الرئيسية الذكاء الاصطناعي 3 مهارات تفكير تحتاجها لتصمد في ثورة الذّكاء الاصطناعيّ

3 مهارات تفكير تحتاجها لتصمد في ثورة الذّكاء الاصطناعيّ

في عالمٍ يمضي فيه الذّكاء الاصطناعيّ قُدُماً، متقناً أداءَ ما عهدناه من مهام، متجاوزاً حدود الكفاءة إلى ما يشبه الإعجاز، لا يبقى للإنسان إلّا ملاذٌ أخيرٌ من التفرّد: وهو حسنُ التّفكير

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

كنتُ منذ عهدٍ قريب، في جلسةٍ استراتيجيّةٍ جمعتني بمديرٍ تنفيذيّ لإحدى الشّركات التكنولوجيّة، نراجع معاً خارطة طريق الذّكاء الاصطناعيّ لمؤسّسته. وما هي إلّا لحظاتٌ، حتّى باغتَنا الإدراك المُرّ، إذ تنبّهنا إلى أنّ ما يقارب 40% من المهام التشغيليّة قابلةٌ لأن تُستبدل خلال 18 شهراً لا أكثر. 

حينها خيّم على المكان صمتٌ ثقيل، وتوتّرٌ محسوس. فلم يكن الذُّعر من قدوم الذّكاء الاصطناعيّ، فالكلّ يعلم أنّه آتٍ لا محالة، بل كان الرّعب من افتقارنا إلى العُدّة اللّازمة لما سيفرضه هذا القادم من تغيّرات. 

نعم، الذّكاء الاصطناعيّ سيُحيط عمّا قريب بما نعرف، بل وسيبرع في أداء ما نُجيده، وربّما بأسرع ممّا نتصوّر. ولا تبدو أيّ مهارةٍ، مهما عظُمت، بمنأىً عن التّحدّي أو الإزاحة. 

ومع ذلك، فإنّ ما لمسته من تجاربي مع القادة الذين يخوضون غمار هذا التّحوّل، يُفضي إلى حقيقةٍ لا تحتمل الجدل: في عصر الذّكاء الاصطناعيّ، لا تكون ميزة المرء في ما يعرفه، بل في كيفيّة نظره إلى الأمور، وفي الطّريقة التي يُفكّر بها. 

لماذا تفشل معظم استراتيجيّات الذّكاء الاصطناعي في الوصول إلى الهدف؟ 

يُخطئ كثيرٌ من المؤسّسات الطّريق في تعاملها مع الذّكاء الاصطناعيّ، إذ تنظر إليه من زاويةٍ قاصرةٍ، وتطرح سؤالاً مضلّلاً في جوهره: "كيف يمكننا استغلال الذّكاء الاصطناعيّ لتنفيذ ما نقوم به بالفعل، ولكن بصورةٍ أسرع؟". 

وهذا السّؤال، لمن تأمّله، لا يختلف في طرافته وخطئه عمّن يتوقّع من الخيول أن تجرّ السيّارات، بدلاً من استثمار محرك الاحتراق الدّاخلي الّذي خُلق أصلاً ليحرّر الإنسان من عبء السّحب والبطء. فأن تسعى إلى تحسين عمليّاتٍ ما كان ينبغي لها أن تُعزَل أو تستمرّ أصلاً، ليس باستراتيجيّةٍ تسعفك في المستقبل، بل هو تلميعٌ لقيدٍ كان الأجدر بك أن تفكّه لا أن تُزيّنه. 

وقد رأيتُ هذا النّمط من التّفكير المحدود يتكرّر أمامي في مجالس الإدارة، وفي غرف الاجتماعات على اختلاف قطاعاتها. ففي الشّهر الماضي، جلس إليّ مديرٌ في إحدى شركات الخدمات المهنيّة، وقدّم، بفخرٍ ظاهر، استراتيجيّة مؤسّسته للذّكاء الاصطناعي، فإذا بها لا تزيد عن خطّةٍ لأتمتة إعداد التّقارير. 

وعندما طرحت عليه سؤالاً بسيطاً في ظاهره، عميقاً في دلالته: "كيف تهيّئون فرق العمل لديكم لتبنّي طريقة تفكير جديدة في عالمٍ بات معزَّزاً بالذّكاء الاصطناعي؟"، سادت الغرفة لحظةٌ من الصّمت، وتبدّت على الوجوه علامات الدّهشة. 

وهذا التردّد له ما يُفسّره ويعذر أصحابه. فقد أصبح القادة أكثر حذراً، بل أكثر تردّداً، بعد أن خاضوا جولاتٍ من الخيبات جرّاء تقنيّاتٍ رُوِّج لها كثيراً، ولم تُثمر ما وُعِدت به. أما تذكُر عصر "الميتافيرس"؟ وتلك الرّموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)؟ كلاهما بشّرنا بأنّه سيُحدث ثورةً في عالم الأعمال والتّجارة، وكلاهما خذل التوقّعات العريضة، وانطفأ بريقه دون أن يترك أثراً يُذكَر. 

