تجربة الانتظار
بحسب أحد الأبحاث فإن مستوى الرضا عن مدة الانتظار لا يقل أهمية عن مستوى الرضا عن جودة الخدمة المقدمة من حيث أثرهما على ولاء العملاء.
تمهيد
ذكرني انتظار أذان المغرب بشهر رمضان المبارك بتجربة الانتظار وكيف أن العديد من الجهات في جميع القطاعات تعمل على معالجة (الانتظار) أو تحاول الالتفاف حوله لكونه نقطة معاناة في رحلة العميل، فالأجيال الجديدة باتت أقل صبرا وتحملا لفكرة الانتظار والوقت أصبح ضيقا في خضم متطلبات الحياة وأصبحت الأولوية عند العميل للخدمات أو المنتجات التي تقدر قيمة الوقت وتنجز المتوقع منها في ثوان معدودة، في مقالي هذا سأناقش بعض أساليب معالجة مشكلة الانتظار وأتفرع قليلا في جانب سيكولوجية الانتظار.
بحسب أحد الأبحاث [1] فإن مستوى الرضا عن مدة الانتظار لا يقل أهمية عن مستوى الرضا عن جودة الخدمة المقدمة من حيث أثرهما على ولاء العملاء. وذلك يعني بأفضل الأحوال بأن الشركات إن لم تكن تخسر عدة عملاء بسبب مدة الانتظار الغير مبررة فهي بالمقابل تزيد من قاعدة عملائها الغير راضيين وتؤثر سلبا على مستويات ولائهم
التقنية ودورها في معالجة المشكلة
تم استغلال التقنية لمعالجة مشكلة الانتظار وتم ابتكار أنظمة الطوابير وشاع استخدامها بشكل كبير في الجهات الخدمية، وقد عالجت هذه التقنية مشكلة التأخير الذي يحدث بسبب الفوضى ومع ذلك وجد الموظفون سبيلا للتحايل على هذه الأنظمة إما بهدف تحقيق مستهدفات أو لعدم وجود رغبة بالإنجاز، وأصبح العميل الذي لديه (فيتامين واو) يحصل على الخدمة دونما أن يأخذ رقم (تكت) وفي مناسبات أخرى كان الموظفون يتسببون بعطل متعمد في هذه الأنظمة أو يتفقوا مع رجل الأمن (المشرف على نظام الطوابير) لكي لا يصدر تكتات لخدمات معينة وذلك لكي لا يتم مراقبتهم ورصد التأخير، عندما تكون المستهدفات الزمنية للإنجاز غير منطقية يضطر الموظفون للتحايل أو لتقديم تجربة سيئة للعملاء بسبب الاستعجال لخدمتهم، وما ظننا بأنه حل للمشكلة بات سببا لمشاكل أخرى.
للتطبيقات الإلكترونية دور كبير في توفير الوقت إما من خلال توفير متاجر إلكترونية مع خدمة التوصيل، أو من خلال الطلب من خلال التطبيق لاستلامه الطلب لاحقا من الفرع (بهدف قتل وقت الانتظار).
المفاضلة بين العملاء بحسب تصنيفهم
ابتكرت صناعات أخرى فكرة المفاضلة بين العملاء إما على أساس فئاتهم، مثل البنوك عندما خصصت للعملاء الأكثر أهمية خطوط تواصل خاصة، ومدير حساب وأماكن خدمة (فروع أو موظفين ضمن الفرع). وفي شركات الطيران وتحت برامج الولاء فإن هناك أولوية تمنح للعملاء الأكثر ولاءً.
