اختبار رقمي روسي في أمريكا: هل بدأ الصراع السيبراني العالمي؟
هجومٌ إلكترونيٌّ روسيٌّ على محطة مياهٍ بتكساس يفضح هشاشة الدّفاعات الرّقميّة، ويكشف استعداداً دوليّاً لسباق تسلّحٍ رقميٍّ في ظلّ تصاعد التّوترات العالميّة

في ربيع العام الماضي، شنّ قرصانةٌ مرتبطون بالحكومة الرّوسيّة هجوماً سيبرانيّاً على محطّات مياهٍ بلديّةٍ في مناطق ريفيّةٍ من ولاية تكساس الأمريكيّة. وفي بلدة مولشو الّتي لا يتجاوز عدد سكّانها خمسة آلاف نسمةٍ، بدأت المياه تتدفّق بشكلٍ خارجٍ عن السّيطرة، واضطرّ المسؤولون إلى فصل النّظام الآليّ وتشغيل المحطّة يدويّاً.
الغريب في الأمر أنّ القراصنة لم يسعوا إلى تسميم المياه، ولم يطلبوا فديةً. وبعد التّحقيق، توصّلت السّلطات إلى أنّ الهجوم كان بمثابة اختبارٍ لاكتشاف ثغرات البنية التّحتيّة الأمريكيّة. رسالةٌ واضحةٌ: في القرن الحادي والعشرين، لا يكفي امتلاك الجيوش والمحيطات لحماية الوطن.
وبعد مرور عامٍّ على الحادثة، بدأت دول العالم تستعدّ لاحتماليّات تصاعد الصّراعات الرّقميّة، في ظلّ توتّراتٍ عالميّةٍ متزايدةٍ واحتمال اندلاع حربٍ تجاريّةٍ. هذه الأجواء رفعت من خطورة الهجمات السّيبرانيّة، خصوصاً في ظلّ قدرتها على التّسبّب بأضرارٍ اقتصاديّةٍ واسعة النّطاق، أو تعطيل خدماتٍ عامّةٍ حيويّةٍ، أو سرقة معلوماتٍ حكوميّةٍ أو تجاريّةٍ حسّاسةٍ، وربّما التّصعيد نحو مواجهةٍ عسكريّةٍ.
ويحذّر الخبراء في الأمن القوميّ والأمن الرّقميّ من دخول العالم في سباق تسلّحٍ رقميٍّ متسارعٍ، بينما تتأهّب الدّول للدّفاع عن نفسها.
تغييرات ترامب تضعف الحماية الرّقميّة
في الوقت نفسه، أقدم الرّئيس السّابق دونالد ترامب على خطواتٍ مثيرةٍ للجدل أثّرت في بنية الأمن السّيبرانيّ الأمريكيّ، إذ أقال قائد وكالة الأمن القوميّ والقيادة السّيبرانيّة في البنتاغون، وهو جنرالٌ برتبة أربع نجومٍ، وقلّص من ميزانيّات الحماية الرّقميّة، بما في ذلك البرامج المخصّصة لتأمين الانتخابات.
ووفقاً لتقريرٍ صدر مؤخّراً عن شركة "مجموعة إن سي سي" (NCC Group) البريطانيّة المتخصّصة في الأمن السّيبرانيّ، فإنّ الشّركات باتت تشعر بقلقٍ متزايدٍ من التّهديدات الرّقميّة، وفيما بعد دخلت الحكومات في حالة تأهّبٍ قصوى. تقول فيرونا جونستون-هالس، خبيرة الأمن السّيبرانيّ الحكوميّ ومؤلّفةٌ مشاركةٌ في التّقرير: "لم ينقشع الغبار الجيوسياسيّ بعد، وما يزال من المبكّر تحديد طبيعة المرحلة الجديدة".
