رحلة نحو الإلهام: كيف يكون السفر محفزاً للإبداع؟
قد يُلهمك مكان جديد بفكرة جديدة، لذلك تجاوز حدود بيئتك اليوميَّة في رحلةٍ للبحث عن الابتكار.
بشرى سارة لروَّاد الأعمال والمبدعين، وكلِّ من يتطلَّع إلى إشعال شرارة الإبداع لديه: اليابان وكوريا الجنوبيَّة أعلنتا مؤخَّراً عن إطلاق تأشيراتٍ للرَّحَّالة الرَّقميين، ممن يرغبون في تجديد أُفقهم اليوميّ لفتراتٍ تمتدُّ لعدَّة أشهرٍ.
قد يظنُّ بعضهم أنَّ ريادة الأعمال والانتقال من الرَّتابة المألوفة لا يتقاطعان، ومع ذلك تكمن فوائد جمَّةٌ في قضاء بعض الوقت ضمن بيئةٍ جديدةٍ، وفي الأحوال المثاليَّة ضمن ثقافةٍ مغايرةٍ، خاصَّةً عندما يكون الهدف هو التَّجديد والابتكار. [1]
فلنتأمَّل أوّلاً في بعض العوامل التي تسهِّل علينا هذا الانتقال الهادف، ولماذا يعدُّ ذلك مثمراً للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، لقد كشفت لنا جائحة كوفيد-19 أنَّ العمل عن بعد لا يُعدُّ مجرَّد إمكانيَّة، بل يحمل فوائد عديدةً تشمل المرونة وزيادة الإنتاجيَّة، كما أنَّ هناك توفُّراً لا نهائيَّاً من الأدوات الرَّقميَّة التي تسهّل العمل الإبداعيَّ، بدايةً من برنامج Zoom وليس انتهاءً بتطبيق Slack.
تلك الرَّغبة العارمة في السَّفر بعد الجائحة، التي شهدت كيف أنَّنا فقدنا بسرعةٍ فائقةٍ قدرتنا على التَّجوال في عام 2020، تظلُّ حاضرةً بقوَّةٍ في نفوس الكثيرين منَّا، وبعيداً عن مجرَّد الشَّوق إلى حريَّة التَّنقُّل، أظنُّ بأنَّنا أدركنا الخسارة الحقيقيَّة للتَّحفيز الذّهنيّ الذي يأتي عادةً مع السَّفر في الكثير من الأحيان، كما سأتناول بالبحث والتَّفصيل.
وفي النِّهاية، من المبهج أن نرى دولاً متعدّدةً وهي تعود لتفتح أبوابها للأجانب بأريحيَّةٍ، إذ إنَّ من شأن التَّسهيلات مثل تأشيرات الرَّحَّالة الرَّقميين أن تعود بالنَّفع على الطَّرفين، فالدَّولة المضيفة تستفيد من عائدات السِّياحة، في حين يمكن للمسافر أن يغترفَ من ينابيع الإلهام والأفكار العمليَّة، محقِّقاً بذلك أرباحاً جمَّةً، شريطة أن يحدِّد أهدافه بدقَّةٍ ويتَّبع نهجاً مدروساً خلال رحلته.
شاهد أيضاً: التغلب على التجمّد الفكري بنشاطٍ طفوليٍّ يُعزّز الإبداع والإنتاجية
لماذا يعد السفر محفزاً للإبداع؟
أحد أبرز التَّحدِّيات التي تواجه روَّاد الأعمال هو تطوير فكرةٍ مبتكرةٍ؛ فكرةٌ تقدِّم منتجاً أو خدمةً تحلّ مشكلةً مهمَّةً بأسلوبٍ غير مسبوقٍ لفئةٍ معينةٍ من النَّاس، وقد كشفت الدّراسات عن وجود علاقةٍ متينةٍ بين الفضاء الفيزيائيّ وأبعادٍ متنوِّعةٍ من الإبداع.
لذلك يُنصح المبدعون من كلِّ الفئات بأن يتخطُّوا حدود بيئتهم اليوميَّة في رحلة بحثٍ عن الإلهام، وهذه النَّصيحة تلقى صدىً خاصَّاً بين الرُّوائيين وكتَّاب السِّيناريوهات على سبيل المثال، وذلك في محاولاتهم لتجاوز جدار الجمود الإبداعيّ، ولا يجد المرء غرابةً في أنَّ بعض الأفكار الرَّائدة للشَّركات النَّاشئة التي أحدثت ضجَّةً كانت مستلهمةً من رحلاتٍ أسَّسها أصحابها.
دعونا نأخذ مثالاً على ذلك شركة Uber، حيث وُلدت فكرتها من تجربة مؤسِّسيها عندما وجدوا أنفسهم عاجزين عن العثور على سيارة أُجرةٍ في ليلةٍ ثلجيَّةٍ بباريس، وتسلِّط هذه القصَّة الضَّوء على سبب كون السَّفر مصدر إلهامٍ، فقد تُصادفك احتياجاتٌ غير ملبَّاةٍ في الخارج لم تكن لتلحظها أو لم تكن لتعترض طريقك في محيطك الأصلي، ويُرجَّحُ أن يكونَ للمؤسِّسين وسائل نقلٍ متاحةً في بلدانهم، أو أنَّهم يستطيعون استخدام المواصلات العامَّة بيُسرٍ وسهولةٍ، لكنَّ الوضع لم يكن كذلك في عاصمة النُّور، ممَّا أدَّى إلى بزوغ فكرةٍ ثوريَّةٍ غيَّرت مجرى التَّاريخ.
وتتمثَّل إحدى المنافع المهمَّة للأسفار في ميدان ريادة الأعمال في الإلهام الذي يُماثل تأثير "لماذا لا نمتلك هذا بعد؟"، وبكلِّ بساطةٍ، قد تطالع نموذجاً تجاريَّاً قائماً أو إجراءً معيناً في دولةٍ أُخرى، فيُثيرُ بداخلك التَّساؤل حول عدم وجود مثيلٍ له في وطنك، ومن ثمَّ تقرِّر اتِّخاذ خطواتٍ فعليَّةً نحو تحقيق ذلك، ويرجَّح أنَّ خدمات مشاركة الأجرة الدُّوليَّة مثل GrabTaxi (التي تُعرف الآن باسم Grab) وEasyTaxi قد استُوحيت من فكرة Uber، وكذلك منصَّة Kiva للإقراض بين الأقران استُلهِمَت من خدمات الإقراض الصَّغير في شرق إفريقيا.
كذلك ارتفع الوعي بالصِّلة القائمة بين السَّفر والابتكار الإبداعيّ من خلال برامجَ مثل منحة Levy Inspiration من كليَّة Kellogg، التي تُقدِّم الدَّعم لطلاب الماجستير في إدارة الأعمال الطَّامحين لاستِقَاء الإلهام من خارج حدود معارفهم الاعتياديَّة، ومع ذلك يبقى هناك عنصرٌ أساسيٌّ يجب أن يأخُذَه الجميع بعين الاعتبار لاستثمار هذه الفُرص إلى أقصى حدٍّ.
شاهد أيضاً: جائزة نوبل: رحلة استثنائية في عالم الإبداع والتفوق الإنساني
التوجه الذهني: قطعة أساسية من اللغز
تتطلَّب منَّا الأدوات التي أوردناها سابقاً اعتناق توجُّهٍ ذهنيٍّ مغاير عندما نجد أنفسنا خارج دائرة الرَّاحة الخاصَّة بنا -توجُّهٌ يحوُّلنا إلى متعلِّمين أو مبتدئين متشوِّقين، وجزءٌ من هذا الانتقال يحدث بشكلٍ فطريٍّ عندما نواجه تحدِّياتٍ جديدةً بعيداً عن محيط الألفة- من العثور على وسائل النَّقل وشراء الضَّروريَّات، إلى التَّنقُّل عبر حواجز اللُّغة والثَّقافة.
لكنَّ القصَّة لا تنتهي عند هذا الحدِّ، أنا أتحدَّث عن بذل جهدٍ واعٍ لتنميَّة الإحساس بالتَّعاطُف وحتَّى الضَّعف، هذا النَّهج يمكن أن يفتح أعينكُم على ممارساتٍ وإبداعاتٍ قد تغيب عنكم، على سبيل المثال: القدوم من بيئةٍ تتميَّزُ بالوفرة، كالولايات المتَّحدة، قد تجد نفسك أكثر قابليَّةً لإدراك كيف يمكن أن تحفِّز النُّدرة الابتكار في الهند، أو كيف تنعكس المرونة في العمل بأقلِّ الإمكانيَّات إيجابيَّاً على شقِّ الطَّريق نحو النَّجاح.
هذا التَّوجُّه الذِّهنيُّ يدفعك كذلك لطرح أسئلةٍ مثل "لماذا؟" و"لماذا لا؟" بشكلٍ أكثر تواتُّراً من الذي قد تفعله في منزلك، ممَّا يُعيد إشعال شرارة الابتكار والإبداع مجدَّداً، والأهمُّ من ذلك، أنَّ هذه العقليَّة، مع الاعتماد على النَّفس في التَّنقُّل خلال تضاريسٍ جغرافيَّةٍ وثقافيَّةٍ مختلفةٍ، ستعزِّز أيضاً ثقتك بنفسك، ليس فقط في القدرة على الاعتماد على الذَّات بعيداً عن الوطن، ولكن أيضاً في الجرأة على خوض المخاطر لإبداع شيءٍ جديدٍ عند العودة، بمنظورٍ يركِّز على الإنسان.
وراء هذه الأفكار يقبع علمٌ راسخٌ وبحثٌ معمَّقٌ، ومثالٌ بارزٌ على ذلك "التَّفكير الجانبيُّ"، أو القدرة على معالجة المشكلات من منظوراتٍ جديدةٍ بهدف تحدِّي الافتراضات القائمة وابتكار حلولٍ غير تقليديَّة، وقد سلك هذا النَّهج بعضٌ من أكثر روَّاد الأعمال نجاحاً، أمثال مؤسِّسي Stitch Fix وCirque du Soleil.
أظهر الباحثون، بمن فيهم زميلي السَّابق في Kellogg، آدم غالينسكي، كيف أنَّ الانغماس في سياقٍ ثقافيٍّ أو بيئيٍّ مختلفٍ يمكن أن يوسِّعَ أفق تفكيرنا ويفتح أمامنا أبواباً جديدةً للإبداع، ويستند هذا التَّوسُّع الذِّهنيُّ إلى أساسٍ فسيولوجيٍّ، يُعرف باللّدونة العصبيَّة، أو قدرة الدِّماغ على تكوين اتصالاتٍ جديدةٍ استجابةً للتَّجارب والتَّحدِّيات الجديدة، وبالتَّالي الشُّعور بالقلق أو التَّوتِّر الذي قد تواجهه أثناء التَّنقُّل في بيئةٍ غير مألوفةٍ ليس إلَّا مؤشِّراً على نموِّك الشَّخصيّ، سواءً كان ذلك من النَّاحية النَّفسيَّة أو الفسيولوجيَّة.
شاهد أيضاً: الابتكار المدمر: كيف يمكن للأفكار المميزة أن تكون ثورةً؟
تنفيذ الفكرة بإتقانٍ
تُشير التَّوجيهات المذكورة أعلاه إلى نصائح عمليَّةٍ يمكن أن تُساعدَ في استخلاص الإلهام من خلال السَّفر، والآن إليك بعض الأساليب المحدَّدة لتحقيق ذلك:
- الغوص العميق خلال الزّيارة: لا تعتقد أنَّه من الضَّروريّ التَّوجُّه إلى أبعد نقطةٍ ممكنةٍ، وقد يكون السَّفر لمسافاتٍ طويلةٍ مفيداً، لكنَّ الأهمَّ هو الانخراط الكامل والتَّفاعل مع المكان الذي تختاره، سواءً كان ذلك عبر البحار أو عبر حدود الولاية، وهذا الانغماس هو ما سيفتح أمامك آفاقاً جديدةً للأفكار والإلهام.
- العناية بتوجُّهك الذِّهنيِّ: يتطلَّب الأمر أكثر من مجرَّد الوجود في مكانٍ جديدٍ، ومن الضَّروريّ أن تفتحَ عقلك بفعاليَّةٍ لرؤية الأمور من منظوراتٍ متنوِّعةٍ، لا تكتفِ بالمراقبة، بل انخرط في الفهم والاستقصاء وبناء العلاقات، واترك خلفك عقليَّة السَّائح، وتقمَّص دور المبتكر.
- الإعداد المُسبق: على الرَّغم من أهميَّة امتلاك عقليَّةِ المبتدئ، من الضَّروري الاستعداد جيداً قبل الرِّحلة من خلال الاطِّلاع على العادات والتَّقاليد الثَّقافيَّة، والحصول على مرشدٍ مناسبٍ، مثل: خريج من جامعتك يعيش في وجهتك المنشودة، إذ يمكن أن يجهِّزك لتجربةٍ ملهمةٍ وثريَّةٍ بالمعلومات وآمنةٍ أيضاً.
بهذه النَّصائح، لا يتبقى لي سوى أن أقولَ: استمتع برحلتك نحو الإلهام والابتكار!
لمزيدٍ من النصائح في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.