تعزيز الذّاكرة: طرق علمية تغيّر قواعد اللّعبة
الكتابةُ اليدويّة ليست مجرّد عادةٍ عابرة، بل هي أداةٌ جبّارة تعين العقل على استيعاب الأفكار وترسيخها في الذّاكرة
عندما أتيحت لي الفرصة للتّحدث في حفلٍ للجوائز قبل عدة سنواتٍ، شعرت ببعض الارتباك بسبب العدد الكبير من الحضور الّذين كانوا يلتقطون صوراً لشرائح العرض الخاصة بي. كانت تلك لحظةً مثيرةً ومليئةً بالتّحدي، لكن ما لفت انتباهي أكثر هو ردّ فعل الجّمهور عند مناقشتي للموضوعات المختلفة، مثل تأثير الاجتماعات على الإنتاجيّة. ففي تلك اللّحظة، لم يكن من المفاجئ ذكر أنّ الأبحاث تشير إلى أنّ الاجتماعات قد تؤدّي فعلاً إلى تقليل مستوى الذّكاء والإبداع لدى المشاركين.
فقد وجدت دراسةٌ أجريت عام 2012، ونُشرت في "محاضر الجّمعيّة الملكيّة في لندن" (Transcripts of the Royal Society of London) إنّ الاجتماعات، وطريقة تصرّف الأشخاص فيها أحياناً، يمكن أن تؤدّي إلى فقدانٍ مؤقّتٍ لنقاط الذّكاء، لذا، حقيقة أنّ معظم النّاس يرون أنّ الاجتماعات مضيعةٌ للوقت ليست غريبةً.
كذلك في تحليلٍ شاملٍ أجري عام 2022 لأكثر من عقدٍ من الدّراسات، ونشر في "مجلة أبحاث الأعمال" (Journal of Business Research)، وجد أنّ 90% من الموظّفين يعتقدون أنّ الاجتماعات "مكلّفةٌ" و"غير منتجةٍ". في الحقيقة، هم على حقٍّ، فعندما تمّ تقليل عدد الاجتماعات بنسبة 40%، زادت إنتاجيّة الموظّفين بنسبة 70%.
كلتا النّتيجتين تؤكّدان ما يعتقده معظم النّاس بشأن الاجتماعات. وفي معظم الحالات، الشّخص الوحيد الّذي يعتقد أنّ الاجتماع مهمٌّ هو الشّخص الّذي دعا إليه. لذلك، أجريت تحليلاً صغيراً، إذ أرسلت بريداً إلكترونيّاً إلى شخصين قابلتهما بعد الحفل. أحدهما كان الشّخص الوحيد الّذي لاحظته يأخذ ملاحظاتٍ بدلاً من التقاط الصّور. وسألتهما عمّا يتذكّرانه من كلمتي الرّئيسيّة. وكما توقّعت تماماً، الرّجل الّذي التقط صوراً لم يتذكّر أيّ شيءٍ تقريباً من المحتوى. لكنّه تذكّر المقطع المصوّر الّذي عرضته.
أمّا الشّخص الذي دوّن الملاحظات، فلم يتذكّر فقط ما قلته عن الاجتماعات، بل تذكّر أيضاً كيف أنّ أسلوب التّعليقات المتوازنة بين الإيجابيّ والسّلبيّ نادراً ما ينجح في تصحيح السّلوك السّلبيّ، وكيف أنّ إزالة موظّفٍ سامٍّ من فريقٍ يساهم في نجاح الفريق أكثر من إضافة موظّفٍ متميزٍ.
