صراع الأمّهات العاملات: تحقيق التوازن بين العمل والأسرة
نظرة عميقة على التّحدّيات الفريدة التي تواجهها الأمهات العاملات في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا
هذا المقال متوفر أيضاً باللغة الإنجليزية هنا
تواجه النّساء في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا تحدّياتٍ كبيرةً في مسيرتهنّ المهنيّة، خاصّةً الأمّهات الجدد والمسؤولات عن رعاية أسرهنّ. إذ تعترضهنّ العديد من العقبات الّتي تحول دون تقدّمهنّ في بيئة العمل، ويرجع ذلك غالباً إلى نقص أنظمة الدّعم الكافية والضّغوط المجتمعيّة المتجذّرة.
وقد أظهر تقريرٌ صدر عام 2021 عن الشّبكة العربيّة للمجتمع المدني النّسويّ أنّ المنطقة تسجّل واحدةً من أدنى معدّلات مشاركة المرأة في سوق العمل عالميّاً، حيث تبلغ نسبة النّساء المشاركات في الاقتصاد الرّسميّ 18.4% فقط، مقارنةً بمتوسّطٍ عالميٍّ يصل إلى 48%. ويعود هذا التّفاوت الكبير إلى ضعف الدّعم المقدّم للأمّهات العاملات، فضلاً عن تدنّي الأجور وقلّة الامتيازات في القطاع الخاصّ. وبالنتيجة، تؤدّي هذه العوامل إلى إعاقة دخول الكثير من النّساء، خصوصاً من الأسر المحافظة أو ذات الدّخل المحدود، إلى سوق العمل الرّسميّ، ممّا يعزّز الفجوة الاقتصاديّة بين الجنسين في المنطقة.
معركة الأمّهات لتحقيق التّوازن بين الجبهتين
تخوض الأمّهات في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا صراعاً مستمرّاً للتّوفيق بين الحياة المهنيّة والمسؤوليّات الأسريّة. والسّعي لتحقيق النّجاح المهنيّ، مع تحمّل أعباء الأمومة، يضعهنّ أمام تحدّياتٍ يوميّةٍ هائلةٍ.
وعن هذا تقول جيسي رضوان، الشّريكة المؤسّسة والرّئيسة التّنفيذيّة لمنصّة "كاريرها" (Carerha) التّعليميّة، الّتي تركّز على تمويل المرأة اقتصاديّاً في مصر، قائلةً:" بصفتي أمّاً لطفلين، أجد صعوبةً كبيرةً في إيجاد هذا التّوازن. وعلى الرّغم من أنّ هذا الرّوتين اليوميّ قد يبدو عاديّاً، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ الصّراع مستمرٌّ، ويتطلّب جهداً هائلاً للتّأقلم. فكرة 'الأمّ الخارقة' ليست إلّا خرافةً".
من جانبها، تشير بريهان أبو زيد، مؤسّسة شركة "بيري كير" (PeriCare) النّاشئة في الإمارات، والّتي تهدف إلى تطوير حلولٍ تلبي احتياجات الأمّهات العاملات، إلى أنّ هذا التّحدّي النّفسيّ يفرض على النّساء شعوراً دائماً بالنّقص أو بالحاجة المستمرّة لإثبات الذّات. وتضيف: "هذا العبء الذّهنيّ، المضاف إلى المتطلّبات الجسديّة للأمومة، يجعل الكثير من الأمّهات يتجاهلن احتياجاتهنّ الخاصّة، أو يجدن صعوبةً في التّعبير عن معاناتهنّ، ممّا يؤثّر سلباً على وضعهن".
أمّا نهى هاشم، الشّريكة المؤسّسة لتطبيق "زيوا" (Zywa) وهو تطبيقٌ مخصّصٌ للشّباب، فتؤكّد أنّ العديد من النّساء يعانين ممّا يعرف بمتلازمة المحتال، حيث تشعر المرأة بأنّها لا تستطيع تحقيق النّجاح الأمثل كأمٍّ أو كمهنيّةٍ. تقول هاشم: "هذا الصّراع الدّاخليّ المستمرّ يضاعف من مستويات التّوتّر والقلق، ويؤدّي في النّهاية إلى الإرهاق الشّديد. والضّغط المتواصل لإثبات الذّات في كلا المجالين يثقل كاهل النّساء، ويؤثّر سلباً على صحّتهنّ النّفسيّة ورفاهيتهنّ العامّة".
