كيف يُحدث المدراء الجيّدون فرقاً في حياة موظفيهم؟
رغم تقلّبات السّوق وضغوط العمل، يبقى القائد الحقيقيّ هو من يخلق طمأنينةً من الدّاخل لا تهتزّ حتّى في مواجهة المجهول

قد يدفع المدراء السّيّئون الموظّفين الجيّدين إلى الرّحيل، بينما يمكن للمدراء الجيّدين إحداث فرقٍ هائلٍ؛ فقد تكون الإدارة السّيّئة سبباً مباشراً في مغادرة الموظّفين الأكفاء. في استطلاعٍ أجرته منصّة "لينكد إن" (LinkedIn) عام 2024، أفاد نحو 70% من الموظفين بأنّهم على استعدادٍ لترك وظائفهم بسبب مديرٍ سيّئٍ. ولكن يحمل الوجه الآخر للعملة خبراً مفرحاً: فبحسب دراسةٍ حديثةٍ، يمكن أن يكون للمدراء والقادة تأثيرٌ إيجابيٌّ كبيرٌ في حياة الموظّفين اليوميّة.
وفي تقريرٍ جديدٍ أُعدّ من قبل مؤسّسة "غالب" (Gallup)، طُلِب من حوالي 13,000 موظّفٍ في 52 دولةٍ أن يحدّدوا من هو القائد الّذي يؤثّر في حياتهم اليوميّة بأكثر شكلٍ إيجابيٍّ. فكانت النّتيجة أنّ 31% أشاروا إلى مديرٍ أو قائدٍ في مكان عملهم باعتباره الأكثر تأثيراً، ليأتي ذلك في المرتبة الثّانية بعد أفراد الأسرة الّذين حصلوا على 44%، بينما لم يشر سوى 6% إلى زعيمٍ سياسيٍّ، و5% إلى قائدٍ دينيٍّ.
وفي الولايات المتّحدة تحديداً، كانت الفجوة بين التّأثير العائليّ والمهنيّ أصغر، حيث قال 30% من المشاركين إنّ المدير أو القائد في المنظّمة هو الأكثر تأثيراً على حياتهم اليوميّة، مقابل 34% قالوا إنّ أفراد الأسرة هم الأهمّ.
علّقت تايا كوهين -أستاذة السّلوك التّنظيميّ في "جامعة كارنيجي ميلون" (Carnegie Mellon University)- على ذلك قائلةً إنّ التّأثير الكبير للمدراء في الثّقافة الأمريكيّة ليس مفاجئاً، نظراً إلى أنّ النّاس يقضون ساعاتٍ طويلةً في العمل هناك.
على سبيل المثال، يعمل الأمريكيّون بمعدّل 38 ساعةً أسبوعيّاً، أي أكثر من 62% من دول منظّمة التّعاون الاقتصاديّ والتّنمويّ. وتوضّح بوبي ويجنر -أخصائيّة علم النّفس التّنظيميّ والمحاضرة في "جامعة هارفارد" (Harvard University)- أنّ العلاقات الّتي نبنيها في بيئة العمل تؤثّر بشدّةٍ على شعورنا وطريقة أدائنا، وتضيف: "كثيراً ما ننسى أنّ علاقات العمل هي علاقاتٌ اجتماعيّةٌ أيضاً، ونحن نقضي مع هؤلاء الزّملاء والمدراء الجزء الأكبر من وقتنا".
إذاً، كيف يمكن للمدراء أن يكونوا مصدر تأثيرٍ إيجابيٍّ في حياة موظّفيهم؟ بحسب دراسة غالب، هناك أربعة احتياجاتٍ أساسيّةٍ يتوقّع الموظّفون تلبيتها من قبل القادة: الأمل، والثّقة، والرّحمة، والاستقرار. وبما أنّ المدراء يتمتّعون بتأثيرٍ مباشرٍ على فرقهم، فهم في موقعٍ ممتازٍ لتلبية هذه الاحتياجات، ولكنّهم في نفس الوقت يواجهون ضغوطاً شديدةً.
أشار تقرير غالب حول حالة بيئة العمل العالميّة لعام 2024 إلى أنّ المدراء يواجهون مستوياتٍ أعلى من التوتّر والغضب والحزن والوحدة مقارنةً بزملائهم غير الإداريّين. وبالنسبة للبعض، فإنّ محاولة تلبية احتياجات الموظّفين، كزرع الأمل مثلاً، قد تبدو عبئاً ثقيلاً وصعب التحمّل.
