فن المقابلات: أسرار جذب المواهب الفريدة
في عالمٍ تُعدّ فيه الكفاءات أعظم أصول الشّركات، تصبح المقابلة الفنّ الأهمّ لاكتشاف الموهبة الّتي تغيّر قواعد اللعبة
هذا المقال متوفر أيضاً بلغته الأصليّة الإنجليزية، بقلم كاثرين فارلي هنا
حين يُثار الحديث عن استقطاب الكفاءات المتميّزة، تتجلّى مرحلة المقابلة بوصفها إحدى الرّكائز الحاسمة الّتي لا غنى عنها في عملية التّوظيف. يدرك كلّ مختصٍّ في مجال الموارد البشريّة (HR) وكلّ خبيرٍ في التّوظيف أهمّية هذه المرحلة، ولكن يبقى التّساؤل مطروحاً: هل نمنح التّفكير العميق في استراتيجيّات المقابلات وأبعادها النّفسيّة القدر الّذي تستحقّه؟
تحذّر مجلّة هارفارد بزنس ريفيو (Harvard Business Review) من حالة الرّكود الّتي تخيّم على هذا المجال، مشيرةً إلى ما وصفته بـ"افتقارٍ مروّعٍ للجهود المنهجيّة لتحسين هذه العمليّة القديمة المتوارثة." فبرغم أنّ المقابلة لطالما كانت محوراً مركزيّاً في عمليّة التّوظيف، إلّا أنّها ما زالت تستحقّ إعادة النّظر والتّطوير المستمرّ.
أرى أنّ التّوقّف بين الحين والآخر لإعادة تقييم الخطوات والبحث عن أوجه القصور أمرٌ لا غنى عنه. وهذا بالتّحديد هو هدف هذا المقال: استكشاف العوامل الّتي تؤثّر في نجاح المقابلة. كما سأسعى إلى تقديم نصائح من قادة الأعمال البارزين، وأسلّط الضّوء على دروسٍ نستطيع أن نستلهمها من خبراء المقابلة في مجالاتٍ أخرى، مثل التّلفزيون.
فلنبدأ إذاً!
خلق بيئةٍ تحفّز المرشّحين على التّميّز
يدرك المحاورون المتمرّسون أنّ نجاح المقابلات لا يكمن فقط في الأسئلة المطروحة، بل في خلق بيئةٍ تتيح للمرشّح أن يظهر على حقيقته، بعيداً عن التّوتّر والتّصنّع. المقابلة ليست مجرّد تبادلٍ للكلمات، بل لقاءٌ إنسانيٌّ يحتاج إلى سياقٍ يبعث على الرّاحة، ويشجّع على البوح الصّادق. هنا تتجلّى براعة المحاور في بناء جسور الثّقة وتذليل الحواجز النّفسيّة الّتي قد تثقل المرشّح وتعيق أداءه.
في هذا السّياق، يلهمنا ريتشارد برانسون بفكرة المقابلات غير التّقليديّة، كتنظيمها أثناء نزهةٍ أو رحلةٍ بحريّةٍ. هذا النّهج ليس ترفاً، بل إستراتيجيّةً ذكيّةً تهدف إلى إخراج المرشّح من القالب الرّسميّ المعتاد، وجعله يشعر بالاسترخاء، ممّا يسمح له بالتّعبير عن ذاته بصدقٍ ووضوحٍ.
ومن جهةٍ أخرى، تظهر أوبرا وينفري كيف يمكن للتّعاطف الإنسانيّ أن يحدث فارقاً كبيراً في حواراتها. لقد أبدعت في خلق مساحاتٍ آمنةٍ تشعر ضيوفها بأنّهم موضع ثقةٍ واحترامٍ، ممّا يحفّزهم على مشاركة تجاربهم وأسرارهم بصدقٍ وراحةٍ. هذا الأسلوب يبرز أهمّيّة البيئة الدّاعمة في الكشف عن أعماق الشّخصيّة.
بطبيعتها، تسبّب المقابلات توتّراً لدى معظم الأشخاص. ومع ذلك، يتميّز المحاورون العظام بقدرتهم على تبديد هذا التّوتّر، وتحويل اللّقاء إلى فرصةٍ للحوار المفتوح. البداية الودّيّة والحوار البسيط لا يعتبران مجرّد مجاملةٍ، بل هما خطوةٌ حاسمةٌ في بناء اتّصالٍ إنسانيٍّ يشجّع على الصّدق والانفتاح.