المزيد من الأهداف للقرصنة مع انتشار التقنية
مع تزايد اعتماد النّاس والشّركات على الأجهزة المتّصلة بالإنترنت في حياتهم اليوميّة -من عدّاد الخطوات إلى التّحكّم بالمرافق الحيويّة- تتّسع خارطة الأهداف المحتملة أمام القرصانة، سواءً كانوا يتّبعون دولاً، أو يعملون لحساب جماعاتٍ مستقلّةٍ. ومن أبرز دوافع هذه الهجمات: التّجسّس. فقد شنّ قراصنةٌ من الصّين حملةً تُعرف باسم "إعصار الملح" (Salt Typhoon)، استهدفت اختراق هواتف مسؤولين أمريكيّين -بما فيهم ترامب- في الفترة الّتي سبقت انتخابات 2024.
غرض هذه العمليّات هو التّسلّل إلى الأنظمة الحسّاسة وسرقة المعلومات أو مراقبة الاتّصالات، ما يمنح نفوذاً في المفاوضات التّجاريّة أو الاستعدادات العسكريّة. وغالباً ما يسعى المهاجمون إلى البقاء متخفّين لأطول وقتٍ ممكنٍ. أمّا الهجمات العلنيّة، مثل تلك الّتي استهدفت محطّات المياه في تكساس، فهي تهدف إلى الإرباك أو توصيل رسائل ردعيّةٍ. وقد أظهرت إيران، في عدّة مناسباتٍ، استعدادها لاستخدام الهجمات السّيبرانيّة كوسيلةٍ للتّأثير السّياسيّ.
الأنواع الأخطر من هذه الهجمات هي الّتي تتوغّل عميقاً في شبكات الاتّصالات أو أنظمة الحاسوب، وتزرع أبواباً خلفيّةً أو برامجيّاتٍ خبيثةً يمكن تفعيلها لاحقاً. هكذا كان الحال مع الهجوم الّذي حمل اسم "إعصار الفولت" (Volt Typhoon) ونسب إلى الصّين، إذ تمكّن من اختراق شبكات اتّصالاتٍ أمريكيّةٍ، بهدف الوصول إلى أنظمةٍ حيويّةٍ غير معلومة العدد.
يقول سونو شانكار، الباحث السّابق في مختبر لوس ألاموس والرّئيس التّنفيذيّ للاستراتيجيّات في شركة "فوسفوروس للأمن السيبراني" (Phosphorus Cybersecurity): "بإمكانهم زرع برمجيّاتهم وتفعيلها لاحقاً عند الحاجة". ورغم التّكتّم الحكوميّ، إلّا أنّ خبراء أكّدوا لوكالة "أسوشييتد برس" (Associated Press) أنّ الولايات المتّحدة تمتلك على الأرجح قدراتٍ هجوميّةً مشابهةً. في المقابل، تنكر الصّين تلك التّهمات، وتحمّل واشنطن مسؤوليّة تشويه صورتها، بينما تتّهمها بشنّ هجماتٍ سيبرانيّةٍ بنفسها.
العالم على شفير صدامٍ رقميٍّ شاملٍ
الحرب في أوكرانيا، والنّزاعات في الشّرق الأوسط، والصّفقات التّجاريّة المتوتّرة، وتبدّل التّحالفات؛ جميعها عوامل تزيد من احتمالات اندلاع صداماتٍ رقميّةٍ. وبحسب خبراء الأمن، فإنّ هذه الاحتماليّات باتت أعلى من أيّ وقتٍ مضى. الدّول الأربع الأكثر عداءً للأمريكا -الصّين، وروسيا، وإيران، وكوريا الشّماليّة- أظهرت مؤخّراً بوادر تعاونٍ سيبرانيٍّ متنامٍّ، مع تعمّق علاقاتها الاقتصاديّة والعسكريّة والسّياسيّة.
وأمام الكونغريس الأمريكيّ، قالت مديرة الاستخبارات الوطنيّة تلسي غابارد أنّ إيران قدّمت طائراتٍ مسيّرةً لروسيا مقابل الحصول على دعمٍ معلوماتيٍّ وقدراتٍ سيبرانيّةٍ، وأضافت: “لقد كانت روسيا المحفّز الأساسيّ لهذا التّعاون المتصاعد، نتيجة احتياجها لدعمٍ حاسمٍ في حربها على أوكراني".
