الثورة الصناعية الرابعة على مائدتك: مستقبل الغذاء
للتّقنيّات النّاشئة علاقةٌ وثيقةٌ بإنهاء الجوع وتعزيز الأمن الغذائيّ، لا تقلّ أهمّيّةً عن علاقتها بصحّتنا وسعادتنا

في كلّ مخزنٍ ومطبخٍ وسوقٍ في منطقة الخليج العربيّ، توجد منتجاتٌ غذائيّةٌ مستوردةٌ من شتّى أنحاء العالم، من الأجبان إلى الشّوكولاتة والحبوب. وتستورد المنطقة أكثر من 80% من احتياجاتها الغذائيّة. غير أنّ المملكة العربيّة السّعوديّة تعدّ من أكبر الدّول المنتجة للغذاء محلّيّاً في المنطقة، ومن شأن الدّعم التّكنولوجيّ أن يعزّز هٰذا التّقدّم.
وفي المملكة، نعدّ أيضاً من أوائل المتبنّين عالميّاً للتّقنيّة، حيث نوظّف "إنترنت الأشياء" (IoT)، والرّوبوتات، وتقنيّة "بلوك شين" (Blockchain)، والمسح الجيولوجيّ باستخدام الطّائرات دون طيّارٍ، والذّكاء الاصطناعيّ (AI) من أجل رفع كفاءة الإنتاج، وتقليل التّكاليف، وتعزيز الاستدامة. وقد صنّف مؤشّر الجاهزيّة لتبنّي التّقنيّات النّاشئة لعام 2025 المملكة بنسبةٍ تقارب 75% في مستوى اعتماد الجهات الحكوميّة للتّقنيّة.
ويسهم اجتماع هٰذين العاملين في دفع المملكة لتكون في طليعة المنطقة في تشكيل مستقبل الغذاء. فـ"الثّورة الصّناعيّة الرّابعة" (4IR)، وهي المصطلح الّذي يطلق على المرحلة التّالية من رقمنة القطاع الصّناعيّ، تتيح فرصاً واعدةً في مجال الأغذية أيضاً. وتشير البيانات العالميّة إلى أنّ دمج تقنيّات الثّورة الصّناعيّة الرّابعة مثل "الواقع المعزّز"، و"الذّكاء الاصطناعيّ لتوقّع الأحوال الجوّيّة"، وأنظمة التّتبّع والشّفافيّة، والحلول الذّكيّة لسلاسل الإمداد، وتقنيّات "إنترنت الأشياء" ضمن أنظمتنا الغذائيّة، قادرٌ على تحويل الزّراعة لتنتج ما يصل إلى 70% من غذاء 9.1 مليار إنسانٍ بحلول عام ٢٠٥٠.
طالع أيضاً: وصفةٌ للنّموّ: كيف تختار شريك الامتياز؟
تولي "الاستراتيجيّة الصّناعيّة الوطنيّة" في المملكة العربيّة السّعوديّة، الّتي أطلقت عام 2023 تحت إشراف "مجلس الشّؤون الاقتصاديّة والتّنمية"، اهتماماً خاصّاً بقطاع الغذاء. لم تعد المزارع العموديّة متعدّدة الطّبقات الّتي تستهلك كميّاتٍ أقلّ من المياه، أو اللّحوم المنتجة في المختبرات، أو حتّى الخيار الّذي يخبر المزارع بموعد نضوجه، من ضرب الخيال العلميّ؛ بل أصبحت تطبيقاتٍ عمليّةً في عصرنا، تغيّر وسائل الإنتاج نحو الأفضل.
تكنولوجيا رفيعةٌ، ونكهةٌ رفيعةٌ
تنعكس هٰذه التّحوّلات على مختلف جوانب قطاع الأغذية، بما في ذٰلك صناعة البسكويت والوجبات الخفيفة. ومن أبرز المبادرات الحديثة في المملكة مشروع "حصر الموارد الوراثيّة النّباتيّة"، الّذي يشمل تحديد وتقييم وتسجيل محاصيل القمح والشّعير للأجيال الحاليّة والمستقبليّة. وتسهم هٰذه البيانات في مرحلة الإنتاج في تعزيز الزّراعة الدّقيقة من خلال مراقبة الغلال، وتشخيص الآفات، وقياس رطوبة التّربة، وتحديد موعد الحصاد، ومتابعة الحالة الصّحّيّة للمحاصيل.
وعند تسخير الذّكاء الاصطناعيّ في هٰذه المنظومة، تتولّى الحسّاسات مراقبة درجة الحرارة والرّطوبة وكمّيّة ضوء الشّمس في مزارع الإنتاج، وعلى امتداد سلسلة القيمة، ما يعزّز الكفاءة. وتسهم الزّراعة التّجديديّة في التّخفيف من تغيّر المناخ والحدّ من خسائر التّنوّع البيولوجيّ من خلال تحسين الممارسات الزّراعيّة. وفي أثناء عمليّة الإنتاج، تقلّل تقنيّات الثّورة الصّناعيّة الرّابعة من فقدان الطّعام عبر أنظمة تفريغٍ معياريّةٍ تقلّل الإجهاد الميكانيكيّ، وتخفّض نسب التّكسّر. وتتيح الأنظمة الذّكيّة تعديل الإنتاج حسب الحمولة، ممّا يمنّح مرونةً أكبر للعمليّة. كما تضمن السّيطرة الدّقيقة على درجة الحرارة وتدفّق الهواء بيئة إنتاجٍ مستقرّةً وقابلةً للتّوقّع تحسّن من الجودة. وحتّى في التّغليف، تشهد الابتكارات تطوّراً ملموساً يضمن استخدام موادّ قابلةٍ للاسترجاع، أو الاستخدام المتكرّر، أو التّحلّل العضويّ، حفاظاً على صحّة الكوكب.
لٰكن حين يتعلّق الأمر بالوجبات الخفيفة، فإنّ التّركيز يمتدّ ليشمل الصّحّة الشّخصيّة أيضاً. فمن الضّروريّ أن نفهم العلاقة الوثيقة بين الغذاء والعاطفة والرفاه. رائحة البسكويت الطّازج، وهي تنبعث من فرنٍ قريبٍ، صوت القرمشة عند فتح كيس رقائق البطاطا، ملمس التّمر النّاضج في اليد، وبرودة أولى ملعقةٍ من المثلّجات على اللّسان، كلّها تذكّرنا بأنّ الأكل تجربةٌ حسّيّةٌ متكاملةٌ، لا تقتصر على الطّعم، بل تشمل البصر والشّمّ والسّمع واللّمس أيضاً.
ومع خطواتنا المتسارعة نحو المستقبل، فإنّ فهماً شموليّاً لكيفيّة تسخير التّقنيّة عبر سلسلة القيمة "من المزرعة إلى المائدة" لا يمثّل فقط خيّاراً تجاريّاً أذكى، بل يسهم أيضاً في تحسين كفاءة أنظمتنا الغذائيّة. وهٰذا بدوره يعزّز الأمن الغذائيّ للدّولة والمنطقة، ويحسّن كذٰلك صحّة المستهلك وجودة تجربته مع الطّعام.
عن الكاتب
محمد العقيل هو الرئيس التنفيذي لشركة "شركة الصناعات الغذائية المتحدة" (Deemah).