كيف يتحوّل تعدّد المهام من مهارة إلى لصٍّ يسرق بهاء الإتقان؟
تعدّد المهام يمنحك شعوراً زائفاً بالكفاءة، لكنّه في حقيقته عبءٌ على الفكر، يمنعه من الإبداع ويسرق منه لذة الإنجاز
هل جربت يوماً أن ترسل عقداً، وتردّ على رسائل البريد الإلكترونيّ، وتحدّد اجتماعاً في الوقت نفسه؟ إذا كنت مثلي، ربّما تجد نفسك في النّهاية تشعر بالتّشتّت وقلّة الإنتاجيّة. فجميعنا تعلّمنا أنّ "تعدّد المهامّ" هو الطّريق الأمثل لتحقيق الإنتاجيّة. ولكنّ الحقيقة هي أنّ تعدّد المهامّ قد يؤدّي إلى نتائج عكسيّةٍ. عندما نوزّع انتباهنا على عدّة مهامٍّ في آنٍ واحدٍ، فإنّنا لا نكون قادرين على التّركيز بشكلٍ كاملٍ على أيٍّ مّنها، ممّا يعيّق تقدّمنا الفعليّ في إتمامها.
وبدلاً من ذلك، أصبحت الآن من مؤيّدي التّركيز على مهمّةٍ واحدةٍ: الانغماس في مهمّةٍ واحدةٍ بتركيزٍ وعمقٍ، كما لو أنّك تزرع بذرةً واحدةً، تعتني بها بكلّ اهتمامٍ، وتراقبها وهي تنموّ، بدلاً من توزيع انتباهك على عدّة مهامٍّ في وقتٍ واحدٍ دون العناية بأيٍّ مّنها.
الضّغط لتولّي جميع الأدوار
غالباً ما نواجه - كروّاد أعمالٍ مستقلّين - ضغطاً هائلاً للتّحقّق من كلّ شيءٍ بأنفسنا. فنحن الرّئيس التّنفيذيّ، والمسوّق، والمحاسب، وأيضاً ممثّل خدمة العملاء، كلّ هذه الأدوار في شخصٍ واحدٍ. فيمكن أن يكون هذا الضّغط المستمرّ مرهقاً، وقد يدفعنا للاعتقاد أنّنا يجب أن نكون دائماً في حركةٍ مستمرّةٍ لضمان استمراريّة أعمالنا. لكنّ هذا النّوع من التّفكير يمكن أن يجعلنا نرغب أحياناً في العودة إلى الحياة والوظيفيّة التّقليديّة. ففي بيئة العمل المكتبيّة، نمتلك دعماً من الزّملاء الّذين يساعدون في اتّخاذ القرارات، إن لم يكونوا قد اتّخذوها نيابةً عنّا.
عندما نحاول التّوفيق بين عدّة أدوارٍ في وقتٍ واحدٍ، فإنّنا نفقد تركيزنا وطاقة عملنا. بدلاً من التّفوّق في مجالٍ واحدٍ، نجد نفسنا نؤدّي مهامٍ بشكلٍ متوسّطٍ في عدّة مجالاتٍ. لا يؤثّر هذا فقط على جودة العمل، بل يستهلك أيضاً حماسنا ودافعنا. حيث يؤدّي التّبديل المستمرّ بين المهامّ إلى الإرهاق، ممّا يجعلنا نشعر بالتّعب، وفقدان الإلهام، والميّل للاستسلام.
التحرّر من فخّ تعدّد المهام
يكمن المفتاح للتّغلّب على هذا الفخ بالاعتراف بعدم قدرتنا على تنفيذ كلّ شيءٍ — وأنّه لا يجب علينا فعل ذلك — يمكن البدء في تحديد الأولويّات والتّركيز على ما يستحقّ الاهتمام. ويتمثّل هذا في تحديد المهامّ الّتي تتماشى مع نقاط قوّتنا وتفويض أو تبسيط ما تبقّى. من خلال التّركيز على المهامّ الأساسيّة، يمكن تقديم عملٍ ذي جودةٍ أعلى وتحقيق نتائج أفضل.
إذ يسمح تبنّي نهجٍ أكثر تركيزاً بوضع توقّعاتٍ واقعيّةٍ لأنفسنا. ومن المهمّ أن نتذكّر أنّ التّفوّق لا يتحقّق من خلال تنفيذ كلّ شيءٍ، بل من خلال تنفيذ الأشياء الصّحيحة بشكلٍ متقنٍ.