شاهد أيضاً: 7 نصائح للأزواج الذين يتشاركون ميدان العمل
متلازمة ذنب الأمّ: الصّراع النّفسيّ الخفيّ
يحمل السّعي الدّؤوب لتحقيق التّوازن بين الحياة المهنيّة والمسؤوليّات الأسريّة مشاعر خفيّةً تثقل كاهل الأمّهات العاملات. إنّ الرّغبة الجامحة في التّفوّق على جبهتي العمل والأسرة قد تولّد إحساساً عميقاً بالذّنب والنّقص، ما يدفع النّساء إلى التّساؤل عن جدوى جهودهنّ. وتصفّ جيسي رضوان هذا الصّراع بقولها: "إنّه تحدّي 'عقل الأمّ'. فعندما تبدأ الأمّهات الجدد بالتّكيّف لا إراديّاً مع مسؤوليّات الأمومة، يجدن أنفسهنّ يكافحن للعودة إلى العمل. ولا تكفي ثلاثة أشهرٍ من إجازة الأمومة لاستعادة التّوازن أو حتّى للتّكيّف مع هذا الدّور الجديد".
وكأنّ الأمّهات في سباقٍ لا نهاية له، تحاول كلّ واحدةٍ منهنّ تلبية توقّعات المجتمع والعائلة والعمل، وهي توقّعاتٌ لا يفرضها الآخرون فقط، بل كثيراً ما تفرضها النّساء على أنفسهنّ. وتضيف رضوان: "نحن غارقاتٌ في محاولاتٍ مستمرّةٍ لتحقيق توازنٍ يبدو مستحيلاً. وهذا الضّغط الهائل يشعل ما يمكن تسميته بـ 'ذنب الأمّ'، إحساسٌ دائمٌ بأنّنا مقصّراتٌ في كلّ جانبٍ من حياتنا".
تشير نهى هاشم، من جانبها، إلى أنّ النّساء غالباً ما يلمن أنفسهنّ عندما يحاولن السّعي خلف طموحاتهنّ المهنيّة، بينما تتراكم عليهنّ التزامات الأسرة. وتقول: "حين تسعى المرأة خلف طموحاتها، تبدأ بالشّعور وكأنّها تفشل في دورها كأمٍّ. هذا الشّعور العميق بالذّنب لا يفارقها، ممّا يؤدّي إلى ضغوطٍ نفسيّةٍ هائلةٍ".
وتضيف أنّ هذا الشّعور ينبع من عدم الرّضا عن أدائها في أيٍّ من الجوانب، سواءً في العمل، أو في المنزل. وتتّفق معها بريهان أبو زيد بأنّ محاولة التّوفيق بين العمل والأمومة تؤدّي إلى إرهاقٍ جسديٍّ ونفسيٍّ، حيث تشعر الأمّهات بأنّهنّ لا يستطعن تأدية أيٍّ من أدوارهنّ كما يجب.
أظهرت دراسةٌ للجمعيّة النّفسيّة البريطانيّة عام 2022 أنّ الأمّهات يشعرن بالذّنب تجاه انشغالهنّ بالعمل أكثر ممّا يشعر الآباء، ممّا يعكّس تأثير الضّغوط المجتمعيّة الّتي تحمي الرّجال من هذه المشاعر، بينما تثقل كاهل النّساء بها. توضّح هاشم: "في ثقافتنا، ما زالت المرأة مطالبةً بأن تكون الرّاعية الأساسيّة للأسرة، حتّى عندما تعمل بدوامٍ كاملٍ. هذا التّوقّع المجتمعيّ، جنباً إلى جنبٍ مع مسؤوليّات العمل، يشكّل عبئاً نفسيّاً كبيراً على الأمّهات. ورغم أنّ العائلة الممتدّة قد تقدّم دعماً، إلّا أنّها قد تعزّز أيضاً الأدوار التّقليديّة الّتي تزيد من حدّة هذا الصّراع".
غياب الدّعم وافتقار المرونة: عقباتٌ أمام الأمّهات العاملات
كشفت نتائج مسح "النّساء في العمل" لعام 2022، الّذي أجرته شركة PwC الشّرق الأوسط، عن أنّ العديد من النّساء اللّاتي يحاولن العودة إلى سوق العمل بعد انقطاعٍ مهنيٍّ يشعرن بأنّهنّ يواجهن نقصاً في الدّعم من أرباب العمل. يعكس المسح أنّ هذا الإحساس بالإقصاء يعود في أساسه إلى تحيّزاتٍ جندريّةٍ راسخةٍ، وإلى غياب سياسات العمل المرنة الّتي تيسّر لهنّ الاندماج مجدّداً.
