كيف يمكن لفنّ الصّمت أن يغيّر مجرى التّفاوض؟
استراتيجيات كريس فوس لتحقيق النّجاح في المفاوضات من خلال الصّمت المدروس
عند التّفاوضِ، قد يبدو أنّ النّجاح يتطلّب منك أن تكون الشّخص الأكثر كلاماً، الأكثر إقناعاً، والأكثر سيطرةً على المحادثةِ. ولكنّ كريس فوس، المُفاوِض السّابق في مكتبِ التّحقيقاتِ الفيدراليِّ (FBI)، يكشف لنا في كتابه "Never Split the Difference" عن سلاحٍ آخر، سلاحٍ غيرِ مرئيٍّ، ولكنّه فعّال بشكلٍ لا يُصدّق: الصّمت.
الصّمت: السلاح الخفيُّ في التّفاوض
الصّمت ليس مجرد توقفٍ عن الكلامِ؛ إنّه أداةٌ نفسيّة يمكن أن تغيِّر مسار المحادثةِ بالكاملِ. عندما تصمت في اللّحظةِ المناسبةِ، فإنّك تخلق نوعاً من التّوتر البنّاء الذي يدفع الطّرف الآخر للحديثِ أكثر، ممّا قد يؤدّي إلى كشفِ معلوماتٍ مهمةٍ أو حتى تقديم تنازلاتٍ لم تكن تتوقعها. يوضّح فوس أنّ الصّمت في بعض الأحيان يكون أقوى من أيِّ حجةٍ قد تقدِّمها. الإنسان بطبيعته يميل إلى الشّعور بالارتياح عندما يملأ الفراغ بالكلامِ، وعندما تترك هذا الفراغ، فإنّك تدفع الطّرف الآخر لإملائهِ، مما قد يؤدّي إلى إفصاحهِ عن معلوماتٍ حاسمةٍ.
متى يكون الصّمت في التّفاوض هو السلاح الأمثل؟
1. بعد طرح سؤالٍ حاسمٍ:
عندما تطرح سؤالاً استراتيجياً، فإنّ الصّمت الذي يتّبع هذا السُّؤال ليس مجرد انتظارٍ للإجابةِ؛ بل هو إعلانٌ أنّك تمنح الطّرف الآخر المساحة للتّفكيرِ والتعبيرِ. الصّمت هنا يحمل في طيّاتهِ رسالة: "أنا مهتمٌّ بما ستقوله". هذا النّوع من الصّمت يمنحك القوة في التّحكم بسيرِ المحادثةِ، حيث يدفع الطّرف الآخر إلى التفكير بعنايةٍ قبل الإجابةِ، ممّا يزيد من فرصك في الحصول على معلوماتٍ دقيقةٍ ومفيدةٍ.
2. عند تقديم عرضٍ أو شرطٍ:
بعد أن تقدِّم عرضاً، أو تضع شرطاً معيّناً، الصّمت يصبح حليفك الأقوى. لا تتعجّل في شرحِ عرضك أو تبريرهِ؛ بدلاً من ذلك، اسمح للصّمتِ بأن يعمل لصالحك. الانتظار بصبرٍ بعد تقديم العرض يمنحك فرصةً لرؤية ردودِ الفعلِ الحقيقيّةِ للطّرف الآخر، والتي قد تكون إمّا موافقةً ضمنيّةً أو محاولةً للتّفاوض بشكلٍ أفضل. في كلتا الحالتين، تكون قد حافظت على زمامِ المبادرةِ.
3. عند ملاحظة ترددٍ أو ارتباكٍ:
إذا لاحظت أنّ الطّرف الآخر يظهر علامات التّردد أو الارتباك، يمكن أن يكون الصّمت أداةً فعّالةً في كشفِ المزيد. هذا الصّمت يتيح لهم الوقت للتفكير بصوتٍ عالٍ، مما قد يؤدّي إلى كشفِ مخاوفهم الحقيقيّة، أو إلى توضيحِ موقفهم بشكلٍ أفضل. الصّمت هنا يصبح دعوةً غير مباشرةٍ لهم للحديثِ، ممّا يمنحك معلوماتٍ إضافيّة قد تكون حاسمةً في تحديد الخطوةِ التّاليةِ.
كيف تجعل الصّمت يعمل لصالحك في التّفاوض؟
1. الثبات والثقة:
عند استخدامِ الصّمت في التّفاوض، يجب أن يكون صمتك واثقاً ومدروساً. لا تجعل الصّمت يبدو وكأنّه ناتجٌ عن تردّدٍ أو ضعفٍ؛ بل اجعله يظهر كجزءٍ من استراتيجيتك. الثّقة التي تظهرها أثناء الصّمت تجعل الطّرف الآخر يشعر بأنّك تسيطر على الموقف، وتنتظر منه الخطوة التالية.
2. الاستماع الفعّال:
الصّمت في التّفاوض ليس مجرد توقفٍ عن الكلام، بل هو فرصة للاستماع بانتباهٍ. استغلّ هذه اللّحظات للاستماع إلى ما يقوله الطّرف الآخر، وما لا يقوله. الكلمات التي تُقال في ظلِّ الصّمت يمكن أن تحمل بين طيّاتها إشاراتٍ مهمة، مثل التّرددِ، الثقةِ، أو حتّى القلقِ. فهم هذه الإشارات يمكن أن يمنحك ميزةً في التّفاوضِ.
3. لغة الجسد:
أثناء الصّمت، تصبح لغة جسدك جزءاً من رسالتك. اجعل نظراتك واثقةً ومباشرةً، واستخدم تعابير وجهك بشكلٍ يتناسب مع الموقف. قد يكون الصّمت محايداً، ولكنّ لغة جسدك يمكن أن تضيف بعداً إضافيّاً لما تريد إيصاله للطّرف الآخر، ممّا يزيد من تأثير صمتك.
يقول كريس فوس: "أفضل المفاوضين هم أولئك الذين يعرفون متى يتحدثون ومتى يصمتون". يمكن أن يكون للصّمت المدروس له تأثيرٌ قوي على الطّرف الآخر، ممّا يجعلهم يعيدون التّفكير في مواقفهم، أو حتى يتّخذوا خطواتٍ لم تكن في حسبانهم.
في المرة القادمة التي تجد نفسك في موقفٍ تفاوضي، تذكر أنّ القوة لا تأتي دائماً من الكلمات. أحياناً، يكون الصّمت هو كل ما تحتاجه لتنتزع النّصر.