مستقبل العمل في ظل الذكاء الاصطناعي: راحة أم ضياع؟
بين وعود التّكنولوجيا ومخاوف علم النّفس، يطرح أسبوع العمل القصير أسئلةً وجوديّةً عن الهدف والمعنى

ماذا لو أخبرتك أنّك، خلال بضع سنواتٍ فقط، لن تحتاج سوى إلى العمل يومين أو ثلاثةٍ في الأسبوع لتوفّر لنفسك ولعائلتك حياةً كريمةً؟ إذا كانت ردّة فعلك الأولى هي القفز فرحاً، فاعلم أنّ لديّ لك خبرين: أحدهما سارٌّ، والآخر... أقلّ سروراً.
الخبر السّارّ، بحسب رأي بل غيتس على الأقلّ، هو أنّ هذا الاحتمال قد يصبح واقعاً؛ فخلال ظهوره مؤخّراً في برنامج "ذا تونايت شو" (The Tonight Show) مع جيمي فالون، تحدّث مؤسّس "مايكروسوفت" (Microsoft) عن مذكّراته الجديدة بعنوان "الشيفرة المصدرية" (Source Code)، وأعرب عن اعتقاده بأنّ الذكاء الاصطناعي سيؤدّي خلال عقدٍ من الزّمان إلى استغناء البشريّة عن أداء "معظم المهامّ".
إذ قال غيتسٌ متسائلاً: "هل ينبغي أن نكتفي بالعمل ليومين أو ثلاثةٍ في الأسبوع؟" وإذا كنت تشعر في الوقت الرّاهن بالإرهاق وضغط الوقت، فربّما يكون ذلك الخبر مثل نسمة أملٍ. ولكن هناك جانباً سلبيّاً: تؤكّد الكثير من الدّراسات النّفسيّة أنّ وقت الفراغ الطّويل، على الرّغم من كونه مغرياً، قد لا يكون مفيداً كما نعتقد، إذ يبدو أنّ البشر يستمدّون الكثير من الفائدة النّفسيّة من العمل الجادّ. لذلك، إذا جعلتنا التّكنولوجيا نعيش حياةً أكثر راحةً فجأةً، فقد نواجه صعوبةً في التّأقلم.
ما إن قرأت تصريحات غيتس بشأن أسبوع العمل المخفّف، حتّى تذكّرت مقالاً للكاتب أليكس هاتشنسون، نُشر مؤخّراً في مجلّة "ذا أتلانتك" (The Atlantic)، إذ يطرح الكاتب في هذا المقال سؤالاً بسيطاً لكنّه عميقٌ: لماذا يشارك الكثير من النّاس -ممّن ليسوا رياضيّين محترفين ولا من النّخبة- في سباقات ماراثون أو تحدّيات تحمّلٍ أكثر قسوةً؟ هذه الفعاليّات مرهقةٌ جسديّاً ومكلّفةٌ مادّيّاً، فهل نحن، كبشرٍ، لا نبحث دائماً عن الرّاحة والسّهولة؟
يبدو الجواب بديهيّاً: تتجنّب الكائنات الحيّة الألم، وتنجذب إلى الرّاحة. ولكن ما يفعله العدّاؤون الهواة يناقض ذلك تماماً. ويؤكّد هاتشنسون في مقاله أنّ هذا السّلوك يكشف عن حقيقةٍ أعمق في طبيعتنا النّفسيّة، وهي ما يعرف بـ "مفارقة الجهد" (Effort Paradox).
تُظهر الدّراسات أنّ النّاس يميلون لتقدير الأشياء الّتي يبذلون جهداً في صنعها. على سبيل المثال، يثمّن الأشخاص الطّاولة الّتي ركّبوها بأنفسهم أكثر من الجاهزة. كما وجدت دراسةٌ أخرى أنّ الأطفال يستمتعون أكثر بالألعاب الأكثر صعوبةً. وبالمثل، فإنّ العدّائين الّذين يعانون من آلامٍ في أقدامهم بعد إنهاء سباقٍ، يشعرون بنوعٍ من الرّضا الدّاخليّ. هكذا، وبدرجاتٍ متبادلةٍ بين الأفراد، يبدو أنّ البشر يجدون قيمةً متأصّلةً في العمل الجادّ، حتّى إن لم يكن ضروريّاً.
لكن، لماذا؟
من خلال فحص الأدلّة، يخلص هاتشنسون إلى أنّ بذل الجهد -عندما يكون في مستوى صعبٍ، ولكن غير مستحيلٍ- يمنحنا شعور متعةٍ بالإتقان والمعنى. ويضيف أنّ هذا الشّعور بالمعنى هو -وفقاً لما يقوله العديد من علماء النّفس البارزين- أكثر أهمّيّةً من المتعة أو السّعادة في سبيل تحقيق حياةٍ ذات قيمةٍ حقيقيّةٍ.