الأصالة، في نظر أستاذة فنّ المقابلة، ليست مجرّد غايةٍ، بل هي جوهر التّقييم العادل. هذه الأصالة لا تستخرج إلّا عندما يشعر المرشّح بالطّمأنينة والارتياح. عندئذٍ، يصبح قادراً على التّعبير عن ذاته بوضوحٍ وثقةٍ، ويصبح المحاور قادراً على فهم شخصيّته الحقيقيّة. بهذه الطّريقة، تتحوّل المقابلة من مجرّد اختبارٍ رسميٍّ إلى تجربةٍ تفاعليّةٍ تكشف الجوهر، وتمهّد لاتّخاذ القرار الصّحيح.
طرح الأسئلة الذّكية: متى تستفسر؟ ومتى تتعمّق؟
تعدّ الأسئلة المفتوحة أحد أعمدة فنّ المقابلات، إذ تتجاوز ببساطتها الظّاهرة لتتيح للمرشّح مساحةً للتّعبير عن أعماق شخصيّته وتجارب حياته. لا تكتفي الأسئلة المفتوحة بجمع الإجابات، بل تبني جسراً يربط بين المحاور والمرشّح لاستكشاف ما يخفى خلف الكلمات. ففي المقابلات السّلوكيّة، على سبيل المثال، يطلب المحاور وصف موقفٍ حقيقيٍّ شارك فيه المرشّح بفاعليّةٍ ضمن فريق عملٍ، بدلاً من طرح سؤالٍ مباشرٍ كـ"هل ترى نفسك لاعب فريقٍ؟ ". وعندما تكون الإجابة غامضةً، أو تفتقر للتّفاصيل، يتابع المحاور بطرح أسئلةٍ استفساريّةٍ كـ"كيف واجهت هذا التّحدّي؟" أو "لماذا اخترت هذا الحلّ؟" لتتّسع دائرة الحوار، وتظهر الأبعاد الحقيقيّة لشخصيّة المرشّح.
برز الصّحفيّ البريطانيّ بيرس مورغان بطرحه الأسئلة الجريئة الّتي تخترق سطح الحكايات لتصل إلى جوهرها. في برامجه المشهورة مثل بيرس مورغان لايف (Piers Morgan Live)، استطاع بطريقته المباشرة أن يكسر الحواجز، ويكشف عن خفايا القصص. ومع أنّ هذا النّهج قد يبلغ أحياناً حدّ الحدّة، كما في برنامج جونيور أبرينتس (Junior Apprentice) الّذي يقدّمه ألان شوغر، إلّا أنّه يظهر أهمّيّة الطّرح الجريء للأسئلة الصّعبة.
قدّم جيف بيزوس، المدير التّنفيذيّ لشركة أمازون (Amazon)، مثالاً آخر على الصّرامة في المقابلات. فقد صرّح بوضوحٍ أنّه يفضّل إجراء عشرات المقابلات دون توظيف أحدٍ على أن يخاطر باختيار الشّخص غير المناسب. تظهر هذه الفلسفة إدراكاً عميقاً لأهمّيّة الدّقّة في اختيار الكفاءات، إذ إنّ الموظّف الخطأ قد يُضعف الفريق كلّه، بينما يضيف الشّخص المناسب قيمةً لا تقدّر بثمنٍ.
تثبت هذه الأمثلة أنّ الأسئلة ليست وسيلةً للتّحقّق فقط، بل أداةً لاستكشاف الحقائق وكشف الإمكانات. تدلّ هذه الطّريقة على أنّ النّجاح في المقابلات يعتمد على الجرأة في البحث عن الحقيقة، والإصرار على كشف الجوهر، مع الحرص على الوصول إلى توازنٍ دقيقٍ بين الشّفافيّة والصّدق، دون إهمال الكرامة الإنسانيّة للمرشّح.