وهذه المفاضلات يجب أن تكون موضحة للعملاء، فلوا لاحظوا تقديم امرأة حامل، أو كبير بالسن أو أحد من ذوي الاحتياجات الخاصة للحصول على الخدمة مباشرة دون انتظار في الطابور ستكون مشاعرهم سلبية لو لم يكن سبب المفاضلة واضحا للجميع من البداية إما عبر اللافتات الإرشادية أو في موقع مقدم الخدمة. ومن المهم بأي حال من الأحوال أن لا تكون المفاضلة على أساس العلاقات الشخصية (فيتامين واو برواية أخرى)، أتذكر جيدا تقييمي لأحد مراكز التطعيم بأسوأ تقييم لأني انتبهت لإدخالهم لمراجع من خارج الطابور لداخل العيادة مباشرة للحصول على التطعيم وذلك لعلاقة شخصية أو قرابة تربطه بالممرضة التي تقدم التطعيمات
من يدفع أكثر يخدم أسرع
قامت عدة خطوط طيران بتوفير خدمة تسمى بخدمة الأولوية، التي تمنح من يدفع مقابلها حق الدخول بسرعة وقبل الآخرين عبر مسار سريع للطائرة (تجنبا للانتظار)، في "ديزني لاند" و"ونتر لاند" هناك خط سريع عند الألعاب الترفيهية الرائجة ولكي تتجنب الانتظار عليك أن تدفع أكثر لتدخل بسرعة. العديد من الجهات الحكومية يمكن أن تصنع مصدر دخل مستدام من ذلك (مثلا موعد مستعجل للمستفيدين بمقابل مادي). بالنهاية العديد من العملاء مستعدين أن يدفعوا المزيد مقابل تجربة أفضل (وأن تخدم بسرعة ودون انتظار يجعل التجربة أفضل)
إثراء تجربة الانتظار
أحد السبل لقتل الإحساس بالوقت هو إثراء تجربة الانتظار نفسها وجعلها ممتعة، ومن أشهر الطرق هي تشتيت انتباه العميل عن فكرة أنه ينتظر (فالوقت الذي ينشغل فيه الإنسان يبدوا أقصر بكثير من وقت الفراغ) ولهذا نجد عند الحلاقين أو عيادات الأطباء (في السابق: جرائد ومجلات) (والآن: تلفاز أو شبكة إنترنت مجانية) فالفكرة منها تشتيت انتباهك عن الانتظار لا تثقيفك أو تسليتك. أحد الأمثلة المحلية تطبيق جاهز لتوصيل الطعام، قام بتوفير لعبة داخل التطبيق لتتسلى ريثما يتم تجهيز وتوصيل الطلب
يقال بأن السبب الرئيسي والمنطقي وراء وجود مرآة في المصاعد هو لقتل الشعور بالانتظار (لم تكن المصاعد قبل 20 سنة بسرعة المصاعد في هذه الأيام) ومع ذلك العديد من المصاعد السريعة والحديثة في أيامنا هذه تتضمن مرآة ضخمة. كذلك فكرة وضع طابور للرجال موازي لطابور آخر للنساء تقتل الشعور بالوقت إذا يبدأ الطرفان باستراق النظر (إلا من رحم ربي)، ومن أفضل طرق إلهاء العميل هي إلهاؤه من خلال الفن، فالجهات التي صممت مساحاتها الداخلية بعناية ونشرت الأعمال الفنية بين أروقتها ونباتات الزينة وأحواض ضخمة للسمك ستجعل العملاء منهمكين في تأمل هذه الأشياء ولن يشعروا بمرور الوقت في حال كانت البيئة مجردة وجامدة. وهذا الأمر ينطبق على منطقة الانتظار فتلك التي توفر مقاعد مريحة تقلل من الشعور بالانتظار خصوصاً لو كان معها مشروبات باردة أو ساخنة مجانية، لأنه ذلك كفيل بتحويل المسألة من انتظار إلى استجمام وراحة. أماكن أخرى توفر محطات طاقة لشحن الأجهزة الذكية، وهذا يجعل العميل يشعر بأنه يحصل على شيء مقابل انتظاره (فيزيد صبره على الانتظار) أو يبدأ باستخدام الجوال لأنه مطمئن بأنه طاقته لن تضيع
إقحام العميل بالخدمة قبل أن تبدأ
عندما تجعل العميل يقوم بأي شيء مرتبط بالخدمة فإن ذلك يمنحه شعورا بأن الخدمة قد بدأت فعليا، وهذا ينطبق على النماذج التي يطلب من العميل ملئها قبل الحصول على الخدمة، أو مثلا عندما يمنح العملاء في مكان الانتظار بالمطاعم الفخمة قائمة الطعام لتصفحها، وهنالك ممارسة أخرى في جانب العناية بالعملاء (تحديدا في المحادثات الحية) حيث تبدأ المحادثة من خلال شات بوت آلي لجمع بيانات أولية عن المشكلة من خلال استعراض خيارات للعميل ليختار منها (تسميها تويتر كويك ريبلايز بينما تسميها جوجل شيبس) وهذا التكتيك يقحم العميل بالمحاثة مباشرة فلا يشعر أنه ينتظر كما أنها تحفظ وقته ووقت موظف خدمة العملاء بسبب البيانات الأولية التي تم جمعها عن المشكلة.