ومن هنا تنشأ المفارقة: فبعض الشّركات تُقلّل من شأن الذّكاء الاصطناعي باعتباره فقاعةً أخرى لا تلبث أن تنفجر، وأخرى تُهرول نحوه بنَهَمٍ، فتتبنّاه دون تمحيصٍ أو تبصّر، وبلا رؤيةٍ استراتيجيّة تُرشد خطواتها. 

لكنّ الحقيقة، كما تبيّن لي من خلال الممارسة، هي أنّ الذّكاء الاصطناعيّ ليس نزوةً عابرة، وليس أيضاً سيناريو فناءٍ كما يتصوّر البعض في تشاؤمه. الفائزون الحقيقيّون في هذا العصر لن يكونوا ممّن يصابون بالهلع، فينقضّون على كلّ جديد دون تمهّل، ولا ممّن يديرون ظهرهم للواقع بدعوى الحذر. بل إنّ النّجاح، كلّ النّجاح، سيكون من نصيب أولئك الّذين يُجيدون السّير بين هذين التّطرّفين، فيطوّرون أساليب تفكير جديدة، ويبتكرون طرائق نظر تُتيح لهم اكتشاف آفاق الشّراكة بين الإنسان والآلة. 

المهارات الثّلاث للتّفكير الّتي ستُنقذ مسيرتك المهنيّة 

لقد أتاح لي عملي في مرافقة المؤسّسات، وهي تبحر في خضمّ الاضطرابات الّتي تفرضها التّكنولوجيا الحديثة، أن أستخلص 3 مهاراتٍ في التّفكير باتت، في نظري، عُدّةً لا غنىً عنها لمن أراد البقاء، بل التّفوّق، في عصر الذّكاء الاصطناعيّ. 

1. التّفكير التّصميميّ: اكتشاف المشكلات الّتي لا يستطيع الذّكاء الاصطناعيّ رؤيتها 

التّفكير التّصميميّ هو مقاربةٌ تتمحور حول الإنسان في حلّ المشكلات والابتكار، تمزج بين الاحتياجات البشريّة، والإمكانات التّكنولوجيّة، والمتطلّبات التّجاريّة. جوهره فَهمٌ عميقٌ للمستخدمين، وسعيٌ لحلّ مشكلاتهم الحقيقيّة، لا الاكتفاء بعلاج الأعراض الظّاهرة. 

فالذّكاء الاصطناعيّ يُجيد التعامل مع المشكلات المعروفة، أمّا ما يعجز عنه – حتى الآن – فهو اكتشاف الحاجات الإنسانيّة غير المعلَنة، وربط المعطيات المتفرّقة لصياغة قضايا أدقّ. 

رأيتُ مؤخّراً مثالاً واضحاً على ذلك بين فريقَين يعملان على تطوير منتجٍ جديد؛ أدخل الفريق الأوّل متطلباته مباشرةً في أنظمة الذّكاء الاصطناعيّ بهدف تسريع التّنفيذ، بينما قضى الفريق الثّاني أيّاماً ميدانيّة مع العملاء، كاشفاً عن إحباطاتٍ لم يكن لأيّ خوارزميّة أن تتعرّف إليها. وبعد 6 أشهر، حقّق الفريق الثاني تفاعلاً من العملاء تجاوز بثلاثة أضعاف ما سجّله الفريق الأوّل. 

كيف تكتسب هذه المهارة؟ إليك بعض المبادئ: 

  • راقب سلوك الناس، لا أقوالهم فقط. 
  • درّب نفسك على إعادة صياغة المشكلات قبل السعي إلى الحلول. 
  • واظب على طرح أسئلة "لماذا؟" و"ماذا لو؟" 
  • فكّر كمسافر، وكن أنثروبولوجياً ومحقّقاً في الوقت ذاته. 

2. التفكير النّظمي: رؤية تأثيرات الدّوامة 

التفكير النظمي هو فهم كيف تؤثر المكوّنات المختلفة داخل نظامٍ معقّدٍ بعضها في بعض. وبدلاً من تحليل الأجزاء بشكلٍ منفصل، يركّز هذا النّمط من التفكير على تفاعل الأجزاء داخل الكلّ، كاشفاً عن أنماطٍ وعلاقاتٍ يصعب إدراكها بغير ذلك. 

يعمل الذّكاء الاصطناعيّ داخل الأنظمة التي نُصمّمها، غير أنّه نادراً ما يُدرك كيف يمكن لتغييرٍ واحدٍ أن يؤثّر على بقية أجزاء المنظومة. 