فعند التّخلّي عن الحاجة للعب جميع الأدوار، يمكن خلق بيئة عملٍ أكثر توازناً وإشباعاً. فيكمن السّحر الحقيقيّ في تخصيص وقتٍ لإتقان مجالٍ واحدٍ في كلّ مرّةٍ، وتعلّمه بشكلٍ تامٍّ قبل التّنقّل إلى المجال التّالي. وينطبق هذا على كلّ شيءٍ، من تعلّم التّسويق الفعّال إلى بناء علاقاتٍ مع العملاء. فلا يأتي النّموّ الفّعال من تأدية مزيدٍ من المهامّ، بل يأتي من أداء الأشياء الصّحيحة بنيّةٍ ووعيٍ.
إبحارٌ في متاهة التّسويق
وعند التّطرّق إلى التّسويق، يواجه روّاد الأعمال المستقلين ضغوطاً هائلةً ليكونوا حاضرين في كلّ مكانٍ في نفس الوقت. فجلب عصر التّطور الرّقميّ عدّة منصّاتٍ وقنواتٍ، مثل وسائل التّواصل الاجتماعيّ، البودكاست، النّشرات الإخباريّة، والمدونات، حيث يُعتقد أنّ كلّ واحدةٍ منها تشكّل المفتاح للوصول إلى جمهورٍ أوسع وتنمية الأعمال. ولكن، التّوقّعات الّتي تفرض التّواجد على كلّ منصّةٍ في آنٍ واحدٍ مرهقةٌ وغير منتجةٍ.
في الحقيقة، أنّه على الرّغم من مزايا كلّ هذه القنوات التّسويقيّة، ليس من الضّروري التّعامل معها جميعها في وقتٍ واحدٍ. إنّ محاولة المحافظة على وجودك في جميع منصّات التّواصل الاجتماعيّ، وبدء بودكاستٍ، ومواكبة النّشرات الإخباريّة، ستؤدّي إلى تشتّت جهودك بشكلٍ غير فعّالٍ.
وبدلاً من ذلك، يجب التّركيز على ما يتّفق أكثر معك ومع جمهورك. لذا يجب عليك اختيار المنصّات الّتي تتناسب مع نقاط قوّتك وحيث يكون جمهورك المستهدف أكثر نشاطاً. على سبيل التّمثيل، استغرق مني الأمر أربع سنواتٍ لإطلاق البودكاست الخاص بي. خلال تلك الفترة، تمّ التّركيز على بناء قاعدةٍ قويّةٍ من خلال قنواتٍ أخرى شعرت بأنّها أكثر قابليّةٍ للإدارة وأكثر أصالةٍ بالنّسبة لي. إذ سمح لي هذا النّهج التّدريجيّ بصقل رسالتي والتّواصل مع جمهوري بطريقةٍ شعرت بأنّها حقيقيّةٌ وقابلةٌ للاستمرار.
ما فوائد الحد من التّعدد في المهامّ؟
عند بدء رحلتي كرائد أعمالٍ مستقل، كنت أعتقد أنّ التّفوّق يتناسب مع حجم العمل. ملأت أيّامي بالمهامّ الّتي لا تنتهي، معتقداً أنّ الانشغال يعني الإنتاجيّة. ولكن، أدركت سريعاً أنّ هذه الطّريقة كانت تؤدّي إلى الإرهاق، وأنّ الجميع من حولي - عائلتي وعملائي - كانوا يحصلون على أسوأ ما فيه. ومن خلال الحد من التّعدد في المهامّ، اكتشفت أنّه أصبح بمقدوريّ التّركيز بعمقٍ أكثر على كلّ مهمّةٍ، ممّا أدّى إلى عملٍ ذي جودةٍ أعلى وإحساسٍ أكبر بالرّاحة طوال اليوم. وإليك بعض الطرق التي اعتمدتها لتبني نهجاً أكثر تركيزاً:
- إنشاء قائمةٍ بثلاث أولوياتٍ يوميّةٍ: يبدأ كلّ يومٍ بتحديد أوّلويّاتك الثّلاثة الأهمّ الّتي تريد إنجازها قبل أيّ شيءٍ. يساعدك ذلك على التّركيز على ما هو مهمٌّ حقّاً ومنعك من التّشتّت بالمهامّ الأقلّ قيمةً. فمن خلال تحديد أوّلويّاتك، يمكن تخصيص طاقتك لإتمام هذه المهامّ الرّئيسيّة بجودةٍ أعلى.