فنّ الإنصات العميق لفهم ما وراء الكلمات
يدرك محترفو الموارد البشريّة والمختصّون في التّوظيف المتميّزون أنّ الإنصات ليس مجرّد سماعٍ للكلمات، بل هو فنٌّ يتطلّب فهم ما يقال وما يخفى بين السّطور. إنّهم يلتقطون أدقّ الإشارات غير اللّفظيّة، مثل لغة الجسد ونبرة الصّوت وحتّى التّناقضات البسيطة. إذا تهرّب المرشّح من الإجابة عن سؤالٍ معيّنٍ، أو بدا متردّداً، فإنّ المحاور البارع يلاحظ ذلك، ويتدخّل برفقٍ، مستفسراً بأسئلةٍ ذكيّةٍ تشجّع المرشّح على التّوضيح، دون أن تشعره بالضّغط. وتزداد أهمّيّة هذه المهارة حين يراد تقييم مدى انسجام المرشّح مع ثقافة الشّركة.
يتطلّب الإنصات الفعّال تفاعلاً حقيقيّاً مع المرشّح؛ من خلال طرح أسئلةٍ متابعةٍ تظهر الاهتمام، وإعادة صياغة الإجابات للتّأكّد من فهمها، مع الحفاظ على تواصلٍ بصريٍّ يعزّز الشّعور بالثّقة. يفضّل أن تتاح للمرشّح فرصة الحديث لنسبةٍ تصل إلى 70% من وقت المقابلة، ممّا يمنحه مجالاً للتّعبير الكامل عن نفسه، ويسمح للمحاور بتكوين رؤيةٍ متكاملةٍ عن شخصيّته وقدراته.
ولا يخفى أنّ المعرفة بعلم النّفس تضيف بعداً قيّماً لهذه العمليّة. فهم التّحيّزات ولغة الجسد ومستوى الذّكاء العاطفيّ لدى المرشّحين يمنّح المحاور أدواتٍ لتفسير الإجابات بدقّةٍ أكبر، والتّعامل بمرونةٍ مع مختلف الشّخصيّات.
الاعتماد على السّلوكيّات لتوقع الأداء المستقبليّ
يعتمد المحاورون البارعون على تقنيّات المقابلات السّلوكيّة الّتي ترتكز على مبدأٍ بسيطٍ، لكنّه بالغ الأهمّيّة: السّلوك السّابق هو أفضل مؤشّرٍ على الأداء المستقبليّ. بدلاً من طرح أسئلةٍ افتراضيّةٍ عن كيفيّة تعامل المرشّح مع موقفٍ ما، يطلب من المرشّح أمثلةٌ حقيقيّةٌ من تجاربه السّابقة.
على سبيل المثال، يسأل المرشّح: "كيف تعاملت مع خلافٍ مع أحد أعضاء فريقك؟"، ليُتاح المجال للمرشّح لوصف موقفٍ واجهه فعليّاً، وكيف تعامل معه، وما النّتائج الّتي توصّل إليها. تظهر هذه الأسئلة مدى توافق المرشّح مع قيم الشّركة، وتكشف عن مهاراته الشّخصيّة، مثل قدرته على حلّ المشكلات والعمل ضمن فريقٍ.
يوفّر هذا النّهج للمحاور رؤيةً دقيقةً لسلوك المرشّح في مواقف عمليّةٍ حقيقيّةٍ، ممّا يمكّنه من تقييم مدى جاهزيّة المرشّح لتحمّل مسؤوليّات الوظيفة. إنّها طريقةٌ تتجاوز الافتراضات لتقدّم حقائق، ممّا يجعلها أداةً لا غنى عنها لتوظيف الأشخاص المناسبين.
الذّكاء العاطفيّ والتّوافق الثّقافيّ: سرّ التّكيف المهنيّ
يعدّ الذّكاء العاطفيّ من أصعب المهارات الّتي يمكن قياسها لدى المرشّحين، ولكنّه أيضاً من أكثرها قيمةً وتأثيراً. يتمكّن المرشّحون الّذين يفهمون أنفسهم بعمقٍ، من التّعرّف على نقاط قوّتهم وضعفهم، والتّعبير عنها بثقةٍ ووضوحٍ.
يسأل المحاورون المتمرّسون أسئلةً تدفع المرشّح للتّفكير في ذاته، مثل: "ما هي الملاحظات الّتي أثّرت فيك بشكلٍ كبيرٍ؟". هذه الأسئلة لا تهدف إلى كشف العيوب – فالجميع لديهم عيوبٌ – ولكنّها تهدف إلى معرفة مدى استعداد المرشّح للتّطوّر والانفتاح على التّعلّم.
