4 جوانب رئيسيّة ترسم ملامح الذكاء الاصطناعي في العمل لـ 2024
التّركيز الجوهريّ لاستثمار الشّركات والأعمال في الذّكاء الاصطناعيّ لعام 2024 سينصبّ على هذه المجالات الأربعة، بما تحمله من إمكانيّات وبما تقدّمه من مجال واسع للتّطوير.
لا بلافتاتِ الاحتجاج والشّعارات، ولكن بالخوارزميّات والبيانات، تختمر ثورة الذّكاء الاصطناعيّ، وبوقوفنا على عتبة عام 2024م، يتسارع نبض هذه التّقنيّة في عالم الأعمال، مُعلنةً عن عصرٍ جديدٍ من الابتكار والمنافسة. وفي حوارنا هنا حول مشهد الأعمال القادم في ظلّ هذه الطّفرة في العام المُقبل، لا نتحدّث عن تكهّناتٍ أو رُؤىً مُبَسَّطةٍ، إنّما عن معالمَ واضحةٍ لواقعٍ حيث لا تتكيّف الشّركات للبقاء فحسب، بل تبتكر للازدهار.
واقع الذكاء الاصطناعيّ في قطاع الأعمال 2023
بينما نتطلّع نحو أفق عام 2024، باستراق نظرةٍ استرجاعيّةٍ لعام 2023، يمكننا أن نعاينَ ملامح حقبةٍ تحوّليّةٍ للذّكاء الاصطناعيّ، أعادت بدورها تعريف مشهد العمليّات التّشغيليّة لقطاع الأعمال في جميع أنحاء العالم. لقد امتاز العامّ الجاري باندماجٍ غير مسبوقٍ للذّكاء الاصطناعيّ في نسيج الصّناعات المتنوّعة، وذلك بما يتعدّى عمالقة التّكنولوجيا والتّقدّم المتسارع لمجتمع المصدر المفتوح؛ حيث استغلّت الشّركاتُ الذّكاء الاصطناعيّ لأتمتة المهامّ الرّوتينيّة، وتحليل مجاميع البيانات الهائلة بدقّةٍ غير مسبوقةٍ، وبناء توقّعاتٍ لتوجّهات العمل.
في قطاع التّجزئة، بات الذّكاء الاصطناعيّ هو المحرّك الصّامت الذي يقود إدارة المخزون، وتوقّعات سلوك المستهلك، وصياغة تجارب التّسوق الشّخصيّة. كما اعتمدت المؤسّسات الصّحيّة الذّكاء الاصطناعيّ لقدرته التّشخيصيّة، وقابليته التّنبؤيّة في رعاية المرضى، وتخصيص بروتوكولات العلاج. وتوجّهت صناعة التّمويل أيضاً نحو الذّكاء الاصطناعي لتعزيز كشف الاحتيال، وتنقيح إدارة المخاطر، وتحسين تفاعلات خدمة العملاء.
لم يكن تبنّي الذّكاء الاصطناعيّ مجرّد اتّجاهٍ عابرٍ، بل كان تحوّلاً شاملاً؛ إذ إنّ روبوتات الدّردشة وبرامج المساعد الصّوتي المعزَّزة بالذّكاء الاصطناعيّ أعادت تعريف أنماط خدمة العملاء، مقدّمةً المساعدة والدّعم على مدار السّاعة. في هذا السّياق، أشار استطلاع من Forbes Advisor بأنّ نحو 73% من الشّركات تستخدم بالفعل أو تخطّط لإدراج روبوتاتٍ دردشةٍ معزّزةٍ بالذّكاء الاصطناعيّ في واجهات الدّردشة الفوريّة خاصّتها. وفي مجال تحليلات البيانات، فرضت أدوات الذّكاء الاصطناعيّ قدراتها في غربلة البيانات لاستخراج الرّؤى التي يمكن أن تحوّل استراتيجيّة الأعمال من التّخمين إلى اليقين المستند إلى البيانات. إضافةً إلى ذلك، شهد الأمن السّيبراني تصدّر أنظمة الذّكاء الاصطناعيّ للمشهد في إمكانيّاتها على تحديد التّهديدات وتحييدها بشكلٍ استباقيّ، ممّا عزّز الأعمال التّجاريّة في عالمٍ مليءٍ بالمخاطر.