فالعودة إلى العمل بعد فترة غيابٍ، نتيجة التزاماتٍ أسريّةٍ أو إجازة الأمومة، كثيراً ما تعتبر نقطة ضعفٍ، إذ ينظر إليها أصحاب العمل نظرة شكٍّ، ويعدّونها فجوةً زمنيّةً تنال من مهارات الأمّهات العاملات.
تقول بريهان أبو زيد: "الخوف من فقدان الزّخم المهنيّ يلازم الكثير من الأمّهات. العودة إلى العمل بعد الانقطاع قد تكون تجربةً تعزل المرأة وترهقها، لا سيّما إذا غاب الدّعم الكافي من صاحب العمل".
من جهتها، تشير نهى هاشم إلى أنّ الأمّهات العائدات قد يواجهن فجوةً معرفيّةً ناتجةً عن التّغيّرات السّريعة في سوق العمل، ممّا يضعف ثقتهنّ بقدراتهنّ. تضيف هاشم: "تتضاءل شبكات الدّعم المهنيّ الّتي كانت لديهنّ، في حين أنّهنّ يواجهن أيضاً الضّغوط الجسديّة والنّفسيّة لإعادة التّأقلم مع الحياة العمليّة".
وتتابع جيسي رضوان، مشيرةً إلى أنّ سوق العمل التّنافسيّ يجعل الأمّهات العائدات يكافحن لاستعادة مواقعهنّ، حيث تعتبر فترة الغياب عقبةً كبرى. وتبدأ هذه التّحدّيات حتّى من مرحلة التّوظيف في أقسام الموارد البشريّة، حيث يواجهن تحيّزاتٍ غير واعيةٍ وتمييزاً يعيق فرصهنّ في الحصول على وظائف أو ترقياتٍ. تقول أبو زيد: "أصعب ما نواجهه هو تلك الحواجز الخفيّة، التّوقّعات غير المعلنة الّتي تجعل من الأمّهات أهدافاً سهلةً للتّحيّز، إذ ينظر إليهنّ على أنّهنّ أقلّ مرونةً أو غير قادراتٍ على تحمّل مسؤوليّاتٍ أكبر بسبب ارتباطاتهنّ الأسريّة".
وتضيف رضوان بحسرةٍ: "كثيراً ما تفضّل الشّركات توظيف النّساء العازبات أو الرّجال على حساب النّساء المتزوّجات اللّاتي يتحمّلن أعباء الأسرة. كان هذا الحكم القاسي محبطاً لي بشكلٍ كبيرٍ، رغم مهاراتي وخبراتي، فقط لأنّني أمٌّ".
الحاجة إلى تحوّلٍ ثقافيٍّ وحلولٍ عمليّةٍ
تواجه الأمّهات العاملات تحدّياتٍ مستمرّةً، أبرزها غياب خيارات العمل المرنة أو العمل عن بعدٍ. وغياب هذه المرونة يحول دون تحقيق توازنٍ صحّيٍّ بين الحياة المهنيّة والأسريّة، ويضاعف من صعوبة إدارة المسؤوليّات المتشابكة.
بالإضافة إلى ذلك، يشكّل نقص الخيارات المتاحة لرعاية الأطفال بأسعارٍ معقولةٍ في معظم الشّركات عائقاً إضافيّاً يثقل كاهل الأمّهات. وتشير بريهان أبو زيد إلى الضّغوط النّفسيّة الّتي تمرّ بها الأمّ الجديدة عند محاولة التّكيّف مع جدول طفلها حديث الولادة. تقول: "الأمّهات اللّاتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة يواجهن تحدّياتٍ كبيرةً، إذ إنّ بيئة العمل والسّياسات المعتمدة لا تتكيّف مع هذا النّوع من الأزمات، ممّا يجبر الأمّ على إخفاء ألمها".
في ما يتعلّق بالحلول، تؤكّد نهى هاشم على أهمّيّة تطوير سياساتٍ أكثر دعماً، بدءاً من إجازة أبويّة أطول لكلا الوالدين، ووصولاً إلى توفير بيئات عملٍ أكثر مرونةً. ومع ذلك، ترى هاشم أنّ الحلول لا تكمن فقط في السّياسات، بل في تحوّلٍ ثقافيٍّ شاملٍ. تقول: "يجب أن تعترف الشّركات بالدّور المزدوج الّذي تلعبه الأمّهات العاملات، سواءً في المنزل، أو في مكان العمل. لرفع الوعي بتحدّيات الأمّهات، لا بدّ من دمج الحوار المفتوح، والإعلام، والدّور القياديّ للشّركات في إحداث تغييرٍ حقيقيٍّ. توفير بيئاتٍ شاملةٍ تسمح للأمّ بتبنّي دورها الجديد، دون أن تخشى على مسارها المهنيّ أمرٌ ضروريٌّ. ويتحقّق ذلك من خلال تدريب المديرين على فهم احتياجات الأمّهات الجدد، بما في ذلك توفير مرافق ملائمةٍ مثل غرف الرّضاعة".
