كيف تحولت مواقع التواصل لإمبراطوريات مالية تحكمها خوارزميات؟
كيف تحولت مواقع التواصل لإمبراطوريات مالية تحكمها خوارزميات؟
بدأت شبكات التواصل الاجتماعي كأفكار منبثقة عن المنتديات مع السنوات الأولى من القرن الحالي الذي شارفنا على منتصفه، بدايةً كانت بسيطة تقوم على أسس التواصل بين الأصدقاء، العائلة، ثم تطورت بشكل دراماتيكي جعل منها صناعة عملاقة عنوانها الرئيسي “الشهرة والمال”.
كثيراً ما ارتبطت تلك العبارة بصناعة الفن ونجومه من ممثلين ومغنين، ففي الغرب كانت “هوليوود” هي الحلم الذي يراود الشباب لما تنطوي عليه الشهرة من إدرار للمال بعد تهافت المعلنين، ونفس الأمر ينطبق على “بوليود” في الهند، ويمكن القياس على بقية المجتمعات العربية والأجنبية، فكانت مصر قبلة الراغبين في الشهرة أو الظهور على الصعيد الفني.
عندما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي بالانتشار في مجتمعنا العربي في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان المسيطرين على الساحة هم الفنانين وأصحاب الأعمال الفنية القديمة، من كنا نسمعهم عبر الراديو والكاسيت وأقراص السي دي ونشاهدهم عبر التلفزيون وجدناهم عبر الشبكات الاجتماعية، فتابعناهم وتبعناهم، ولكن حتى حين.
فمن طبع الإنسان الملل وحب استكشاف الجديد، وكانت الشبكات الاجتماعية مغذية للفضول الإنساني بطريقة استثنائية مرعبة، فلا هوليود ولا بوليود ولا كافة منتجي الأرض إن اجتمعوا يمكنهم إنتاج ربع ما تنتجه شبكة يوتيوب على سبيل المثال من أعمال فنية وعلمية وثقافية ودرامية..الخ متنوعة بالوجوه والأفكار والإمكانيات الجيدة والكفاءات.
مواقع التواصل الاجتماعي.. من الصبغة المجتمعية لإمبراطوريات مالية تقصي المنافسين
وكانت بدايات الشبكات الاجتماعية جميلة، بأسس وقواعد بسيطة، وكان الجميع سعداء إلى أن بدأ الجمهور يكبر، وبدأ الخط الزمني لعرض المنشورات على أي منصة من تلك المنصات يضيق، وبدأت الصبغة التجارية تسيطر بشكل واضح، لتتحول من مواقع “تواصل اجتماعي” إلى مواقع لصناعة المال لأصحابها، تحكمها الخوارزميات بشكلٍ رئيسي.
بعد أن تحوّلت تلك الشبكات عن فكرتها الرئيسية في التواصل وأخذت طريق المال، بدأت تضع القواعد التي تزيدها ثراءاً على حساب مختلف الأطراف، فكانت وسائل الإعلام التقليدية أول الخاسرين ثم الآن يتم الإجهاز على وسائل الإعلام الإلكترونية، أو بعبارة أخرى تتم إعادة صياغة الأسس الإعلامية من جديد، وجزء كبير من تلك الصياغة مرتبط بالقواعد التي تضعها الشبكات الاجتماعية التي كانت مؤخراً المصدر الأكبر لإيرادات وسائل الإعلام، ثم ما لبثت أن أصبحت مصدراً لمصاريف وسائل الإعلام وضرورة لاستمرارها.
ولتوضيح ذلك بعبارة مختصرة، كانت الشبكات الاجتماعية تدفع لوسائل الإعلام أمولاً نظير نشر تلك الوسائل لموادها على الشبكات وتقاسمهم إيرادات المعلنين بطريقة غير مباشرة، الآن أصبحت وسائل الإعلام تدفع الأموال للشبكات الاجتماعية حتى يحظى محتواها الإعلامي بالوصول أو المشاهدة، وهذا مثال بسيط لما غناه الفنان السعودي عبد المجيد عبدالله “هكذا الدنيا تدور” أو كما غنت الفنانة الراحلة ذكرى “يوم ليك ويوم عليك مش كل يوم معاك”.