- تقسيم الوقت: يجب عليك تخصيص فتراتٍ زمنيّةٍ محدّدةٍ لكلّ مهمّةٍ على مدار اليوم. يمكن وضعها في تقويمك إذا لزم الأمر (وأنا أفعل ذلك طبعاً). ومن خلال تخصيص وقتٍ غير مُقاطعٍ لكلّ مهمّةٍ، تصبح قادراً على الغوص بعمقٍ في عملك دون التّأثّر بالمشتّتات من حولك. حيث يشجّعك هذا الأسلوب على التّواجد الكامل والمشاركة في كلّ مهمّةٍ.
- وضع الحدود: كما عليك تحديد حدودٍ واضحةٍ لوقت عملك. قد يتطلّب ذلك تحديد ساعاتٍ معيّنةٍ لفحص البريد الإلكترونيّ أو إيقاف إشعارات الهاتف أثناء فترات العمل المركّز. صدّقني، ستلاحظ تغيّراً كبيراً في يومك عندما تضع هاتفك في وضع "عدم الإزعاج".
- التأمل والتعديل: في نهاية كلّ يومٍ، يمكنك تخصيص بضع دقائقٍ للتّفكير فيما تمّ إنجازه وما كان يمكن تغييره. يساعدك هذا في التّعرّف على الأنماط وتعديل أسلوبك ليصبح أكثر فعّاليّةً مع مرور الوقت.
وبالإضافة إلى ذلك، من أبرز الفوائد المفاجئة للحدّ من تعدّد المهامّ هي المساحة الّتي تخلقها للإبداع. فعندما تمتلئ عقولنا بالكثير من المهامّ، يصعب إيجاد مجالٍ للأفكار الجّديدة للنّموّ. من خلال تبسيط جدولي والتّركيز على مهامٍّ أقلّ، تمكّنت من الوصول إلى مصدرٍ إبداعيٍّ لم أكن أعلم بوجوده من قبل. ممّا سمح لي بتطوير أفكارٍ أكبر لعملائي وعروضٍ جديدةٍ دفعت عملي قُدماً.
ومن جهةٍ أخرى، تعدّ القدرة على بناء علاقاتٍ أقوى، ميزةٌ غير متوقعةٍ أخرى للحد من تعدد المهامّ. عندما لا نسرع من مهمةٍ إلى أخرى، يتاح لنا الوقت والطّاقة للتّفاعل بصدقٍ مع الآخرين. سواءً كان ذلك في اجتماعٍ مع عميلٍ أو فعاليّةٍ للتّواصل المهنيّ، إذ يتيح لنا التّواجد الكامل الاستماع بعمقٍ والردّ بشكلٍ مدروسٍ. وهذا بدوره يعزز علاقتنا ويقويها، ويعزز أيضاً سمعتنا كمهنييّن موثوقيّن ومهتميّن.
الخلاصة، في عالمٍ يبالغ في تقدير العمل الشاقّ، قد يبدو احتضان البساطة أمراً غير منطقيٍّ. ومع ذلك، وجدت أنّ الحد من تعدد المهامّ قد جلب لي شعوراً بالفرح والإشباع لم أشعر به عندما كنت دائماً في حالة من الحركة والتّشتت. وبصفتنا رواد أعمالٍ مستقلّين، من السّهل الوقوع في فخّ الاعتقاد بأنّ المزيد يعني الأفضل. ولكن من خلال تغيير هذا المُعتقد، يمكن تحقيق نجاحٍ أكثر معنى واستدامةً. بالتّركيز على مهمّةٍ واحدةٍ في كلّ مرةٍ، سيتمكّن المرء من إتقان مهنته، ورعاية إبداعه، وبناء علاقاتٍ دائمةٍ. لذا، في المرة القادمة الّتي تشعر فيها بالإغراء للقيام بعدة مهامٍّ في وقتٍ واحدٍ، تذكر أنّ الحد من تعدد المهامّ هو المفتاح لتحقيق النّجاح.