رجلٌ في مهمّةٍ: سعادة فيصل البنّاي
يسعى الأمين العامّ لمجلس أبحاث التّكنولوجيا المتطوّرة في الإمارات العربيّة المتّحدة لوضع بلاده على طريق الرّيادة في الابتكار المتقدّم
هذا المقال متوفر أيضاً باللغة الإنجليزية هنا
يُعرف سعادةُ فيصل البنّاي اليوم بشكلٍ أساسيٍّ كونه الأمين العامّ لمجلس أبحاث التّكنولوجيا المتطوّرة في الإمارات العربيّة المتّحدة (ATRC)، ولكنّ هذا ليس الإنجاز الوحيد الذي يميّزه.
قبل تعيينه لقيادة مجلس أبحاث التّكنولوجيا المتطوّرة، الذي تأسّس بهدف تحويل عاصمة الإمارات، أبوظبي، إلى "مركز أبحاثٍ عالميٍّ رائدٍ ووجهةٍ للمواهب العالميّة في التّكنولوجيا المتقدّمة"، كان للبنّاي مسيرةٌ مهنيّةٌ ناجحةٌ كرائد أعمالٍ تقنيٍّ ورجل أعمالٍ بارعٍ.
بدأت رحلته عندما أسّس شركة "أكسيوم تيليكوم" (Axiom Telecom) في الإمارات عام 1997، والتي نمت لتبلغ قيمتها 2.5 مليار دولارٍ أمريكيٍّ، وتعدّ الآن واحدةً من أكبر موزّعي أشهر العلامات التّجاريّة العالميّة في الهواتف المحمولة والملحقات في منطقة الخليج. وفي عام 2014، أكّد البنّاي مجدّداً جدارته كرائد أعمالٍ بإطلاقه مزوّد خدمات الأمن السّيبرانيّ العالميّ "دارك ماتر" (DarkMatter) في الإمارات، حيث قاده ليصبح مؤسّسةً تبلغ قيمتها 400 مليون دولارٍ.
وفي عام 2019، عندما أسّست الإماراتُ مجموعة التّكنولوجيا المُتقدّمة إيدج (EDGE)، اُختير البنّاي لقيادة هذا الكيان الجديد كمديرٍ عامٍّ ورئيسٍ تنفيذيٍّ. وأشرفَ البنّاي على تطوير ونُموّ إيدج التي أُطلقَت بهدف "تطوير حلولٍ دفاعيَّةٍ تتَّسمُ بالمُرونة والجَرأة والابتكار"، والتي تتّخذُ من أبوظبي مقرّاً لها، مع دمج أكثر من 25 كياناً مُختلفاً في مجموعاتها التّشغيليّة الرّئيسة. ومنذ ذلك الحين، انتقل البنّاي ليُصبح رئيس مجلس إدارة إيدج، وعُيّن في منصبه الحاليّ في مجلس أبحاث التّكنولوجيا المتطوّرة عندما أطلقت الإماراتُ هذا الكيان في عام 2020.
ونظراً لأنّ هذا الدّور يأتي بعد مسيرةٍ مهنيّةٍ حافلةٍ للبنّاي، يتساءل المرء عن دوافعه الشّخصيّة للعمل الذي يقوم به. وللإجابة على ذلك، يشير البنّاي، المواطن الإماراتيّ، إلى الهدف الأساسيّ من تأسيس مجلس أبحاث التّكنولوجيا المتقدّمة، والذي يهدف إلى إنشاء نظامٍ بيئيٍّ حيويٍّ للبحث والتّطوير يضع أبوظبي والإمارات كلاعبٍ أساسيٍّ في التّكنولوجيا على السّاحة العالميّة، ودعم تحوّل البلاد إلى اقتصادٍ قائمٍ على المعرفة، كما يذكر موقعه الإلكتروني.
يقول البنّاي: "هذه مهمّةٌ، وبصراحةٍ، هذا ما يحفّزني. أن تعلم أنّه إذا نجحنا، سنكون قد ساهمنا في تحريك عجلة التّقدّم في أمّتنا، وإذا تمكّنّا من المساهمة حتّى بنسبة واحدٍ بالمئة في هذا التّحوّل، فهذا كافٍ بالنّسبة لنا".
لفهم أهمّيّة العمل الذي يقوم به المجلس، يقترح البنّاي النّظر إليه من خلال الأهداف الثّلاثة الرّئيسة للكيان. الأوّل منها هو جعل أبوظبي والإمارات وجهةً جاذبةً للمواهب في مجال التّكنولوجيا المتقدّمة. وهنا، يعترف البنّاي بالتّحدّي المتمثّل في أنّ الإمارات، رغم شهرتها في مجالات التّجارة والأعمال، لم تكن معروفةً تقليديّاً كمركزٍ للبحث في التّكنولوجيا المتقدّمة.