أما بالنسبة للمستخدم العادي، فقد بدأت كافة الشبكات الاجتماعية بشكلٍ مجاني، ومعظمها مازال كذلك، لكن الحسابات المجانية بات وجودها اليوم كعدمه، فليس لها أي امتيازات مما تتيحه تلك المنصات للحسابات المدفوعة، فلا وصول ولا توزيع ولا تفاعل عليها ولا مشاهدات، فبات هناك “ناس ساكنين فوق يدفعون اشتراكات لتلك الشبكات/ وناس تحت ليس لحساباتهم أي امتيازات”.
وكذلك الحال بالنسبة للفنانين أو النجوم التقليديين، فمنهم من نجا وواكب الواقع الجديد الذي فرضته تلك المنصات، ومنهم من خسر واختفى، وكثير منهم خاصة نجوم الصف الثاني الذين اعتادوا التلفزيون أصبح لهم منافسين جدد هم “اليوتيوبر/ التيك توكر” الذين يحظون بدعم تلك المنصات لأنهم مادتها الرئيسية التي تجني لها المال، فإما أن تنخرط كصانع محتوى بعيداً عن مفهوم الفن التقليدي أو ارقد بسلام.
الخوارزميات تحكم الشبكات الاجتماعية وتصنع النجوم
لكن صناعة المحتوى لسيت كافية إن لم تفضلك الخوارزمية وتبرز المحتوى الذي تصنعه، يزداد عدد السكان في العالم يومياً، لكن نسبة ازدياد عدد صناع المحتوى كنسبة وتناسب أكبر بكثير من ازدياد عدد مستخدمي تلك المنصات، ولأن وقتك الذي تقضيه على أي منصة يعني المال بالنسبة لها، فكان لا بد لتلك المنصات أن تتحكم فيما تشاهده وتتفاعل معه، والمحظوظ هو من تصنف الخوارزمية محتواه على أنه مفيد للمنصة وتبدأ في ترويجه ودفعه، فبذلك ستصنع منه نجماً وغالباً ثرياً.
تتغير “خوارزمية” كل شبكة مراراً على مدار العام، فكافة الشبكات بدون استثناء تحدث خوارزمياتها بشكل دوري لتتأكد من أنها تخدم مصالحها وتحقق أهدافها بشكلٍ جيد، ثم تبحث عن تجربة المستخدم والعميل.
تعمل الخوارزميات عبر طرق وأساليب معقدة، ولكنها بسيطة بنفس الوقت، لأنها جميعها تشترك بالآتي:
1- تضع كل شبكة من شبكات التواصل الاجتماعي مجموعة من القواعد لها، وهي ما يعرف بـ” معايير المجتمع”، تلك المعايير توضح بشكل رئيسي المحظورات على المنصة، وتوضح المسموح به بطريقة غير مباشرة، أي ما لم يتم حظره فهو مسموح.
2- تضع كل شبكة من شبكات التواصل الاجتماعي قائمة من الكلمات المكتوبة/ المنطوقة صوتاً، وتجعل عليها قيود وتمنع توزيعها للجمهور، وهو ما تنبه له البعض فبات يكتب تلك الكلمات مع استبدال بعض أحرفها أو كتبها غير منقوطة أو تقطيع الكلمة كأن يكتب أحد كلمة “سـ.ـيـ.ـــئ” بهذا الشكل، وذاك الأسلوب يتم اتباعه مع أي كلمة قد تصنف على أنها نابية كنوع من الاحتـ.ــيـ.ـال على الخوارزمية، لكن مؤخراً باتت الخوارزمية تطور نفسها خاصة مع الذكاء الاصطناعي ويصبح الاحتيال عليها أمراً صعباً.
3- تضع كل شبكة من الشبكات قوائم بالحسابات غير المرغوب فيها، وأخرى معتمدة، وجزء كبير من الحسابات لا يتم تصنيفه، أما الحسابات غير المرغوب فيها فيكون لديها ما يعرف بـ” الوصول الصفري” أي لا يمكنك مشاهدة منشوراتها إلا لو زرت تلك الحسابات، فهي لا تظهر على التايم لاين، وهذه الحسابات بحكم غير الموجودة وأصحابها غالباً يعزفون عنها.
وأما الحسابات المعتمدة، هي حسابات تتبع لناشرين/ مغردين/ صناع محتوى يعتبرون موثوقين لدى تلك الوسائل، كحال أبوفلة في يوتيوب، ونايف حمدان في السناب، ومحمد صلاح في إكس تويتر، وخابي لام في تيك توك وغيرهم الكثيرين ممن تصبح مشاهداتهم بمئات الآلاف خلال دقائق من نشرهم أي منشور.