الاعتراف بوجود العميل
في تجربة اجتماعية أجرتها شركة أبل [2] قامت بتطبيق التجربة على مجموعتين، المجموعة الأولى جعلت الموظفين يرحبون بهم عندما وصلوا بطريقة لطيفة ومع الابتسام لهم واستئذانهم بأنه ستتم خدمتهم لحظة الانتهاء من عملاء آخرين، والمجموعة الثانية لم يتفاعلوا معها نهائيا، وجعلوا كلتا المجموعتين ينتظرون بالضبط ثلاث دقائق، ثم سألوا أفراد المجموعتين عن مدة الانتظار ليجدوا أن المجموعة الثانية التي تم تجاهل أفرادها شعرت بأنها انتظرت وقتا أطول مما شعرت به المجموعة الأولى. إذا التكتيك هنا يتعلق بالتأثير على انطباع العميل على الوقت نفسه. وهذا يذكرنا بالحيلة الشهيرة على الإشارات المرورية (الزر الذي تضغط عليه) لتحول لون الإشارة لحمراء فتتمكن من العبور [4] أثره نفسي بحت وهو لا يعمل على أرض الواقع بمعظم الحالات، وإنما وضع كنوع من الاعتراف بوجود المارة ولجعلهم يعتقدون بأنهم سيقللون مدة انتظارهم بالضغط عليه وأن الأولوية لهم.
ضبط توقعات العملاء
تساعد الشاشات التي توضح تسلسل أرقام المستفيدين من الخدمة والتي توضح في بعض الأحيان (متوسط مدة الخدمة) على ضبط التوقعات بشكل كبير والتخفيف من حدة الانتظار لأن مدة الانتظار باتت معلومة، لكنها حساسة ويجب أن تكون دقيقة لأنها قد تتسبب بردة فعل عكسية خصوصا أن من حددها هو مزود الخدمة نفسه (وبات وعدا عليه الوفاء به) وهذا ينطبق على الاستقبال/الكاشير في حال عدم وجود شاشات فلو أخبرك أنك ستحصل على الخدمة بعد 10 دقائق وانتظرت لنصف ساعة فستغضب حتما وربما قبل حصولك على الخدمة. في عالم تجربة المستخدم العديد من التكتيكات المستخدمة لذات الغرض كمثال، مؤشر الإنجاز أثناء ملء استطلاع رأي يعطيك انطباعاً بالوقت المتبقي لإنهاء الاستبيان وبالتالي يقلل من احتمالية انحلال المشاركين قبل إتمام الاستبيان
أتذكر في مراجعتي لأحد الدوائر الحكومية في الصباح الباكر كان هناك أرقام انتظار لكن لم يكن هناك شاشات توضح مدة الخدمة وبسبب عدم اكتمال الموظفين المقدمين للخدمة كانت الخدمة بطيئة جدا وبدأ بعض المراجعين بالسأم والخروج إلى أن اكتمل عدد الموظفين وأصبحت الخدمة سريعة لكن حتى ذاك الحين العديد من المراجعين تركوا المكان لأن عدم وضوح مدة انتظارهم تتسبب بتوتر نفسي وهذا يجعل مدة الانتظار تبدوا أطول وأطول، نفس الأمر ينطبق على المستشفيات فأحيانا عندنا تأتي بدون موعد سيكون كل همك أن تعرف كم مريض أمامك على الدور قبل أن يأتي دورك وذلك لتتمكن من تقدير الوقت الذي ستنتظره قبل أن يأتي دورك.