لم يكن حال الذّكاء الاصطناعيّ في عام 2023 مجرّد تقدّمٍ أو تطوّرٍ تقنيّ وحسب، بل إنّ الوافد الجديد بات في صلب استراتيجيّات الأعمال الأساسيّة، الكبيرة منها والصّغيرة. كان عاماً، توقّف فيه الذّكاء الاصطناعيّ عن كونه أداةً مساعدةً، وأصبح ركناً أساسيّاً في دفع قيمة الأعمال وكفاءتها وابتكارها. لم تجرّب الشّركات الذّكاء الاصطناعيّ فحسب؛ بل التزمت به، مستثمرةً بشكلٍ كبيرٍ لاستغلال قوّته التّحويليّة والتّخليقيّة.
أهم ملامح التركيز على الذكاء الاصطناعيّ في عالم الأعمال 2024
اتّجاهاتٌ أربعة نوردها إليكم هنا كأبرز النّواحي الّتي ستشحذ مشهد الشّركات وتعاملها مع تقنيّات الذّكاء الاصطناعيّ للعام القادم.
-
تطوير بيئة العمل
في مجال دعم الموظّفين وتفاعلهم، سيزداد الاتّكال على الذّكاء الاصطناعيّ في التّحليل العميق لأنماط الاتّصال والبيانات البيومترية، إذ توفّر أدوات الذّكاء الاصطناعيّ لأصحاب العمل رؤى دقيقةً حول رضا الموظّفين. إذ يسمح هذا النّهج المستند إلى البيانات بزراعة ثقافة شركةٍ أكثر صحّةً، مع تمكين الانتقال من استراتيجيّات التّفاعل الرّدّية إلى الاستباقيّة. على سبيل المثال، يمكن لأنظمة الذّكاء الاصطناعيّ المجهّزة بقدراتِ المعالجة اللّغويّة الطّبيعيّة مراقبةُ مشاعر التّواصل بين الموظّفين، ممّا يوفّر مقياساً للّحظة الرّاهنة لمعنويات مكان العمل، ويساعد في تقصّي مواضع الإرهاق المُحتمَل قبل أن يغدو أكثر تعقيداً وحرجاً.
تعزيز إنتاجيّة العاملين هو مجالٌ آخرُ سنرى فيه تألُّق الذّكاء الاصطناعيّ في عام 2024م، أين يمكن لأدوات التّحليل التّنبؤيّ اقتراح فرص تعلّمٍ شخصيّةٍ وتحسيناتٍ لكلّ موظَّفٍ على حدة. تستند هذه التّوصيات المدفوعة بالذّكاء الاصطناعيّ إلى تحليلٍ مستمرٍّ لبيانات الأداء، ممّا يتيح نهجاً أكثر ديناميكيّةً واستجابةً لتطوير الكادر بأكمله.
ومن المُنتَظَر أن يقدّم الذّكاء الاصطناعيّ دعماً وإرشاداً على صعيدٍ أكثر تخصّصاً وشخصيّةً من خلال تحسين خوارزمياتٍ محدّدةٍ لمكان العمل. تلك الخوارزميات لن تعزّز الإنتاجيّة فحسب، بل ستضمن أيضاً أن يتلّقَ الموظّفون تعليقاتٍ في الوقت المناسب مُصمَّمةً خصّيصاً لاحتياجاتهم وظروفهم الفريدة.
في جوهره، يتّسم الواقع القادم لتطبيق الذّكاء الاصطناعيّ في بيئة العمل بتركيزٍ مزدوجٍ؛ استغلال الإمكانيّات التّحويليّة لتعزيز تجربة الموظّف والإنتاجيّة، مع معالجة التّحدّيات الجدّية التي تطرأ تبعاً لذلك. هذا التّوازن حاسمٌ جدّاً للمنظّمات والشّركات الّتي تهدف إلى الاستفادة من مزايا الذّكاء الاصطناعيّ مع تعزيز بيئة عملٍ أخلاقيّةٍ وجذّابةٍ ومُنتجةٍ، مع التّنويه إلى أنّ الأمر هذا لا يخلو من العوائق؛ إذ يجب على الشّركات أن تتصارعَ مع قيود الذّكاء الاصطناعيّ في سبيل بلوغ غاياتها، مثل التّحيّز الخوارزميّ وغياب الذّكاء العاطفيّ.
-
الشراكة مع شركات الذكاء الاصطناعيّ
سيغدو التّحالف الاستراتيجيّ مع شريكٍ مرموقٍ في تطوير الذّكاء الاصطناعي بمثابة حجر الأساس للنّموّ الدّيناميكي والحفاظ على التّنافسيّة. مع التّنامي الهائل لحدود الإمكانيّات التّقنيّة، لن يعود الأمر مقتصراً على ما يمكن للذّكاء الاصطناعي أن يفعله لأعمالك فحسب، بل على القدرات الابتكاريّة والمرونة التّشغيليّة التي يمكن أن يقدّمها عند دعمه بالشّراكة الصّحيحة.