أما الحسابات التي لا يتم تصنيفها، وهي حسابات ضرورية لأي شبكة اجتماعية، لأنها تمثل العصب الرئيسي لها كونها تعتبر المنتجة للأغلبية الكبرى من المحتوى الموجود على تلك الشبكات.
وفي الغالب من يحاول فهم الخوارزميات هي تلك الحسابات غير المصنفة، لأنها تتنافس فيما بينها على “حيز التايم لاين” المتبقي للعرض والطلب، فالحسابات غير المعتمدة لن تظهر، والموثوقة لها حيز معين ولا تستطيع تشكيل تايم لاين لوحدها، فكان لا بد من حسابات “الآخرين” غير المصنفة.
4- تمتلك كل شبكة ما يعرف بـ “مدير الحقوق” وهو عبارة عن مكتبة تحتوي على كل ما ينشر على المنصة، ويتم حفظ ذلك المحتوى للناشر الأول وحفظه له، ومنع غيره من استخدامه، لكن أحياناً مصلحة المنصة تسمح بتجاوز أمر حقوق الملكية، فترى محتوى خاص بك لدى جهات أخرى ولن تتم إزالته حتى تطلب تلك الجهات الإزالة.
شبكات التواصل الاجتماعي.. إدارة أشبه بأنظمة البنوك
عندما كنت أتصفح فيسبوك/ إكس قبل 10 سنوات، كانت كل المنشورات التي أراها لأشخاص أعرفهم بالواقع أو افتراضياً، لكن كنت أعرفهم، أما اليوم فبات لديك خيارين، الافتراضي والرئيسي هو “لك/ فور يو” وفيه ترى ما ترغب المنصة التي أنت عليها بأن تشاهده، وفي قسم آخر ترى الحسابات التي تتابعها، وتشعر أنها صفحة باهتة بلا محتوى.
تحاول شبكات التواصل الكبرى مؤخراً بناء تواصل فعال مع الحسابات الرئيسية لديها، وهناك نظام عمل يشبه نظام عميل البنك المميز، وقد كان هذا النظام سابقاً حكراً على وسائل الإعلام، فيما تبدل الحال الآن وبات تواصل تلك الشبكات مع وسائل الإعلام في تراجع حاد لصالح تعاون أكبر مع صناع المحتوى.
ولتجاهل تلك المنصات لوسائل الإعلام والإقبال على المؤثرين ما يبرره، فوسائل الإعلام في الغالب شركات لها مجالس إدارة وهياكل رسمية وخبرة في التعامل، وبالتالي التعاون معها يحتاج لبروتوكولات وتكاليف معينة، أم صناع المحتوى فأي مبلغ شهري يصلهم سيكون جيد طالما أنه يتجاوز 10 أضعاف مرتب صانع المحتوى في بلده.
ملخص الأمر، أن هناك أقسام داخل تلك الشركات، قسم مسؤول عن الرياضة فيتابع أخبارها ويكون فيه مجموعة من الموظفين وظيفتهم التواصل مع المؤثرين في مجال الرياضة على المنصة، وقسم مسؤول عن الألعاب وظيفته التواصل مع صناع محتوى الألعاب، وهكذا.
يكون للمنصات نوع من التأثير غير المباشر على الناشرين/ صناع المحتوى، يتم تقديمه كنصائح للالتزام بمعايير المجتمع، والمكافأة قد تكون كريديت للحساب الإعلاني للشخص، قد تكون توزيع حسابه بشكل أكبر، وقد تكون عقد شراكة أو عقد عمل، وهذا الأمر يحصل أحياناً، لكنه ليس للجميع.
أنا لست ضالعاً في الاقتصاد، لكن بحكم عملي في التحرير أتابع أخباره عن قرب ولي تجارب بسيطة مع البنوك، وأستطيع أن أشبه طريقة عمل الخوارزمية بسعر الصرف، هناك ضوابط، وبعد تحقيق تلك الضوابط التي سبق ذكرها يترك الأمر للسوق، وعندما يحصل تغيير كبير غير مرغوب فيه ولا يتوافق مع مصلحة المركزي يتدخل، وكذلك تفعل الشبكات الاجتماعية، فتترك بعض المحتوى للشارع، وتتدخل بالبعض الأخر إما بالقيود، أو الحذف، أو منع الظهور، أو غيرها من الأدوات الكثيرة.
The post كيف تحولت مواقع التواصل لإمبراطوريات مالية تحكمها خوارزميات؟ appeared first on Jalees.