكلٍ أكثر كثافةً في القطاع الخاصّ والسيطرة التّدريجية على هيمنة اللّغات الأجنبية الأخرى ودعم لغة البلاد باعتبارها من أشدّ العوامل حيويةً في الحفاظ على ثقافةِ البلد العربي.
3. الاعتماد على الذات
ساعد التّوطين بشدّةٍ في تزايد اعتماد دولة الإمارات على أبنائها ودعم الاعتماد على الذّات، فقد أصبح الإماراتيون بالتّوطين أكثر احترافيةً عن فتراتٍ سابقة، كما أنّهم أكثر حيويةٍ وديناميكيةٍ في الحفاظ على بلادهم، ودعّمَ التوطين ثقة الإماراتيين في أنفسهم وتأكّدت قدرتهم في النّهوض بأيّ دورٍ في البلاد مهما كان يتطلّب من خبرةٍ أو مهارةٍ.
وهذا أدّى بالتدريج إلى تقليص الدّور الأجنبي وتراجع الاعتماد عليه في صناعاتٍ معيّنةٍ، قد تؤدّي بعد هذا إلى الضّغوط على الإمارات وفرض أوضاعٍ أو قراراتٍ لا تتلاءم معها.
شاهد أيضاً: وزارة السعادة في الإمارات: كيف تؤدي الرفاهية إلى زيادة تنمية الاقتصاد؟
4. التنمية طويلة الأجل في رأس المال البشري
تضمن مبادرات التّوطين المتنوّعة استثماراً فعّالاً وطويل الأجل في رأس المال البشريّ، فعندما يتمّ تزويد الإماراتيين بالمهارات اللازمة لسوق العمل في المجالات المتنوّعة، فهذا يضمن للدولة عدداً لا نهائيّاً من المواهب المتوفّرة على الدّوام لسدّ أيّ فراغٍ أو عجز، كما يعزّز من الاعتراف بالإماراتيين على مستوى العالم بأكمله واعتبارهم على قدرٍ مرتفعٍ من الجودة والاحترافية، ممّا يعزّز من الصّورة الخارجيّة للدولة كمصنعٍ يُنتج مواهب متنوّعةً في كلّ المجالات.
5. الاستقرار الاقتصادي وتمكين الأجيال المقبلة
لا يساهم بفاعليةٍ في تنمية أيّ دولةٍ إلّا سواعد أبنائها، ومع زيادة برامج التّدريب، والتّوظيف المتنوّعة، ورفع حصص الإماراتيين من وظائف القطّاع الخاصّ فهذا يخلق جيلاً أكثر كفاءةً وموهبةً ومتعدّد المهارات، وهو الذي سيساهم في التّنمية المستقبليّة الشّاملة للدّولة بعد أن يُصبح أكثر قوّةً ومقدرةً في كلّ المجالات.
كما يساهم توطين الإماراتيين في الوظائف في القضاء التامّ على البطالة، والاستقرار الاقتصاديّ طويل الأمد، والاعتماد على مصادر أخرى من الدّخل بخلاف النّفط والغاز، وزيادة القدرة على مواجهة التّحدّيات الاجتماعيّة المختلفة.
6. الأمن السياسي
عندما يعمل المواطن بشكلٍ جيّدٍ، ويكون له دورٌ إيجابيّ في الاقتصاد، فهذا يعني أنّه سوف يكون أكثر استقراراً وإيجابيةً من النّاحية السياسيّة، فعندما يشعر المواطن أنّه محلّ تقديرٍ ودعمٍ واحترامٍ وتشجيعٍ، فسوف يساهم بفاعليةٍ في الاستقرار السّياسي للبلاد.
كما يساهم التّوطين في الاستقرار السياسي عبر القضاء على احتكار عرقياتٍ معيّنةٍ لصناعاتٍ محدّدةٍ أو للقطاع الخاصّ ككل، وهو الأمر الذي كان من شأن انتشاره أن يهدّد الأمن السّياسي والاقتصادي للبلاد، لذا وجود الإماراتيين في القطاع الخاصّ يضمن عدم احتكار أقليةٍ عرقيةٍ لصناعةٍ حيويةٍ قد تتسبّب في أيّ وقتٍ في نزاعٍ سياسيّ أو اقتصاديّ.
7. الفخر الوطني
وأخيراً يضمن توطين الإماراتيين في وظائف القطّاع الخاصّ أن يكون لديهم المزيد من السّلطة والتحكّم في مقدّرات بلادهم، كما يزيد الاعتراف بهم من قبل الكيانات الدّولية الكبرى والشّركات العالمية، وترتفع قيمة المواطن في أعين الجميع بما فيهم نفسه ذاتها، كما يضمن التّوطين تكافؤ الفرص، والقضاء على العزلة الإماراتية، ويعزّز من الانسجام الشّامل في أنحاء الدّولة.
شاهد أيضاً: 5 خطوات ضرورية لكل ريادي يسعى لتحقيق الاستدامة في الإمارات
هل ساهم التوطين في تعزيز القطاع الخاص في الإمارات؟
قد يتوقّع البعض أنّ إقحام الإماراتيين في القطاع الخاصّ بعد سنواتٍ من سيطرة المغتربين والأجانب قد يزعزع من القطّاع الخاصّ، ويقلّل من قيمته ويعيق انتشاره ومساهمته في الاقتصاد، ولكن هذا لم يحدث على الإطلاق، فرغم أنّ التّوطين جاء كمبادرةٍ بالفعل لصالح الإماراتيين، إلّا أنّه لم يعيق مطلقاً القطّاع الخاصّ بل تسبّب له في مجموعةٍ من الفوائد، أهمها:
- سهولة الوصول إلى المواهب المحلّية، والتي تعرف أكثر من غيرها الثّقافة المحلّية ومتطلّبات السّوق وما الأكثر فاعليةً في نشر المنتجات والخدمات.
- زيادة العقود والشّراكة الحكومية، فأصبح التّوطين من الشّروط الأساسيّة لشركات القطّاع الخاصّ التي ترغب في الدّخول بشراكةٍ مع الحكومة في المشروعات الكبرى؛ وهي التي تكون أكثر ربحيةً، وتعزّز من نموّ أعمال القطاع الخاصّ، وتؤكّد ثقة الحكومة في الشّركة.
- تعزيز السمعة الإيجابيّة، حيث كلّما زاد توطين الإماراتيين في الشّركة، تعزّزت سمعتها السّوقية واجتذبت المزيد من العملاء والمستثمرين.
- الدّعم الحكومي، حيث تدعم الحكومة الشّركات التي توظّف الإماراتيين بمجموعةٍ من الحوافز الماليّة والبرامج التّدريبية مع سهولةٍ في الوصولِ للمواردِ التي تساعد تلك الشّركات في الازدهارِ.
شاهد أيضاً: 64% من المؤسسات في الإمارات تتجه لاعتماد الروبوتات في عمليات التوظيف
وفي المقابل فإنّ هناك عقوباتٌ وغراماتٌ مفروضةٌ على الشّركات التي تمتنع تماماً عن توظيف الإماراتيين بما قد يهدّد تواجدها في البلاد، وقد ساعد هذا بشدّةٍ في الحفاظ على الهويّة، وتعزيز النّموّ الاقتصاديّ، ومحاربة البطالةِ، بالإضافة لزيادة الشّعور بالمسؤوليّة الاجتماعيّة الموّزعة بين القطّاعين العام والخاصّ، وتحقيق الرّخاء وبناء أمٌةٍ قويّةٍ.