كيف غيّرت "التكتكة" قواعد التّسويق الرّقمي؟
المفهوم الذي طرحه غاري فاينرتشوك في كتابه "تداول الانتباه" مسلّطاً الضّوء على المفتاح الحقيقي للتّسويق العصري
في زمنٍ لم يكن فيه العالم الرّقميّ مكتظّاً كما هو اليوم، كانت فكرة التّسويق بسيطةً: تجذب أكبر عددٍ من المتابعين، وكلّما كبرت قاعدة المتابعين، زادت فرص النّجاح والوصول للجمهور. لكنّ هذا التّصوّر التّقليديّ بدأ يتلاشى تدريجيّاً مع ظهور منصّة تيك توك (TikTok)، والّتي قلبت مفاهيم وسائل التّواصل رأساً على عقبٍ. فلم تعد قاعدة المتابعين هي المفتاح، بل أصبحت الاهتمامات هي الملك.
وهنا يظهر مفهومٌ جديدٌ يعرف باسم "التّكتكة" أو (TikTokification)، الّذي يرمز إلى تحوّلٍ محوريٍّ جعل الاهتمامات الفرديّة هي المحرّك الأساسيّ لجذب الجمهور، بدلاً من المتابعات التّقليديّة. واليوم، يجذب هذا المفهوم، الّذي يعيد تشكيل عالم التّواصل والتّسويق، أنظار المسوّقين وصنّاع المحتوى لما يحمله من فرصٍ وإمكانيّاتٍ.
وسط هذا التّحوّل، يبرز اسم رجل الأعمال الشّهير جاري فاينرتشوك، أو كما يعرفه عالم التّواصل الرّقميّ بـ"GaryVee". إذ يعتبر فاينرتشوك أحد أبرز الشّخصيّات الّتي تقود مستقبل التّسويق الرّقميّ، خاصّةً من خلال رؤيته الثّاقبة حول قوّة التّواصل الإنسانيّ والاهتمام المتبادل في تشكيل قواعد التّسويق الجديدة. بدأ فاينرتشوك رحلته المهنيّة في تطوير عمل عائلته في تجارة النّبيذ، حيث استفاد بذكاءٍ من وسائل التّواصل لبناء قاعدةٍ جماهيريّةٍ غير تقليديّةٍ. وقد توسّعت استثماراته لتشمل شركاتٍ كبرى مثل فيسبوك، تويتر وسناب شات، ممّا جعله من أهمّ روّاد هذا المجال.
في كتابه الأخير "تداول الانتباه" (Day Trading Attention)، يقدّم فاينرتشوك رؤيته حول كيفيّة استغلال منصّات التّواصل الاجتماعيّ للوصول إلى الجمهور بشكلٍ مختلفٍ. ويرى أنّ السّرّ يكمن في تداول الانتباه الّذي يتحقّق عبر "التّكتكة"، حيث يكون الاعتماد الأساسيّ على الاهتمامات الفرديّة بدلاً من المتابعات. ويشرح فاينرتشوك هذه الفكرة قائلاً:
"المنصّات الحديثة مثل تيك توك ليست مجرّد وسائل للتّواصل، بل هي أدواتٌ تستكشف شغف الأفراد، وتعرض لهم ما يعجبهم مباشرةً. هذا النّوع من التّواصل يجعل المتابعين يلتفّون حول المحتوى لا حول الشّخص الّذي ينشره".
ما هي "التّكتكة"؟ وكيف تختلف عن نموذج التّواصل التّقليديّ؟
يقدّم مفهوم "التّكتكة" طريقةً جديدةً للتّفاعل مع المحتوى على وسائل التّواصل، تقوم على مبدأ الرّسم البيانيّ للاهتمامات (Interest Graph) بدلاً من الرّسم البيانيّ الاجتماعيّ (Social Graph) التّقليديّ. ففي المنصّات التّقليديّة، يعتمد ظهور المحتوى على المتابعات، أي أنّ المستخدم يشاهد ما ينشره الأشخاص الّذين يتابعهم. لكنّ تيك توك غيّر هذه المعادلة، حيث يعتمد على تحليل اهتمامات كلّ مستخدمٍ وعرض المحتوى الّذي يتماشى مع هذه الاهتمامات، بغضّ النّظر عن الأشخاص الّذين يتابعهم.
بمعنى آخر، إذا كنت من محبّي السّفر أو الطّبخ، ستجد تيك توك يعرض لك مقاطع تتعلّق بهذه المواضيع بشكلٍ مستمرٍّ، حتّى لو لم تكن تتابع الأشخاص الّذين ينشرون هذا المحتوى. هذا النّهج يجعل المستخدم في حالة استكشافٍ دائمةٍ، حيث يجد دائماً محتوًى يلبّي اهتماماته وشغفه.
ومع تحوّل التّسويق الرّقميّ نحو "التّكتكة"، لم يعد على العلامات التّجاريّة القلق بشأن عدد المتابعين بقدر ما يجب عليها التّركيز على إنتاج محتوىً جذّابٍ ينسجم مع ميول الجمهور. فالمحتوى بات قادراً على الوصول إلى ملايين المستخدمين فقط إذا استطاع ملامسة اهتماماتهم، دون الحاجة لأن يتابعوا الحساب الّذي ينشره.
هذا التّحوّل يوضّحه جاري فاينرتشوك بعبارةٍ صريحةٍ:
"في هذا العصر، لا يكفي أن تكون لديك قاعدة متابعين كبيرةٌ. يجب أن تمتلك محتوًى يجذب الانتباه، ويرتبط بعمقٍ مع اهتمامات الجمهور. بدون هذا الرّبط، لن يحقّق المحتوى انتشاراً واسعاً، حتّى لو كان لديك ملايين المتابعين".