يمكن للاعتراف بالتّحدّيات الّتي تواجهها الأمّهات العاملات وتبنّي سياساتٍ أكثر شمولاً، أن يمكّن الشّركات من استقطاب أفضل الكفاءات والاحتفاظ بها، بالإضافة إلى تعزيز المساواة بين الجنسين وتحسين رفاهية القوى العاملة.
قدّمت حكومة الإمارات، على سبيل المثال، في وقتٍ سابقٍ من هذا العام نموذجاً طموحاً بتحسين سياسة الأمومة وتوفير خيارات عملٍ هجينةٍ للأمّهات اللّاتي لديهنّ أطفالٌ دون سنّ العاشرة. يمكّن خيار العمل من المنزل الأمّهات من إدارة جداولهنّ بشكلٍ أفضل حول التزامات الأسرة. وقد أظهرت استطلاعاتٌ محليّةٌ أنّ 87% من سكّان الإمارات يؤيّدون هذا التّوجّه، وفقاً لاستطلاع صحيفة "خليج تايمز" (Khaleej Times).
تضيف هاشم أنّه لتخفيف الأعباء عن الأمّهات العاملات، يجب على صنّاع السّياسات النّظر في تمديد إجازة الأمومة، كما حدث في الإمارات الّتي مدّدت فترة الإجازة إلى 90 يوماً براتبٍ كاملٍ في 2024. كما تشدّد على أهمّيّة تمديد إجازة الأبوّة لدعم أبوّة الطّرفين، وإلزام الشّركات بتقديم برامج "إعادة الاندماج" للأمّهات العائدات للعمل بعد انقطاعٍ، إلى جانب فرض عقوباتٍ على التّمييز ضدّ الحوامل أو الأمّهات في التّوظيف والتّرقيات.
وبحسب تقريرٍ صادرٍ عن منظّمة العمل الدّوليّة، فإنّ الاستثمار في سياسات الرّعاية يمكن أن يولّد ما يصل إلى 13 مليون وظيفةٍ بحلول عام 2035 في 12 دولةً بمنطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا. يشمل ذلك إجازات رعاية الأطفال، فترات الرّضاعة للأمّهات العاملات، وتوسيع خدمات رعاية الطّفولة المبكّرة والتّعليم، ورعاية المسنّين طويلة الأجل.
يعدّ توفير الشّركات لمرافق رعاية الأطفال في مواقع العمل أو قربها خطوةً إيجابيّةً لدعم الأمّهات العاملات وتعزيز استقرارهنّ الوظيفيّ. كما يعزّز استقبال الأطفال في مكان العمل العلاقة بين الأمّهات وأصحاب العمل، والاستثمار في سياساتٍ داعمةٍ للأسرة لا يعود بالفائدة فقط على الموظّفات، بل على بيئة العمل ككلٍّ، حيث يساهم في تحسين الإنتاجيّة والاحتفاظ بالمواهب.
نحو مستقبلٍ أكثر إشراقاً للأمّهات العاملات
رغم التّقدّم الملاحظ، ما زالت المنطقة بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التّحسينات لدعم الأمّهات العاملات. يتعيّن على الشّركات إدراك القيمة الكبيرة الّتي تضيفها الأمّهات إلى سوق العمل، وأن تسعى جدّياً إلى توفير الدّعم اللّازم لتمويلهنّ وتوفيق حياتهنّ المهنيّة والأسريّة. وفي هذا السّياق، تؤكّد نهى هاشم أنّ "الدّعوة إلى سياسات إجازةٍ والديّةٍ أكثر شمولاً وإنصافاً تمثّل خطوةً جوهريّةً نحو إعادة تشكيل الأعراف الثّقافيّة في دول منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا".
من خلال هذه التّحوّلات، يمكن تعزيز المساواة بين الجنسين في كلا المنزل ومكان العمل، ممّا يساهم بشكلٍ مباشرٍ في تحسين رفاهية الأسر والقوى العاملة على حدٍّ سواءٍ.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في عدد أكتوبر من مجلة "عربية .Inc". لقراءة العدد كاملًا عبر الإنترنت، يُرجى النقر هنا.