أفضل طريقةٍ لتحسين الاسترجاع والاحتفاظ بالمعلومات
قام الباحثون في دراسةٍ نشرت في مجلة "علم النّفس التّجريبي: التّطبيقيّ" (Journal of Experimental Psychology: Applied) بتقييم فعاليّة مجموعةٍ من الاستراتيجيّات لتعزيز الذّاكرة: التّقاط الصّور، كتابة الملاحظات على الكمبيوتر، وكتابة الملاحظات باليد. كما هو المتوقع أنّ الأشخاص الذين كتبوا الملاحظات يدويّاً حصلوا على أفضل النّتائج في اختبارات الاسترجاع والفهم الّتي أجروها لاحقاً، حتى عندما سُمح للأشخاص الّذين التقطوا صوراً، أو كتبوا الملاحظات نصيّاً بمراجعة الملاحظات قبل إجراء الاختبارات.
ومن المثير للدّهشة، أن وجد الباحثون أيضاً أن "المتعلّمين لم يكونوا على درايةٍ بفوائد كتابة الملاحظات يدويّاً، بل كانوا يعتقدون أنّ جميع الطّرق الثّلاث كانت فعّالةً بنفس القدر".
إشارات الدماغ
لماذا تعتبر كتابة الملاحظات باليد فعّالة جداً؟ والإجابة وفقاً للباحثين: فأظهرت الدّراسات أنّ الأشخاص الّذين يكتبون الملاحظات بخط اليدّ يتشتّت انتباههم أقلّ من الآخرين، ممّا يساعدهم في الاحتفاظ بشكلٍ أفضل بمحتوى المحاضرة.
وهذا منطقي؛ إذ إنّ أخذ صورةٍ لا يتطلب أيّ "مشاركةٍ عقليّةٍ". فليس عليك التّفكير أو دمج المعلومات أو تحديد كيفيّة تصويرها باختصارٍ. أمّا كتابة الملاحظات – مثل كتابة نصّ محاضرةٍ أو تسجيل اجتماعٍ – فهي عمليّةٌ أكثر من كونها تمريناً ذهنيّاً. حيث يكون التّركيز هنا على الدّقة، وليس على حفظ المعلومات.
ربما لهذا السّبب يحمل رجل الأعمال الشّهير ريتشارد برانسون، دفتر ملاحظاتٍ معه أينما ذهب. حيث أنّ تلخيص الأفكار أو وضع المفاهيم والكلمات بطريقتك الخاصة، بالإضافة إلى اتخاذ القرار ليس فقط بما ستكتبه، بل كيف ستكتبه، كلّها أشياء تنشّط أجزاءً مختلفةً من دماغك، ممّا يساعد في تحسين قدرتك على حفظ المعلومات واسترجاعها.
والدّراسات لم تنتهِ هنا، ووفقاً لدراسةٍ أخرى في "العلوم النّفسيّة" (Psychological Science)، أنّ الأشخاص الّذين يدرسون قبل النّوم، ثمّ ينامون، ويقومون بمراجعةٍ سريعةٍ في صباح اليوم التّالي زادت قدرتهم على التّذكّر والاحتفاظ بالمعلومات بنسبة 50%.
جرّب هذا الأسلوب: في المساء، راجع سريعاً الملاحظات الّتي كتبتها خلال اليوم. خصّص بضع دقائق لتتذكّر ليس ما دونته فحسب، بل لماذا تحتاج لهذه المعلومات كذلك؟ متى ستستخدمها؟ وكيف يمكن أن تُحدث فرقاً في حياتك المهنيّة أو الشّخصيّة؟ ثم قم بمراجعةٍ سريعةٍ في الصّباح. إلّا إذا كنت من الأشخاص الذين يدوّنون الملاحظات بشكلٍ مفرطٍ، فإنّ كلا التّمرينين سيستغرقان دقيقةً أو دقيقتين فقط.
إذا كان ما كتبته يستحق الانتباه، فهو يستحق أن تتذكره. والأهمّ من ذلك، أن تستخدمه بشكلٍ فعّالٍ. لأن المعرفة لا تكون مفيدةً إلّا إذا قمت باستخدامها بطريقةٍ تجعلها ذات قيمة.