ومع ذلك، تتمتّع الإمارات بعوامل أخرى تصبّ في مصلحتها، منها أنّ 85% من سكّان البلاد ينحدرون من دولٍ أخرى، وهم سعداء بالعيش بتناغمٍ هنا. يقول البنّاي: "قد يرى البعض ذلك كعائقٍ، لكنّنا نرى التّركيبة السّكّانيّة للإمارات ميزةً. لذا، قرّرنا استغلال الطّابع العالميّ للإمارات، فهي دولةٌ كوزموبوليتانيةٌ مفتوحةٌ للجميع، لنستقطب المواهب من جميع أنحاء العالم، ونخلق وجهةً حيويّةً للبحث في التّكنولوجيا المتقدّمة، ونجعلهم يرون مستقبلهم هنا وينمون هنا".
ولتسهيل ذلك، يشير البنّاي إلى أنّ قيادة الإمارات اتّخذت قراراً حاسماً بشأن كيفيّة تأسيس المجلس ومراكزه البحثيّة، وهو ما يختلف تماماً عن النّهج التّقليديّ للمبادرات الحكوميّة المشابهة حول العالم. يوضح البنّاي: "عادةً ما تكون المراكز الحكوميّة مرافقةً للمراكز البحثيّة الوطنيّة، وغالباً ما يكون 90-95% من العاملين فيها من جنسيّة البلد نفسه. لكنّ الإمارات قالت: لا؛ سنرحّب بالجميع، ولن يتمّ تأميم المراكز البحثيّة أبداً. لذا، أنت لا تأتي بشكلٍ مؤقّتٍ، والكثير ممّن انضمّوا حصلوا بالفعل على التّأشيرة الذّهبيّة، أو حتّى الجنسيّة في بعض الحالات. وكلّ هذا لإظهار أنّنا نبني شيئاً فريداً حقّاً عندما يتعلّق الأمر بالمواهب".
الهدف الثّاني للمجلس، كما يواصل البنّاي، هو المساهمة في بناء اقتصادٍ معرفيٍّ في الإمارات من خلال تقديم حلولٍ للمشاكل التي يواجهها العالم في ستّة قطاعاتٍ ذات أولويّةٍ: الطّيران والفضاء، الغذاء والزّراعة، الرّعاية الصّحّيّة، السّلامة والأمن، النّقل، والاستدامة والبيئة والطّاقة. يضيف البنّاي: "هذا يعني أنّ البحوث التي نقوم بها يجب أن تحلّ مشكلةً حاليّةً في العالم. يجب أن تحلّ مشكلة عميلٍ، أو شركةٍ، أو دولةٍ، يجب أن تقدّم حلّاً ملموساً".
وهناك سببٌ واضحٌ وراء التّركيز الدّقيق للمجلس على الأبحاث المبنيّة على مشكلاتٍ حقيقيّةٍ. فبينما لا يمكن توقّع نجاح كلّ مشروعٍ بحثيٍّ يتولّاه المجلس، يشير البنّاي إلى أنّ تلك التي تنجح، بفضل هذا التّفويض الذي يركّز على الحلول، يُتوقّع لها أن تحقّق عائداً اقتصاديّاً. لذا، ما يقوم به المجلس ليس بحثاً من أجل البحث فحسب، بل هو بحثٌ يقدّم حلولاً تؤدّي إلى تأثيرٍ اقتصاديٍّ فعليٍّ.
تساعد هذه الفلسفة أيضاً في تحقيق ما يسرده البنّاي كهدفٍ نهائيٍّ للمجلس، وهو بناء نظامٍ بيئيٍّ للبحث في الإمارات متّصلٍ بالعالم بأسره. أما على الصّعيد المحلّيّ، فحرص المجلس على التّعاون مع الجميع، من الجامعات الرّائدة في البلاد إلى الجهات المعنيّة في مختلف الصّناعات، لتسهيل هذا النّظام البيئيّ. وفي مايو من هذا العام، أطلق خارطة الإمارات للأبحاث لتكون منصّةً مركزيّةً للموارد لأولئك المهتمّين بمعرفة المزيد عن حالة نظام البحث والتّطوير في البلاد.
وعلى الصّعيد الدّوليّ، تمكّن المجلس من إبرام عقودٍ بحثيّةٍ مع أكثر من 80 مؤسّسةً حول العالم، ما أدّى إلى إجراء بحوثٍ مشتركةٍ في مجالاتٍ مثل التّكنولوجيا الحيويّة والكمّ والرّوبوتات الذّاتيّة. وبالنّظر إلى أنّ هذا تحقّق في غضون أربع سنواتٍ فقط منذ تأسيس المجلس، لدى البنّاي كلّ الحقّ في أن يفخر بهذا الإنجاز، قائلاً: "بالتّأكيد، لا أعتقد أنّ هناك أيّ منظّمةٍ على مستوى العالم اليوم لديها عقودٌ تربطها بـ80 جامعةً حول العالم!"