مثالٌ من الواقع: كيف يمكن للشّركات الصّغيرة الاستفادة؟
لنفترض أنّ هناك شركةً صغيرةً تبيع القهوة، وتطمح للوصول إلى جمهورٍ واسعٍ. في ظلّ القواعد التّقليديّة، كانت هذه الشّركة تحتاج إلى بناء عددٍ كبيرٍ من المتابعين لجذب الانتباه. لكن بفضل "التّكتكة"، يمكن لهذه الشّركة التّركيز على إنتاج مقاطع فيديو متميّزةٍ حول طرق إعداد القهوة، أو تقديم وصفاتٍ مبتكرةٍ، أو استعراض قصصٍ عن حبّ النّاس لهذا المشروب. هذا سيجعل هذه المقاطع تنتشر بين محبّي القهوة على تيك توك، بغضّ النّظر عن عدد المتابعين.
في كتابه، يقدّم فاينرتشوك مفهوماً آخر يحمل روح الابتكار في عصر التّواصل الرّقميّ، وهو "تداول الانتباه" اليوميّ. يرى فاينرتشوك أنّ على الشّركات أن تتعامل مع الانتباه كعملةٍ، عليها استثمارها بذكاءٍ، في اللّحظة المناسبة، لجذب الجمهور. ويشبّه هذا التّداول بما يفعله المتداولون في الأسواق الماليّة، حيث يقتنصون الفرص السّريعة لتحقيق الأرباح.
يقول فاينرتشوك:
"إذا لم تستغلّ الفرص اللّحظيّة للفت الانتباه، فستفوتك الكثير من الفرص الّتي يمكنها تغيير مسار علامتك التّجاريّة بالكامل."
للمستخدم العاديّ، يمثّل مفهوم "التّكتكة" تجربةً جديدةً وممتعةً. فلم يعد على المستخدم متابعة حساباتٍ معيّنةٍ ليجد محتوًى يهمّه، بل يجد أنّ المنصّة تقدّم له ما يناسب ميوله بشكلٍ مستمرٍّ. فحينما يفتح المستخدم تطبيق تيك توك، يجد نفسه محاطاً بمحتوًى متنوّعٍ يعكس اهتماماته وشغفه، ممّا يجعل تجربة استخدام المنصّة غنيّةً وجذّابةً.
كيف تستفيد الشّركات من هذا التّحوّل؟
تحتاج الشّركات إلى تغيير تفكيرها لتواكب "التّكتكة". فلم يعد النّجاح في التّواصل الاجتماعيّ مرتبطاً بالإعلانات التّقليديّة، بل أصبح يعتمد على محتوًى يلمس اهتمامات الجمهور بشكلٍ مباشرٍ. فبدلاً من إنتاج إعلاناتٍ جامدةٍ، يجب على العلامات التّجاريّة إنتاج محتوًى يروي قصّةً، أو يقدّم قيمةً حقيقيّةً للمشاهد.
وفي هذا السّياق، يقول فاينرتشوك:
"المحتوى النّاجح لا يعتمد على إنتاجيّاتٍ ضخمةٍ، بل يعتمد على القدرة على لمس مشاعر النّاس. الإعلانات الباهظة الّتي كانت ناجحةً على التّلفزيون لم تعد فعّالةً في هذا السّياق؛ ما يحتاجه الجمهور اليوم هو محتوًى حقيقيٌّ وأصيلٌ".
لم يكن تيك توك هو الوحيد الّذي أدخل "التّكتكة" إلى عالم التّواصل، فهناك منصّاتٌ أخرى بدأت تعتمد نفس النّموذج، مثل إنستجرام ويوتيوب. وقد ظهرت هذه الفكرة بوضوحٍ في ميزاتٍ مثل "الرّيلز" (Reels) في إنستجرام و"الشّورتس" (Shorts) في يوتيوب، والّتي تعتمد على تقديم محتوىً ينسجم مع اهتمامات المستخدمين بغضّ النّظر عن المتابعات.
في نهاية المطاف، يعتبر مفهوم "التّكتكة" خطوةً جبّارةً نحو تحويل عالم التّسويق الرّقميّ. لم يعد الوصول إلى الجمهور يعتمد على أعداد المتابعين، بل على جودة المحتوى ومدى تماشيه مع اهتماماتهم. يمنح هذا التّغيّر الشّركات الصّغيرة فرصةً للمنافسة على قدم المساواة مع الشّركات الكبرى، حيث يكمن سرّ النّجاح في قدرة المحتوى على جذب انتباه الجمهور وإثارة فضولهم.
ويختم فاينرتشوك قائلاً:
"في عالمٍ يعتمد على الاهتمامات بدلاً من المتابعات، الشّركات الّتي تستطيع استغلال هذا الاهتمام بشكلٍ فعّالٍ هي الّتي ستبقى وتنجح. فالقدرة على تداول الانتباه اليوميّ أصبحت مهارةً لا غنى عنها في التّسويق الرّقميّ".
ففي عالم "التّكتكة"، يصبح من الممكن للجميع، من الشّركات الصّغيرة إلى الأفراد، أن يحقّقوا النّجاح بفضل قدرة المحتوى على التّغلغل في اهتمامات الجمهور، ليكون الاهتمام هو العملة الحقيقيّة الّتي تقود المسيرة الرّقميّة في هذا العصر الجديد.