وفي ظلّ المخاوف من اندلاع حربٍ تجاريّةٍ جرّاء التّعريفات الّتي فرضها ترامب، قد تصبح سلاسل الإمداد هدفاً لهجماتٍ انتقاميّةٍ، لا سيما أنّ الشّركات الصّغرى تمثّل مدخلاً ضعيفاً يسهل استغلاله. وحذّر شانكار من خطورة الانجرار إلى حلقةٍ انتقاميّةٍ من الهجمات السّيبرانيّة، مؤكّداً أنّ هذا النّوع من التّصعيد قد يفضي إلى مواجهةٍ عسكريّةٍ شاملةٍ.
رغم تصاعد التّهديدات، اتّخذت إدارة ترامب قراراتٍ اعتُبرت تقليصاً للجهود الدّفاعيّة؛ فقد أقال مؤخّراً الجنرال تيموثي هوغ، قائد وكالة الأمن القوميّ وقيادة السّايبر في البنتاغون. السّناتور الدّيمقراطيّ مارك وارنر، وهو كبير الأعضاء في لجنة الاستخبارات، علّق قائلاً: "نحن نواجه تهديداتٍ غير مسبوقةٍ، فكيف تساهم إقالته في تعزيز أمن الأمريكيّين؟"
كذلك تمّ إيقاف موظّفين عن العمل في وكالة الأمن السّيبرانيّ المسؤولة عن الانتخابات، وتمّ تقليص تمويل البرامج الانتخابيّة، إلى جانب إغلاق مركز التّواصل العالميّ بوزارة الخارجيّة، الّذي كان يتتبّع المعلومات المضلّلة الأجنبيّة. وتراجعت أيضاً أعداد العاملين في وكالاتٍ مثل "وكالة الاستخبارات المركزيّة" (CIA - Central Intelligence Agency) ووكالة الأمن القوميّ. وفي حادثةٍ مثيرةٍ للجدل، استخدم مسؤولون كبارٌ تطبيق "سيغنال" (Signal) لتبادل رسائل تتعلّق بضرباتٍ عسكريّةٍ في اليمن، وهو ما اعتبره غابارد خطأً جسيماً.
ومن ناحيتهم، يصرّ المسؤولون عن الأمن السّيبرانيّ في الإدارة على أنّ هذه التّغييرات ستساهم في إزالة التّعقيدات والحدّ من الإنفاق غير الضّروريّ، وتحسين كفاءة الأداء. كما ذكر تقريرٌ قدّمه الجنرال ويليام هارتمن للكونغريس أنّ البنتاغون استثمر في تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز الدّفاعات السّيبرانيّة.
وأكّدت وكالة الأمن السّيبرانيّ والبنية التّحتيّة (CISA) في بيانٍ لها: “نحن ماضون في مهمّتنا لحماية البنية التّحتيّة الحيويّة من كلّ التّهديدات الرّقميّة والمادّيّة، وسنواصل التّعاون مع شركائنا المحلّيّين والدّوليّين لحماية الأمريكيّين من الأعداء الأجنبيّين والمجرمين الإلكترونيّين والتّهديدات النّاشئة”. ولكن مكتب غابارد ووكالة الأمن القوميّ لم يعلّقا على تفاصيل تأثير تغييرات ترامب.
هل من بوادر للتعاون الدولي؟
رغم انقسام العالم، إلّا أنّ الإدراك المشترك لحجم التّهديدات الرّقميّة قد يفتح المجال لتعاونٍ دوليٍّ أوسع؛ فقد وقّعت أكثر من 20 دولةً مؤخّراً على اتّفاقٍ غير ملزمٍ لتنظيم استخدام برمجيّات التّجسّس التّجاريّ، وأبدت الولايات المتّحدة استعدادها للانضمام. كذلك يوجد توافقٌ حزبيٌّ واسعٌ في أمريكا على ضرورة دعم القطّاع الخاصّ لرفع كفاءته في التّصدّي للهجمات.
ويقول دين جيفن، القائد السّابق لوحدة التّدريب السّيبرانيّ بالاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة والرّئيس التّنفيذيّ لشركة "نوكودو" (NukuDo):
"الشّركات بحاجةٍ إلى دليلٍ إرشاديٍّ من الحكومة؛ خطّة عملٍ واضحةٍ: ما ينبغي فعله، وما يجب تجنّبه".