يركّز المحاورون أيضاً على تقييم مدى انسجام المرشّح مع ثقافة الشّركة، وليس فقط كفاءته التّقنيّة. الهدف هو العثور على أشخاصٍ يمكنهم العمل ضمن بيئة الشّركة، وتقديم إضافاتٍ من خلال شخصيّاتهم ومهاراتهم.
على سبيل المثال، يسأل المحاورون أسئلةً مثل: "ما الّذي يدفعك لبذل أفضل ما لديك؟". يعتمد مارك زوكربيرغ، مؤسّس ميتا (Meta)، سؤالاً بسيطاً أثناء المقابلات: "هل يمكنني العمل تحت إدارة هذا الشّخص؟". هذا السّؤال يساعد في تحديد مدى توافق المرشّح مع ثقافة الشّركة بطريقةٍ مباشرةٍ وفعّالةٍ.
إغلاق المقابلة بانطباع قوي ورسالة واضحة
تختتم المقابلات بأسئلةٍ مفتوحةٍ تتيح للمرشّحين فرصة التّعبير عن أنفسهم بحريةٍ، واستعراض جوانب من خبراتهم أو شخصيّاتهم التي لم تناقش أثناء المقابلة. يسأل المرشّح: "هل هناك شيءٌ لم نتطرّق إليه وتراه مهمّاً؟". يستعاد الحوار الشخصيّ غير الرسميّ الذي دار في بداية المقابلة، ويتناول مواضيع مثل الهوايات والأنشطة التّرفيهيّة.
تبرز هذه الأسئلة الجوانب الإنسانيّة للمرشّح، وتتيح له فرصةً لإظهار شغفه ووجهات نظره. تُنهى المقابلات بشكر المرشّحين على وقتهم، وتدعى لطرح أيّ أسئلةٍ إضافيةٍ. وتُوضّح الخطوات القادمة بوضوحٍ، مما يترك انطباعاً إيجابيّاً ودائماً عن الشركة.
لا يكتفي المحاورون البارعون بالأساسيّات، بل يتجاوزونها باستخدام مزيجٍ من الفطنة والتّعاطف والأسئلة المدروسة لاستكشاف أعمق ما لدى المرشّحين. لا تركّز العمليّة على استبعاد غير المناسبين فحسب، بل تركّز على اكتشاف الشّخص الذي يضيف قيمةً حقيقيّةً للدّور، وينمو مع المؤسّسة.
يحقّق هؤلاء المحاورون معايير ذهبيةً للتّوظيف من خلال الإنصات العميق، وتصميم الأسئلة بدقّةٍ، وتشجيع التّفكير الذاتيّ. وفي عالمٍ تعدّ فيه الكفاءات رأس المال الأهمّ للشركات، لا توجد مهارةٌ أثمن من اختيار الشّخص المناسب في المكان المناسب.
عن الكاتبة:
كاثرين فارلي، المؤسّسة والرّئيسة التّنفيذيّة لشركة تالنت هاير (Talent Higher)، إحدى أبرز الشّخصيّات في مجال التّوظيف الاستراتيجيّ. بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من 14 عاماً، عبر أسواق المملكة المتّحدة، والإمارات العربيّة المتّحدة، والمملكة العربيّة السّعوديّة، استطاعت كاثرين بناء سمعةٍ قويّةٍ بوصفها رائدةً تجمع بين الخبرة العمليّة والرّؤية الاستراتيجيّة، ما جعلها من أعمدة هذا المجال.
أظهرت كاثرين شغفاً لا يضاهى بتوصيل المواهب الاستثنائيّة إلى الفرص المثاليّة، ممّا أسهم في تمكين الشّركات من تحقيق نجاحاتٍ باهرةٍ بفرق عملٍ ذات أداءٍ عالٍ. سواءً في استقطاب الكفاءات الشّابّة أو اختيار القادة للمناصب العليا، نجحت بفضل دقّتها وحرصها على التّميّز في إحداث تغييراتٍ جوهريّةٍ في مسارات النّموّ للمؤسّسات الّتي تعاملت معها.
من خلال قيادتها لشركة تالنت هاير، تستمرّ كاثرين في إعادة تعريف معايير التّوظيف، ملتزمةً برؤيةٍ واضحةٍ لتمكين الشّركات من تجاوز أهدافها عبر استقطاب أفضل الكفاءات. رؤيتها الاستراتيجيّة وعملها الدّؤوب جعلاها نموذجاً يحتذى به في بناء مستقبل التّوظيف العالميّ.