قالت عالمة النّفس في جامعة "هارفارد" (Harvard)، إليزابيث بوناويتز، في حديثها مع هاتشنسون: "يبدو أنّ العمل الجادّ هو الطّريق الأساسيّ، ولعلّه الوحيد، الّذي يمكن من خلاله تلبية احتياجاتٍ مهمّةٍ مثل الشّعور بالكفاءة والإتقان. لا يمكنك الوصول إلى ذلك دون أن تدفع نفسك إلى أقصى حدودها".
وماذا لو صدقت نبوءة غيتس؟
لنعد الآن إلى توقّع بلّ غيتس. يخشى البعض أن يشكّل الذكاء الاصطناعي تهديداً للبشر. ولكن، ماذا لو لم يكن التّهديد هو المشكلة، بل العكس تماماً؟ ماذا لو جعل الذكاء الاصطناعي حياتنا أسهل ممّا نتخيّل؟
يبدو السّيناريو جذّاباً -خصوصاً إذا تحقّقت وعود الذكاء الاصطناعي مثل علاج الأمراض المستعصية- وهي إنجازاتٌ لا يمكن إلّا أن نحتفل بها. لكن، هل سنستمتع حقّاً بعالمٍ لا يتطلّب أيّ جهدٍ؟ هل ستكون التّحدّيات الّتي نخلقها بأنفسنا -مثل الرّكض في الماراثونات أو تسلّق الجبال- كافيةً لمنحنا شعوراً بالإنجاز والهدف؟
طرحت هذا التّساؤل أيضاً المديرة السّابقة في "فيسبوك" (Facebook)، جولي تشو، في مقالةٍ عميقةٍ نُشرت مؤخّراً عبر منصّة "ميديوم" (Medium). وكما هو الحال مع غيتس، تتوقّع تشو أنّ المستقبل القريب سيشاهد قيام روبوتاتٍ مدعومةٍ بالذكاء الاصطناعي بجميع المهامّ المنزليّة، من تنظيفٍ وغسل الصّحون إلى رعاية الأطفال، كذلك ستقوم برامج علاجيّةٌ تعتمد على الذكاء الاصطناعي بقول ما نودّ سماعه بالدّقّة، وستنتج أفلاماً مصمّمةً بدقّةٍ لتناسب ذوق كلّ شخصٍ.
وتطرح تشو السّؤال الأهمّ: هل ستجعلنا هذه الحياة الخالية من العمل والانشغال سعداء؟ وهي تجيب بأنّ الإجابة ستكون نعم -فقط إذا ملأنا هذا الفراغ بتحدّياتٍ صعبةٍ نختارها بإرادتنا، حيث تقول: "الرّاحة والسّهولة ثمينتان لما تمنحانه من وقت فراغٍ. ولكن الأهمّ هو كيف نستخدم ذلك الوقت. نحتاج إلى تحدّياتٍ طوعيّةٍ، لا إلى انتصاراتٍ سريعةٍ تشبع رغبةً عابرةً في الدّوبامين".
وتختم بعبارةٍ جوهريّةٍ: "المفارقة أنّ قيامنا بأشياء صعبةٍ يجعلنا أكثر سعداء، والتّجارب الّتي نخوضها في الصّراع تكسبنا قدرةً حقيقيّةً على الاستمتاع بالحياة".
ماذا ستفعل لو أصبح أسبوع عملك لا يتعدّى يومين؟
كلّ ما سبق يقودنا إلى دعوةٍ صريحة لروّاد الأعمال الّذين يشهدون فصول ثورة الذكاء الاصطناعي تتكشّف أمام أعينهم: آن أوان التأمّل العميق في ماهيّة ما يتمنّونه حقّاً. فقهر الحاجة وتجاوز المعاناة إنجازٌ لا يُقدّر بثمن، لكنّ الراحة المحضة، كحلم المقاول الّذي أفنى عمره في الكدّ، قد تتحوّل إلى واقعٍ مجرّدٍ من الغاية، تغمره السكينة من الخارج، ويعصف به الفراغ من الدّاخل.
يجب على القادة اليوم أن يتأمّلوا جيدّاً في السّيناريو الّذي قد يتحقّق إذ أصبح أسبوع العمل لا يتعدّى يومين كما توقّع غيتس. فالكثير من الأدلّة النّفسيّة تشير إلى أنّ قضاء الأيّام الخمسة الأخرى في الاسترخاء وتصفّح الهاتف قد يجعلنا تعسّاء بحقٍّ، إذ إنّ البشر بطبيعتهم يتوقون إلى العمل الجادّ. فإذا ما جعلتنا الرّوبوتات نعيش حياةً سهلةً وميسّرةً، فما هو التّحدّي الّذي ستختاره لنفسك؟
شاهد أيضاً: سعادتك في هذه الحياة مرهونةٌ بهذا السؤال