شرحُ البنّاي للأهداف التي تحكم تفويض المجلس يوضّح أيضاً دور كلٍّ من الكيانات الثّلاثة التّابعة له، "أسباير" (ASPIRE)، معهد الابتكار التّكنولوجيّ (Technology Innovation Institute - TII)، و"فينتشر ون" (VentureOne). فبينما يركّز المجلس على الحوكمة ووضع السّياسات، تعمل أسباير كذراعه لإدارة برامج التّكنولوجيا وتطوير الأعمال، وهي الكيان الّذي يتواصل مع العملاء في القطاعات السّتّة المحدّدة مسبقاً للبحث عن المشكلات التي يمكن للتّكنولوجيا المتقدّمة حلّها.
بعد صياغة أسباير لبيان المشكلة، تتوجّه إلى معهد الابتكار التّكنولوجيّ، الذّراع البحثيّ التّطبيقيّ للمجلس، لاستكشاف كيفيّة تمكّن 1200 باحثٍ في مراكزه البحثيّة العشرة من حلّها. يتمّ تحديد الجداول الزّمنيّة والميزانيّات، ووضع اقتراحٍ للعميل للمصادقة عليه. بمجرّد الحصول على الموافقة، تتولّى أسباير تمويل البحث في معهد الابتكار التّكنولوجيّ، لكنّها تظلّ صوت العميل هناك، لضمان تحقيق مؤشّرات الأداء الرّئيسية، أو إعادة النّظر في الخطط إذا لزم الأمر.
عندما يصل باحثو معهد الابتكار التّكنولوجيّ إلى مرحلةٍ مهمّةٍ (تذكّر، هم يسعون لحلولٍ فعليّةٍ للمشكلات)، يأتي دور فينتشر ون، الذّراع التّجاريّة للمجلس. تتولّى فينتشر ون الإنجاز البحثيّ بهدف تحويله إلى منتجٍ، يمكن أن يحدث ذلك إمّا من خلال نموذج ترخيصٍ يسمح لشركةٍ بتسويق الحلّ، أو بإطلاقه كشركةٍ ناشئةٍ مستقلّةٍ. في كلتا الحالتين، هذا هو الوقت الذي يتحقّق فيه التّأثير الاقتصاديّ، وبالطّبع، من المفيد أنّ العميل الذي بدأ العمليّة قد يكون أوّل من يستخدم الحلّ.
بهذا، وضع المجلس خطّةً مدروسةً بعنايةٍ لتحقيق رؤيته، لكنّ البرهان في التّطبيق، وربّما لا يوجد مكانٌ أفضل لرؤية ذلك من تحرّكات الكيان في مجالٍ من أكثر التّقنيات سخونةً، الذّكاء الاصطناعيّ.
وفي مارس من العام الماضي، كشف معهد الابتكار التّكنولوجيّ عن نموذجٍ لغويٍّ كبيرٍ يدعى "فالكون" (Falcon)، وبعد شهرين، أعلن عن إطلاق "فالكون 40 بي" (Falcon 40B)، وهو نموذجٌ أساسيٌّ يحتوي على 40 مليار معاملٍ ومدرّبٌ على تريليون رمزٍ، كمصدرٍ مفتوحٍ للاستخدام البحثيّ والتّجاريّ.
احتلّ "فالكون 40 بي" المرتبة الأولى على قائمة منظّمة أبحاث الذّكاء الاصطناعيّ "هاجِنغ فايس" (Hugging Face) للنّماذج اللّغويّة الكبيرة مفتوحة المصدر لمدّة شهرين بعد إصداره. وكأوّل نموذج ذكاء اصطناعيٍّ واسع النّطاق في الإمارات، أثار القرار بجعله مفتوح المصدر بعض الدّهشة. ومع ذلك، يقول البنّاي إنّ ذلك يتماشى مع رؤية البلاد والمجلس لهذا المجال.
يقول: "نحن ملتزمون بفكرة أنّه لا ينبغي أن يكون الذّكاء الاصطناعيّ تحت سيطرة القلّة. وعلى عكس أمورٍ أخرى، نعتقد أنّ الذّكاء الاصطناعيّ هو شيءٌ يجب أن يتمكّن العالم بأسره من الاستفادة منه. ولهذا فتحنا فالكون، لنشجّع المزيد من النّاس على التّعاون في بنائه. الآن، الطّريقة التي تميّز بها نفسك هي بأخذ هذا النّموذج الأساسيّ، ثمّ تخصيصه في مجالٍ معيّنٍ، مثل الطّبّ أو القانون. هذا سيكون حلّاً خاصّاً غير مفتوح المصدر، لكنّك لا تزال تبنيه على نفس الأساس. ما نقوله هو: دعونا نتعاون جميعاً على هذا الأساس، ثمّ يمكن لكلٍّ منّا البناء عليه بطريقته".