في العام الماضي، نفّذ أحد عملائي في قطاع التّجزئة نظام جردٍ ذكيّ مدعوم بالذّكاء الاصطناعيّ، وقد أبدع في تحسين مستويات المخزون. ولكن، بعد 3 أشهر، واجهت الشّركة أزمة في خدمة العملاء. لماذا؟ لأنّ النّظام لم يأخذ في الحسبان كيف تؤثّر تغيّرات المخزون في توقّعات التّوصيل، وجدولة الموظّفين، والتّواصل مع العملاء. 

فكيف تُطوّر هذا الإطار الذّهنيّ؟ إليك بعض الخطوات: 

  • تعلّم كيف تحدّد الحلقات السّببيّة ونقاط التّأثير في مؤسّستك. 
  • ذكّر نفسك دوماً بأنّ الكلّ أعظم من مجموع أجزائه. 
  • اسأل "ثم ماذا؟" ثلاث مرّات على الأقلّ مع كلّ قرار. 
  • اختبر آثار النّظام بتجارب صغيرة قبل أن تُطبّق التغيير بالكامل. 

3. التّفكير المستقبليّ: صياغة الغد بدلاً من التّفاعل معه 

التّفكير المستقبليّ هو منهجٌ منظّمٌ، وعلمٌ دقيق، يستشرف الغد لا بوهمِ اليقين، بل بمرونة الاحتمال، ويسعى لا إلى توقّع ما سيحدث، بل إلى رسم ما ينبغي أن يكون. إنّه فنّ بناء السّيناريوهات، واستكشاف الممكنات، والتهيّؤ لما قد يأتي. 

بينما ينشغل الجميع بتسخير الذّكاء الاصطناعيّ لمجابهة تحدّيات الحاضر، فإنّ القلّة القليلة من الفائزين الحقيقيّين هم أولئك الّذين بدأوا منذ الآن يتطلّعون إلى ما بعد الأفق. 

أذكر، على سبيل المثال، إحدى الرّئيسات التّنفيذيّات لشركةٍ صناعيّة، وهي من أولئك الّذين لا يرضون أن يكونوا متفرّجين على موجات التّغيير، بل يصرّون على ركوبها. لقد بدأت، من 5 سنوات، تضع تصوّراتٍ وسيناريوهاتٍ حول كيفيّة تأثير الذّكاء الاصطناعيّ في صناعتها. وبينما كان منافسوها لا يزالون يكدّون في تطبيق الأتمتة الأساسيّة، كانت هي تُخطّط للمرحلة التّالية: مرحلة التّصنيع القائم على التّكامل بين الإنسان والآلة. 

وكانت النّتيجة أن شركتها باتت، اليوم، تتقدّم على باقي الشّركات في القطاع بما لا يقلّ عن عامين، لا من حيث التّقنية فحسب، بل من حيث الرّؤية والجاهزيّة والقدرة على الاستجابة السّريعة. 

فكيف تبني لنفسك ملكة التّفكير المستقبليّ؟ 

  • خصّص وقتاً منتظماً، ولو ساعةً أسبوعيّاً، لتأمّل التّوجّهات النّاشئة، ومتابعة ما يُكتب ويُقال عن المؤشّرات القادمة. 
  • لا تُقيّد نفسك بثنائيّة "أفضل سيناريو" و"أسوأ سيناريو"، بل ابنِ تصوّراتٍ متعدّدة، واستعرض أطياف الممكن. 
  • حدّد ما يُعرف بخيارات "لا ندم فيها"، أي تلك الخطوات الّتي تبقى نافعة في مختلف الأحوال والاحتمالات. 
  • أنشئ رهاناتٍ صغيرة، اختبر من خلالها تصوّراتك، وانظر ما ينجح منها، ثمّ كبّره ووسّعه بخطىً مدروسة. 

نبذة عن الكاتب:   

مارك مِكي هو استراتيجيّ ابتكار، ومتحدّث رئيسي، ومستشار تنفيذيّ، متخصّص في التّحوّل الرّقمي، والتّفكير التّصميمي، والتّفكير النّظمي، والقيادة الإبداعيّة. يعمل مع مؤسّساتٍ تجاريّةٍ عالميّة، وهيئاتٍ حكوميّة، لمساعدتها على اجتياز فترات الاضطراب، وبناء استراتيجيّاتٍ مهيّأةٍ للمستقبل، وإعادة النّظر في طرائقها لحلّ المشكلات واكتشاف الفرص. 

نُشرت هذه المقالة لأول مرة في عدد مارس من مجلة "عربية .Inc". لقراءة العدد كاملاً عبر الإنترنت، يُرجى النقر هنا.

آخر تحديث:
تاريخ النشر: