بيتشاي والعلماء: الذكاء الاصطناعي يقود الاقتصاد العالمي
"لا توجد تقنية ستُحدث تأثيراً على اقتصادك بقدر الذّكاء الاصطناعيّ"، هذا ما أكّده الرّئيس التنفيذي لغوغل وألفابيت في حديثه مع معالي وزير دولة الإمارات للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بُعد

هذا المقال متوفر أيضاً باللغة الإنجليزية هنا
انضمّ ساندر بيتشاي، الرّئيس التّنفيذيّ لغوغل، إلى معالي وزير دولة الذّكاء الاصطناعيّ والاقتصاد الرّقميّ وتطبيقات العمل عن بعدٍ، عمر سلطان العلماء، لمناقشة مستقبل الذّكاء الاصطناعيّ خلال حوارٍ افتراضيٍّ في القمّة العالميّة للحكومات 2025 بدبي.
ورغم أنّ الحوار تركّز على التّأثير الثّوريّ لتطوّر الذّكاء الاصطناعيّ والحوسبة الكمّيّة ورؤية غوغل التّكنولوجيّة الأشمل، فقد ألقى بيتشاي الضّوء على رحلته الشّخصيّة التي جعلته مناصراً للتّكنولوجيا، مشيراً إلى دوره الدّاعم للابتكار في إحدى أكبر شركات التّقنيّة عالميّاً".
أمضي في هذه الأيّام جزءاً كبيراً من وقتي في الذّكاء الاصطناعيّ. إنّ وتيرة التّقدّم ومدى عمق هذه التّكنولوجيا، إنّها المرّة الأولى الّتي أشعر فيها بأنّه، حتّى لو رحلت لبضعة أسابيع، سأجد نفسي مضطرّاً للّحاق بركب التّطوّرات الّتي وقعت خلال تلك الفترة. نادراً ما نجد تكنولوجيا تتقدّم بهذه السّرعة".
أشار بيتشاي إلى أنّ الاختراق الّذي حقّقته "ديب سيك" (DeepSeek) يؤكّد مدى إمكانيّة وصول الذّكاء الاصطناعيّ وتأثيره. وقال: "أعتقد أنّ فريق "ديب سيك" قد أنجز عملاً مميّزاً؛ لكنّ بالنّسبة لي، تكمن الأهمّيّة في الدّروس المستفادة والتّأمّل في مدى العولمة الّتي يشهدها تطوّر الذّكاء الاصطناعيّ. إنّه يحدث في كلّ ركنٍ من أركان العالم، في لحظةٍ ملؤها الحماس والتّحوّل. يمكنك أن ترى أنّ هناك نماذج رائدةً تتطوّر في شتّى البلدان. وما أثّار اهتمام النّاس في "ديب سيك" هو إمكانيّة امتلاك نموذجٍ فعّالٍ ومفتوح المصدر يتيح للجميع الوصول إليه على الفور، ممّا يولّد الكثير من الحماس".
في سياقٍ متّصلٍ، أشار العلماء إلى أنّ حوالي 8.5 بليون عمليّة بحثٍ تجرى يوميّاً (حيث تزعم غوغل أنّها تحظى بنحو 49% من حركة المرور الشّهريّة على الإنترنت)، فاستفسر عمّا إذا كان صعود منصّات الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ مثل "تشات جي بي تي" (ChatGPT) يشكّل تهديداً لهيمنة غوغل في مجال البحث. فردّ بيتشاي بثقةٍ أنّ دور غوغل كمزوّدٍ للمعلومات أصبح أهمّ اليوم من أيّ وقتٍ ماضٍ، مؤكّداً: "نحن في مجال تقديم المعلومات".
إنّ احتياجات النّاس للمعلومات في تزايدٍ مستمرٍّ. لذا، لا أرى هذا الأمر كصراعٍ بمفهوم الصّفريّة؛ إذ أنّنا نشهد نموّاً قويّاً في عمليّات البحث. لقد طوّرنا مؤخّراً خدمة البحث بشكلٍ جذريٍّ من خلال مقتطفات مدعومة بالذّكاء الاصطناعيّ، وأثبت ذلك من خلال تزايد تفاعل المستخدمين، ممّا أدّى إلى ارتفاعٍ ملحوظٍ في استخدام البحث عبر مختلف الفئات".
وضّح بيتشاي أنّه من منظورٍ بعيد المدى، سيساهم الذّكاء الاصطناعيّ في توسيع آفاق الفرص ليس لفائدة غوغل وحدها، بل لكلّ من يعمل في هذا المجال. وأضاف: "مع القدرات الذّاتيّة الّتي ستكتسبها هذه التّكنولوجيا، لن تقتصر على الإجابة عن الأسئلة فحسب، بل ستتيح إنجاز المهامّ. أعتقد أنّها ستعزّز من إنتاجيّتنا في شتّى المجالات. وبالنّظر إلى حجم هذا المشهد، أتوقّع أن نظلّ لاعباً رئيسيّاً، وإن كان من الطّبيعيّ أن يبرع آخرون في هذا المجال كما حدث مع الإنترنت".
رؤيةٌ مستقبليّةٌ للذّكاء الاصطناعيّ
شدّد بيتشاي على أنّ الحكومات "تسعى لاغتنام فرصة الذّكاء الاصطناعيّ"، مثنّياً على رؤى دولة الإمارات الّتي أظهرت بعد نظرٍ استثنائي، مستشهداً بتعيين العلماء وزيراً للذّكاء الاصطناعيّ منذ عام 2017، وبالمبادرة المؤخّرة لمركز دبي للذّكاء الاصطناعيّ (DCAI) لتدريب مليون فردٍ على هندسة المطالبات خلال السّنوات الثّلاث المقبلة، كدليلٍ على سرعة تبنّي الدّولة للتّكنولوجيا".
"لن توجد تكنولوجيا تؤثّر على اقتصادك كما يفعل الذّكاء الاصطناعيّ. لذا، احرص على استثمار البنية التّحتيّة لبلدك، وتطوير مهارات شعبك، وفتح البيانات في القطاع العامّ، واستغلالها لإيجاد حلولٍ مدعومةٍ بالذّكاء الاصطناعيّ".
وأشار إلى أنّ الاستخدام المسؤول للذّكاء الاصطناعيّ أمرٌ لا غنى عنه. "من ناحية المخاطر، يتحتّم علينا جميعاً التّعامل بمسؤوليّةٍ مع هذه التّكنولوجيا القويّة الّتي قد تتحسّن ذاتيّاً. لذا يجب تنمية الكفاءات اللّازمة لتقييم المخاطر واتّخاذ الإجراءات الملائمة مع مرور الوقت، مع ضرورة وضع معايير عالميّةٍ لهذا الغرض".
ثمّ طرح العلماء سيناريو افتراضيّاً على بيتشاي، مستفسراً عمّا إذا كان سيتّخذ القرارات الّتي سيتّخذها لو كان في منصب الوزير، فردّ بيتشاي بتأكيده على أربعة محاور رئيسيّةٍ: دعم البنية التّحتيّة، والتّأهيل، وإتاحة البيانات، والتّنظيم المتوازن".
أعتقد أنّ الكثير يقلّل من أهمّيّة الانتقال في البنية التّحتيّة. كما أنّ تأهيل الكوادر يمثل تحدّياً محوريّاً، إذ يتطلّب جهداً مضاعفاً لمساعدة السّكّان على الاستعداد للتّغييرات. والأهمّ من ذلك، هو تشجيع الحكومات على فتح البيانات، ممّا يمثّل فرصةً استراتيجيّةً. وأخيراً، لا بدّ من تحقيق تنظيمٍ متوازنٍ. كلّ هذه العناصر يجب أن تكون داخل الأدوات المتاحة، وقبل كلّ شيءٍ، يجب أن نحتضن الابتكار بحماسٍ، فإنّه يتقدّم بوتيرةٍ سريعةٍ".
مستقبل التّنقّل والحوسبة
انتقل الحوار إلى مناقشة مستقبل تقنيّة القيادة الذّاتيّة التّابعة لشركة ألفابيت، حيث يشار إليها فيما بعد باسم وايمو (Waymo)، وكيفيّة تسريع تبنّيها. وأفاد بيتشاي قائلاً: "لقد كنت متحمّساً جدّاً لـ وايمو منذ فترةٍ، وأعتقد أنّنا نحرز تقدّماً ملموساً خلال الأشهر الـ12 الماضية"، مشدّداً على أنّ الشّركة أحرزت تقدّماً في تأمين سلامة تقنيّات القيادة الذّاتيّة.
ووضّح أنّ إنجازات الذّكاء الاصطناعيّ كانت المحرّك الأساسيّ لنجاح وايمو، حيث قال: "بفضل خبرتنا الطّويلة في الذّكاء الاصطناعيّ، تمكّنّا من تحقيق أكثر من 33 مليون ميلٍ من الرّحلات، وسجّلت وايمو انخفاضاً بنسبة 78% في الحوادث المسبّبة للإصابات مقارنةً بالسّائقين البشريّين. وفي العام الماضي، نقلت وايمو أكثر من أربعة ملايين راكبٍ، ونحن الآن نسجّل أكثر من 150,000 رحلةٍ مدفوعةٍ أسبوعيّاً في مدنٍ مثل سان فرنسيسكو وفينيكس ولوس أنجليس".
ومستقبلاً، كشف بيتشاي عن خطط الشّركة للتّوسّع خارج الولايات المتّحدة، قائلاً: "نحن بصدد التّوسّع، إذ نستهدف دخول 10 مدن جديدةٍ في عام 2025، كما سنجري أوّل تجربةٍ دوليّةٍ في اليابان". وفي ردٍّ فعليٍّ سريعٍ، دعا العلماء إلى وضع الإمارات ضمن هذه الخطّة، فأجاب بيتشاي: "نتطلّع إلى ذلك".
كذلك، تساءل الوزير عن فرص ظهور وظائف جديدةٍ مع انتشار تقنيّات القيادة الذّاتيّة، وما إذا كانت المنصّات الحديثة قد تجعل من التّنقّل تجربةً أكثر إثارةً. وقارن بيتشاي هذا التّطوّر بما شهدته بدايات الإنترنت، مشيراً إلى أنّ الوظائف تطوّرت بشكلٍ ملحوظٍ خلال العقود الماضية".
وفقاً لدراسةٍ محدّثةٍ من معهد ماساتشوسيتس للتّكنولوجيا (MIT) أجراها الاقتصاديّ ديفيد أوتور، تبيّن أنّه منذ عام 1940، ظهرت 60% من الوظائف الجديدة الّتي لم تكن موجودةً سابقاً. فتخيّل، بعد خمس سنواتٍ من بدء عصر الإنترنت في عام 2000، لم يكن بالإمكان تصوّر وجود "مبدعي محتوى على يوتيوب". واليوم، يوجد ملايين من المبدعين. وهذا يدلّ على أنّ عالم الذّكاء الاصطناعيّ، كما حدث مع الإنترنت، سيفتح آفاقاً جديدةً وفرصاً متنوّعةً".
وأكّد بيتشاي أنّ الذّكاء الاصطناعيّ، رغم ما سيحدث من تغيّراتٍ جذريّةٍ، سيفتح أيضاً آفاقاً جديدةً في مختلف المجالات، قائلاً: "على المدى البعيد، ستزداد قيمة التّجارب والتّفاعلات الإنسانيّة. لقد شهدنا ذلك مع لعبة الشّطرنج، الّتي أصبحت أكثر شعبيّةً من أيّ وقتٍ ماضٍ. رغم انتشار التّكنولوجيا وتعزيزها للإنتاجيّة، إنّها ستحدث اضطراباتٍ، وتفتح العديد من الفرص الجديدة، كما يتجلّى في نماذج إنشاء الفيديو الّتي تمكّن عدداً أكبر من النّاس من التّعبير الإبداعيّ".
الحوسبة الكمّيّة
تناول الطّرفان أيضاً موضوع الحوسبة الكمّيّة، وهو مجالٌ سريع التّطوّر في علوم الحاسب يعد بإيجاد حلولٍ لمشاكل لا تستطيع الحواسب الفائقة معالجتها. قال بيتشاي: "إنّ التّقدّم في مجال الحوسبة الكمّيّة ملموسٌ ومثيرٌ. لقد عملنا عليه منذ فترةٍ طويلةٍ، وأعتقد أنّنا نمتلك الآن الجهود الأكثر تقدّماً على مستوى العالم".
وأضاف: "لقد أجرينا مؤخّراً حساباً باستخدام الحوسبة الكمّيّة في خمس دقائق، وهي عمليّةٌ كان من المفترض أن تستغرق أسرع الحواسب الفائقة في العالم أكثر من 10 سبتيليون سنةٍ".
ومع ذلك، أوضح بيتشاي أنّ الحوسبة الكمّيّة، رغم وعودها بالثّورة في عالم الحوسبة، لا تزال في مرحلةٍ مبكّرةٍ من حيث تنظيمها حكوميّاً، مؤكّداً أنّ أوّل محورٍ يجب معالجته هو مسألة التّشفير".
بعيداً عن ذلك، أشبه الأمر بالذّكاء الاصطناعيّ، حيث نحتاج إلى إنشاء بنى كمّيّةٍ لإجراء بحوثٍ رائدةٍ خلال الثّلاث إلى خمس سنواتٍ القادمة".
"مكافأة المخاطرة دون معاقبة الفشل"
تناول العلماء موضوع تشجيع الابتكار في عماد التّكنولوجيا الّتي يرأسها بيتشاي منذ عام 2015، فأوضح أنّ سرّ النّجاح لا يكمن في وصفةٍ سحريّةٍ، بل في مزيجٍ من العوامل الّتي جعلت من غوغل منارةً للمواهب".
لقد وضع مؤسّسونا إطاراً طموحاً للشّركة. كنّا نؤمن بضرورة إغفال المستحيل بشكلٍ صحّيٍّ. وعندما تشجّع الفرق على العمل على مشاريع جريئةٍ، حتّى وإن انتهت بالفشل، فإنّ الفائدة تكمن في تقليل حدّة المنافسة. سواءً كان الأمر يتعلّق بـ وايمو أو الحوسبة الكمّيّة أو الذّكاء الاصطناعيّ، فإنّ ذلك يجتذب أفضل العقول. وحتّى وإن لم يتحقّق الهدف المنشود، فإنّ التّجربة بحدودها تترك أثراً ثميناً".
وأضاف: "نحن نشجّع التّفاؤل، ونحثّ على تحمّل المخاطرة دون معاقبة الفشل. لطالما كانت التّجارب جزءاً أساسيّاً من منهجنا؛ فمثلاً، قبل عامين أسّسنا مجموعة مختبراتٍ صغيرةٍ لتمكين الفرق من ابتكار مشاريع جديدةٍ، ممّا أدّى إلى إطلاق NotebookLM العام الماضي، والّذي حظي باقتباسٍ كبيرٍ. إذاً، يجب الاستمرار في التّجريب والابتكار من الأساس".
وفيما يتعلّق بقرارات الشّركة حول الاستمرار في المشاريع أو إلغائها، أوضح بيتشاي أنّ ليس كلّ مشروعٍ يحقّق النّجاح، لكنّ الرّؤية والتّمييز في تقييم الأمور هما السّببان الرّئيسيّان للاستمرار أو التّوقّف".
عندما تولّيت منصب الرّئيس التّنفيذيّ في عام 2015، أعلنت أنّ غوغل ستكون معتمدةً على الذّكاء الاصطناعيّ، واتّبعنا نهجاً شاملاً، بدأنا فيه بتطوير وحدات المعالجة التّنسوريّة في عام 2017. إنّ اتّخاذ رهاناتٍ تكنولوجيّةٍ طويلة المدى، سواءً في الذّكاء الاصطناعيّ أو وايمو أو الحوسبة الكمّيّة، يؤكّد أنّه في النّهاية ستثمر الجهود. عند تلك الطّبقة التّأسيسيّة، يجب أن يكون لديك نظرةٌ بعيدة المدى وثباتٌ لا يتزعزع".
وأشار إلى أنّ بعض التّكنولوجيّات في طبقة التّطبيقات يجب تقييمها على حسابٍ خاصٍّ؛ "على مستوى التّطبيقات، قد ينجح بعضها، ويفشل بعضها الآخر. يتطلّب الأمر تمييزاً لمعرفة متى يجب الاستمرار؟ ومتى ينبغي تعديل النّهج؟ ليس من الضّروريّ أن نكون على حقٍّ دائماً، ولكنّ تلك العمليّة هي الّتي تبقي الشّركة نابضةً بالحياة ودافعاً للابتكار المستمرّ".
"ابحث عمّا يلهمك"
في ختام الحوار، تساءل العلماء عن مسيرة بيتشاي الشّخصيّة الّتي نقلته من قريةٍ صغيرةٍ في الهند إلى منصب قائدٍ لإحدى أكبر الشّركات عالميّاً. واستذكر بيتشاي تلك اللّحظات الّتي شكّلت شغفه بالتّكنولوجيا، قائلاً: "كنتُ أتشوّق بشغفٍ لاختبار التكنولوجيا، إذ كانت كلّ لحظةٍ أتفاعل فيها معها تحمل سحراً خاصاً. رأيتُ بأمّ عيني كيف غيّرت التكنولوجيا حياتي وحياة من حولي، ومن هنا وُلِد شغفي بالعمل على مشاريع تسهّل وصولها إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس".
وأشار إلى أنّ الشّغف بمهمّةٍ ساميةٍ والتّحدّي المستمرّ مع أشخاصٍ متميّزين هما ما دفعاه للنّموّ والتّطوّر؛ "عندما قرأت بيان مهمّة غوغل الّذي ينص على جعل المعلومات متاحةً للجميع، شعرت بحماسٍ كبير دفعني للانضمام إليها. إذ يجب على كلّ فردٍ أن يجد ما يلهمه ويتناغم مع قلبه، لأنّ ذلك يخرج أفضل ما لديه من إبداعٍ وعطاء".