أوّلاً: إلهام الأمل
تقول دينس روسو -أستاذة السّلوك التّنظيميّ في جامعة كارنيجي ميلون- إنّنا بحاجةٍ إلى إعادة تعريف "الأمل" بما يناسب بيئة العمل، وتوضّح: "عندما أسمع كلمة أملٍ، أفكّر في مستقبلٍ محفّزٍ". الموظّفون بحاجةٍ إلى الشّعور بأنّ علاقتهم مع مديرهم ستدفعهم نحو مستقبلٍ مهنيٍّ أفضل -سواء عبر تطوير المهارات أو التّحفيز أو التّوجيه- حتّى ولو لم يكن المدير نفسه رئيسهم المباشر في المستقبل.
لكن يجب أن يكون الحذر حاضراً: يجب أن يكون الأمل واقعيّاً؛ فالتّفاؤل المبالغ فيه قد يضرّ أكثر من أن ينفع. وهنا تشير ويجنر إلى أنّ الثّقة تبنى عندما تتطابق الأفعال مع الأقوال؛ فإذا وعد المدير بشيءٍ، ولم يعد قادراً على تنفيذه، يجب عليه أن يكون صريحاً، ويشرح السّبب للموظّفين بشفافيّةٍ.
ثانياً: بناء الثقة والرحمة
في بعض الأحيان، تُفهم "الرّحمة" على أنّها شعورٌ من طرفٍ أعلى يُمنح لطرفٍ أدنى، ولكن تقترح ويجنر إعادة صياغتها لتصبح "تعاطفاً"، وهو ما يضع المدير والموظّف على قدمين متساويتين. في العمل، يظهر ذلك من خلال الفهم غير القائم على الأحكام المسبقة. وعندما يحدث خلافٌ بين المدير والموظّف، على المدير أن يسعى لفهم وجهة نظر الآخر بدلاً من إصدار الأحكام. كما وتنصح ويجنر باستخدام عباراتٍ استكشافيّةٍ، مثل: "ساعدني على فهم لماذا اتّخذت هذا القرار".
ومن جانبها، ترى روسو أنّ الرّحمة ترتبط بشكلٍ وثيقٍ بالثّقة، إذ تعني ببساطةٍ أن يأخذ المدير مصالح الموظّف على محمّل الجدّ؛ فإذا كان الموظّف يمرّ بظروفٍ صعبةٍ، ينبغي أن يشعر بأنّ مديره سيدعمه بشكلٍ ما، حتّى ولو كان هذا الدّعم معنويّاً.
ثالثاً: توفير الاستقرار
في ظلّ التّحدّيات الاقتصاديّة والسّياسيّة الرّاهنة، يعتبر الاستقرار من أكثر الأمور الّتي يبحث عنها الموظّفون، وربّما أكثرها ندرةً أيضاً. مع تصاعد موجة التّسريح، وتجميد التّوظيف في كثيرٍ من الشّركات، والتّقلّبات في الاقتصاد والسّياسة، أصبحت فكرة الاستقرار الوظيفيّ غير واقعيّةٍ. رغم ذلك، تؤكّد ويجنر أنّ المدراء ما زالوا قادرين على إضفاء إحساسٍ بالاستقرار داخل العلاقة المهنيّة مع الموظّفين، حتّى وإن لم يكن بإمكانهم ضمان مستقبلٍ وظيفيٍّ واضحٍ لهم.
كيف؟ من خلال الشّفافيّة والمشاركة المنتظمة للمعلومات؛ فقد لا يتمكّن المدير من التّأكيد على أنّ الموظّف سيبقى في وظيفته بعد عامٍ، ولكنّه يستطيع أن يعد بالمصارحة، وأن يشارك ما يعرفه عند معرفته. بهذه الطّريقة، يخلق المدير نوعاً من الثّقة والأمان داخل العلاقة، حتّى ولو كانت البيئة المحيطة مضطربةً.
باختصارٍ، قد يكون تأثير المدراء في حياة الموظّفين أعمق بكثيرٍ ممّا نتصوّر. فبينما يستطيع المدير السّيء أن يدفع أفضل الموظّفين للرّحيل، يمكن للمدير الجيّد أن يكون مصدراً للأمل والثّقة والدّعم -وحتّى الاستقرار- في زمنٍ أصبح فيه الاستقرار عملةً نادرةً.