وقد فعل المجلس ذلك بالفعل؛ ففي نوفمبر الماضي، أطلقت شركة فينتشر ون التّابعة له شركة "إيه آي 71" (AI71)، التي تستخدم فالكون فاونديشن، لتقديم حلول ذكاء اصطناعيٍّ تحويليّةٍ تضع معايير جديدةً في الإنتاجيّة وسيادة البيانات. مع منتجاتٍ مثل "رازي 71" (RAZI71)، وهو حلٌّ للرّعاية الصّحّيّة مدعومٌ بالذّكاء الاصطناعيّ، و"ميرا 71" (MIRA71)، وهي وكيلة مركز اتّصالٍ مدعومةٌ بالذّكاء الاصطناعيّ، تسعى "إيه آي 71" لإحداث تأثيرٍ عبر صناعاتٍ متعدّدةٍ. ويكشف البنّاي أنّ فينتشر ون تستعدّ لإطلاق المزيد من الشّركات في المستقبل القريب. في الوقت نفسه، يستمرّ معهد الابتكار التّكنولوجيّ في إصدار نسخٍ أحدث من فالكون كمصدرٍ مفتوحٍ، وأحدثها "فالكون مامبا 7بي" (Falcon Mamba 7B)، وهو أوّل نموذجٍ لغويٍّ فضائيّ الحالة (State Space Language Model - SSLM) لمعهد الابتكار التّكنولوجيّ. وبعد إصداره في أغسطس هذا العام، أعلنت هاجِنغ فايس أنّه "أفضل نموذجٍ لغويٍّ فضائيّ الحالة مفتوح المصدر أداءً في العالم".
وتأكيدٌ آخر على تحرّكات المجلس في هذا المجال تجلّى في إدراج مجلّة "تايم" (TIME) للبنّاي كواحدٍ من أكثر 100 شخصيّةٍ تأثيراً في مجال الذّكاء الاصطناعيّ في سبتمبر هذا العام. وعند سؤاله عن معنى هذا الاعتراف له، يقول البنّاي إنّه في الواقع شهادةٌ على القيادة الرّشيدة للإمارات، التي وضعها تفكيرها المستقبليّ على مسارٍ لتصبح رائدةً عالميّاً في مجال الذّكاء الاصطناعيّ.
سواءً من خلال اتّخاذ القرارات السّريعة التي تضع السّياسات والبنى التّحتيّة المناسبة، أو من خلال جهود الرّقمنة التي روّجت لها الحكومة في القطاعين العامّ والخاصّ خلال السّنوات الأخيرة، يؤمن البنّاي بقوّةٍ أنّ الإمارات تمتلك الآن المقوّمات لتكون رائدةً في مجال الذّكاء الاصطناعيّ، وبالتّالي في التّكنولوجيا المتقدّمة.
يلاحظ البنّاي: "عندما ظهر الويب 1.0، لم نكن مستعدّين حقّاً لنكون لاعباً في ذلك المجال، وكان الوضع مشابهاً مع الويب 2.0. لكنّ الآن، مع الويب 3.0، والذّكاء الاصطناعيّ، والبلوك تشين، وغيرها، نحن في وضعٍ أفضل بكثيرٍ. هذا هو الوقت الذي تصبح السّرعة في التّحرّك فيه مهمّةً، وتوافر البنى التّحتيّة الرّقميّة، والوصول إلى البيانات والمواهب، وعند النّظر إلى كلّ هذه العوامل، نحن في موقفٍ ممتازٍ لنكون لاعباً حقيقيّاً".
لا يمكننا أيضاً إغفال العزم والتّفاني الذي يحضره البنّاي إلى هذا المشهد، فتجاربه في البدء من الصّفر والتّعامل مع صناعاتٍ معقّدةٍ تساعده بلا شكٍّ، بينما يعمل المجلس على وضع الإمارات كمركزٍ للتّكنولوجيا المتقدّمة. يشير البنّاي مرّةً أخرى بحزمٍ إلى قيادة الإمارات التي ترسم هذا المسار لمستقبل البلاد، لكنّه يقرّ بأنّ هذا ما يحفّزه أيضاً.
يختتم البنّاي قائلاً: "عندما تكون المهمّة أكبر من مجرّد وظيفةٍ، يكون لديك هدفٌ أعظم بكثيرٍ".
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في عدد أكتوبر من مجلة "عربية .Inc". لقراءة العدد كاملًا عبر الإنترنت، يُرجى النقر هنا.