لماذا تبدو خلافات العمل شخصيّة أحياناً؟
لا نترك ماضينا عند باب المكتب، بل نحمله معنا إلى الاجتماعات والمحادثات، حيث يُمكن لجراحٍ قديمةٍ أن تتنكّر في شكلٍ توتّرٍ جديدٍ

لماذا نشعر أحياناً أنّ خلافات العمل شخصيّةٌ؟ وكيف نتعامل مع ردود الفعل القوية؟ في الحقيقة، كلّنا نمرّ بـلحظاتٍ نشعر فيها بأنّنا نبالغ في ردود أفعالنا، أو نغرق في مشاعر حادّةٍ لا تتناسب مع الموقف. في كثيرٍ من الأحيان، لا يكون السّبب الحقيقيّ هو الحدث الحاضر، بل جراحٌ قديمةٌ أو تجارب غير محلولةٍ تطفو على السّطح وتضخّم استجابتنا؛ تُعرف هذه الحالة بالتّنبيه العاطفيّ.
لا يُستثنى مكان العمل من هذه الظّاهرة؛ فلا أحد يترك تاريخه الشّخصيّ عند باب المكتب، إذ يُسقط القادة تجاربهم على الموظّفين، والموظّفون يفعلون نفس الشّيء مع القادة ومع بعضهم البعض. لذلك، فإدراك المحفّزات العاطفيّة وفهم ردود الفعل النّاتجة عن الصّدمات -سواء في نفسك أو في الآخرين- أمرٌ بالغ الأهمّيّة للحفاظ على بيئة عملٍ صحّيّةٍ وتواصلٍ فعّالٍ وإنتاجيّةٍ مستدامةٍ.
ما المقصود برد الفعل التنبيهي؟
يمكن تصنيف الاستجابات العاطفيّة السّلبيّة إلى ثلاث فئاتٍ رئيسيّةٍ. ولشرح الفرق بينها، تخيّل هذا المشهد: لديك خلفيّةٌ من الشّعور بأنّ الآخرين لا يصغون إليك. وفي أحد اجتماعات القيادة، تطرحت خطّةً ترى أنّها مناسبةٌ، لكن أحد الزّملاء طعن في قرارك أمام الجميع، مشكّكاً في رؤيتك.
- رد فعل طبيعيّ ومعقول: تشعر بالانزعاج أو الضّيق، ولكنّك تبقى متزناً. تتنفّس بعميقٍ وتردّ بهدوءٍ: "أقدّر ملاحظاتك. ولكن دعنا نناقشها للوصول إلى أفضل قرارٍ". يمكن للنّاس أن يلاحظوا أنّك منزعجٌ، ولكنّك لا تخرج عن طورك. يعتبر هذا النّوع من الرّدود صحّيّاً ومقبولاً اجتماعيّاً.
- رد فعل تنبيهيّ (عاطفيّ): يستثار داخلك شعورٌ قويٌّ يرتبط بماضٍ مؤلّمٍ أو ضغوطٍ حاليّةٍ؛ فتشعر بأنّ الموقف أكبر من حجمه. ربّما تردّ بغضبٍ مبالغٍ فيه. في هذه الحالة، يبدو اعتراض الزّملاء كأنّه تحدٍّ مباشرٍ لسلطتك. وقد تردّ بنبرةٍ حادّةٍ: "من غير المقبول أن يتمّ التّشكيك في قراراتي أمام الفريق". بعد لحظةٍ، تدرك أنّ ردّ فعلك لم يكن نابعاً فقط من هذا الموقف، بل من مشاعر متراكمةٍ أو ذكرياتٍ مؤلّمةٍ في مواقع قياديّةٍ سابقةٍ.
- رد فعل متأثّر بصدمة: يكون هذا النّوع من الرّدود أشدّ وأعمق، ويعود إلى صدماتٍ لم تُحلّ. تشعر بالخوف أو العجز أو الإهانة، وكأنّك تعيد عيش تجربةٍ سابقةٍ مؤلمةٍ. وربّما تنفجر غاضباً: "هذا عصيانٌ لا يحتمل!" أو تتوقّف عن الكلام، وتنسحب تماماً من الحوار. لاحقاً، قد تكتشف أنّ ردّ فعلك العنيف كان مرتبطاً بماضٍ من الإقصاء أو التّهميش، وليس فقط بالحدث الحاليّ.
تشرح خبيرة الصّدمات إيمي فيدلر ذلك قائلةً: "عندما يصادفك موقفٌ يذكّرك بألمٍ سابقٍ، يتفاعل جسدك قبل أن يتدخّل عقلك؛ فتدخل في وضع الهروب أو القتال -يتسارع نبض قلبك، يتقلّص بطنك- مستنداً إلى تجارب قديمةٍ لم تعد تنفعك اليوم".