توضيح سبب ومدة الانتظار المتوقعة
يشعر البشر بأن مدة الانتظار أطول بكثير إذا لم تكن مدته وسبب الانتظار واضحين [3]، عدم توفر هذه التفاصيل يزيد من توتر البشر ويجعلهم يشعرون بأنهم عاجزون، إذا ما كنت بالمستشفى وتأخر إدخالك على موعدك شعورك بالانتظار في حال عدم إبلاغك عن سبب التأخر سيكون أطول بكثير مما لو أبلغوك أن الطبيب استدعي لقسم الطوارئ للتدخل بحالة إسعافية خطيرة وأنه سيعود خلال نصف ساعة. نفس الأمر ينطبق على رحلات الطيران … فتلك الرحلات التي تؤجل دون تحديد الموعد تصبح دقيقة الانتظار فيها كما لو أنها ساعة.
النزعة للانتظار أكثر ترتبط بقيمة الخدمة
عندما تكون في السوبرماركت بعربة مليئة فلن تريد أن تهدر الوقت الذي بذلته سابقا في جمع المقاضي من رفوف مختلفة، لكن إن كان كل ما تحمل قارورة ماء وقطعة شوكولاتة فلن يكون لديك أي صبر على الانتظار وقد ترمي بهذه الأغراض في أي مكان وتخرج، ولذلك عمدت العديد من السلاسل (السوبرماركت) بوضع مسار مخصص للعملاء ممن يحملون 10 أغراض أو أقل. ولذلك ستجد نفسك تقدم عميلا ليحاسب قبلك إذا ما كان بيده أغراض قليلة. ونفس الأمر ينطبق على عالم المطاعم فبعض الناس تنتظر بالشهور مقابل وجبة عشاء في أحد المطاعم الحاصلة على نجوم ميشلان، لكنها بالمقابل تشعر بالضجر بعد عشر دقائق انتظار في أحد مطاعم الوجبات السريعة.
وهذا الموضوع أيضا يذكرنا بعشاق أبل الذي يصطفون بالطوابير لساعات ولأيام في بعض الأحيان من أجل الحصول على أحدث إصدار لجهاز الآي فون. والحكمة هي أن تعرف كيف يمكنك خلق انطباع لدى عملائك يرفع من قيمة الخدمة/المنتج الذي تقدمه.
صورة الغلاف هي لطابور سياح طويل جدا على مدخل المصاعد الآلية لبرج إيفل في فرنسا، علما بأن المدخل الآخر الذي يقود للأدراج العادية شبه فارغ … قيمة الراحة في الصعود جعلت العشرات ينتظرون
خاتمة
الحديث ذو شجون وتجارب الانتظار كثيرة جدا ضمن صناعات وقطاعات متنوعة، ولا يمكن الإحاطة بجميع الممارسات في هذا المقال المتواضع، لكن ما أتمناه هو أني قد لفت الانتباه وقدمت بعض الحلول التي يمكنك أن تستلهم منها لتحسين تجربة انتظار عملائك. مع التنبيه أن الحلول المقترحة في مقالي هي للانتظار القسري الذي لا مفر منه، والأصل هو البحث في جذور المشكلة للوقع على مسببات قد يؤدي معالجتها لتقليل وقت الانتظار أو قتله بالكلية، فالسبب الجذري قد يكون في العنصر البشري، أو التقني أو الإجرائي. وعلى الله قصد السبيل.