كيف تعرف إذا كنت قد تعرّضت للتنبيه العاطفي أو لردّ فعل متأثّر بصدمة؟
في كثيرٍ من الحالات، قد يكون هناك سببٌ حقيقيٌّ للانزعاج. ولكن، ما يستحقّ الانتباه هو مدى شدّة ردّة فعلك وطريقة تعاملك معها؛ فاسأل نفسك:
- هل ردّ فعلي متناسبٌ مع الحدث؟
- هل أتعامل مع الحاضر أم أنّني أستحضر ماضياً مؤلّماً؟
- هل هناك خطرٌ حقيقيٌّ أم أنّني فقط أشعر بذلك؛ لأنّ الموقف يبدو مألوفاً؟
خطوات عمليّة لإدارة ردود فعلك العاطفية
إذا شعرت بأنّك تعرّضت للتّنبيه، جرّب هذه الخطوات الأربع لتنظيم نفسك:
- راقب ردود أفعالك: اعترف لنفسك إذا كنت قد بالغت في ردّة فعلك، وكن شجاعاً في الاعتذار إن لزم الأمر. أحياناً، أخذ استراحةٍ قصيرةٍ يساعدك على استعادة توازنك.
- أوقف التّفاعل وسمّه: فكّر فيما حدث بموضوعيّةٍ. ما هي الحقائق؟ عندما تفصل العواطف عن الحدث، تدرك أنّ ردّة فعلك كانت أكبر من الموقف.
- أعط الآخرين حسن النّيّة: ربّما لم يقصد الطّرف الآخر الإساءة، بل فهمت كلامه من خلال عدسة تجاربك السّابقة.
- ابق في اللّحظة الحاضرة: ركّز على ما يحدث الآن. لاحظ جسدك، تنفّسك، ووضع قدميك على الأرض، وذكّر نفسك بأنّك في اليوم، وليس في الماضي.
كلّما مارست هذه الخطوات، أصبحت أكثر قدرةً على إدارة مشاعرك بطريقةٍ صحّيّةٍ، وتفاديت ردود الفعل التّلقائيّة الّتي قد تندم عليها بعد ذلك. عامل نفسك بلطفٍ، وامنح الآخرين أيضاً نفس الرّحمة. توقّف لبعض الثّواني قبل الدّخول في محادثةٍ صعبةٍ واسأل نفسك: "كيف حالي الآن؟ كيف أشعر؟" يمكن أن ينجّيك هذا التّقييم البسيط من التّصاعد، ويساعدك على الثّبات والتّواصل الفعّال.
كيف تدير محفّزات فريقك؟
مثلما هو مهمٌّ أن تدير مشاعرك، فمن المهمّ أيضاً أن تلاحظ مشاعر فريقك. فإذا بالغ أحدهم في ردّ الفعل، أو تصرّف بشكلٍ غير معتادٍ، لا تتسرّع في الحكم. اسأل نفسك: هل من المحتمل أن يكون هذا الشّخص قد تعرّض للتّنبيه، أو يعيش ضغطاً لا يظهر لك؟ افترض حسن النّيّة، وتعامل مع الموقف بتعاطفٍ لا بعدوانيّةٍ. هدفك ليس إصلاح مشاعر الآخرين، بل الحفاظ على الحوار.
إذا لاحظت تصرّفاً غير مألوفٍ، جرّب أن تقول: "أريد التّأكّد من أنّني فهمت ما يحدث" أو "هل يمكنك أن تخبرني ما فهمت من كلامي؟ أريد التّأكّد من أنّني عبّرت بوضوحٍ". وإذا لزم الأمر، خذ استراحةً قصيرةً ثمّ عدّ إلى النّقاش بهدوءٍ.
الخلاصة: كلّ شخصٍ، قائداً كان أو موظّفاً، يحمل معه مزيجاً من تجاربه السّابقة وتحدّياته اليوميّة. لذلك، ليست كلّ ردود الفعل القويّة ناتجةً عن الحدث الحاليّ فقط.
تعني القيادة الواعية أن تميّز متى تقف العاطفة عائقاً أمام النتيجة، وأن تتصرّف سريعاً لاحتواء الموقف. وإذا كنت تريد أن تساعد فريقك على بناء الوعي الذّاتيّ والتّواصل الفعّال -حتّى تحت الضّغط- فكّر في تبنّي بروتوكول التّواصل، وهو: أداةٌ عمليّةٌ ومرنةٌ أثبتت نجاحها في تحسين أداء الفرق وتعزيز بيئات العمل الصّحيّة.