إنّ اختيارَ الشّركة للطّرف الثّاني الأنسب في شراكة الذّكاء الاصطناعيّ يضمن أن تكون البراعةُ التّكنولوجيّة الّتي تستثمر فيها الشّركة في توائمَ ونضجٍ تامٍّ مع تطلّعات نموّها. هذه القابلية للتّوسّع، المتناغمة والمدعومة بقدرات التّنبّؤ للذّكاء الاصطناعيّ، تعمل كإجراءٍ وقائيّ ضدّ تقلّبات السّوق والمخاطر التّشغيلية. إنّ حكمةَ الاستثمار الماليّ في تطوير الذّكاء الاصطناعيّ تتجسّد ليس فقط كوعدٍ مستقبليّ، بل كعوائدَ تتحقّق في الوقت الحاليّ، من خلال إجراءاتٍ مُحسَّنةٍ وعملياّتٍ مقتصِدةٍ.
شاهد أيضاً: لا تقع في فخ الوعود الزائفة للذكاء الاصطناعي
في جوهرها، تُجسّد الشّراكة الصّحيحة مع الشّركات أو الجهات المطوّرة للذّكاء الاصطناعي روح الابتكار والتّفكير المستقبليّ. إنّ الأمرَ يتعلّق ببناء شركاتٍ أو مشاريع لا تتكيّف مع التّغيير فقط، بل تتوقّعه وتدفع به، معلنةً مكانتها في طليعة صناعاتها. في النّسيج الرّقميّ لعام 2024، هذه الشّراكات لن تكون فقط مجرّد خيوطٍ أو قنواتِ ربطٍ، بل السُّدى واللُّحمة التي تشكّل نسيج شركةٍ جاهزةٍ للمستقبل.
-
إعطاء أولوية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعيّ
في 2024م، سنرى تزايداً في سعي الشّركات بنشاطٍ لإيجاد طرقٍ لاستغلال قوّة الذّكاء الاصطناعيّ دون الوقوع في المحاذير الأخلاقيّة التي أوقعت المتبنّين الأوائل.
غالباً ما يقود تلك الاستراتيجيّات مستشارو أخلاقيّات الذّكاء الاصطناعيّ؛ هذا دورٌ قد تطوّر بسرعةٍ من مجرّد عنصر رفاهيّةٍ وترفٍ إلى ركنٍ أساسيّ فيما يُسمَّى بحَوكمة الشّركات. يعمل هؤلاء الخبراء كالبوصلة الأخلاقيّة، وتكمن مهمّتهم في ضمان تكامل الذّكاء الاصطناعيّ في العمليات التّجارية مع القيم الأساسيّة للشّركة. ليسوا مجرّد مستشارين عاديّين، بل لاعبين أساسيّين يقودون عبر متاهة التّعقيدات الأخلاقيّة والقانونيّة الّتي يفرضها الذّكاء الاصطناعيّ، ويشرفون على بناء سياساتٍ تعالج استباقيّاً قضايا مثل التهّديدات العدائيّة وتحيّزات البيانات.
من منظورٍ آخر، ومع نموّ شهيّة الذّكاء الاصطناعيّ للبيانات، يزداد القلق بشدّةٍ حيال الخصوصيّة. في هذا الصّدد، تتجسّد استجابة الشّركات لتلك الهواجس بتأسيس أُطُرِ حوكَمة بياناتٍ صارمةٍ لا تلبّي التّوقّعات التّنظيميّة فحسب، بل تتجاوزها. لقد أصبح هذا الالتزام بوصاية البيانات معياراً للثّقة وميزةً تنافسيّةً أيضاً، حيث يتماشى المستهلكون بشكلٍ متزايدٍ مع الجهات التي تعامل بياناتهم باحترامٍ بالغٍ.
الاستثمار في معرفةالذّكاء الاصطناعيّ هو مجالٌ آخرُ ذو صلةٍ وثيقةٍ بهذا المنحى، إذ من المُتوقَّع أن يكون تثقيف كافّة الأطقُم والقوى العاملة في عام 2024م بمكنونات الذّكاء الاصطناعيّ أولويّةً لدى مُلّاك الأعمال، كما هو الحال تماماً مع أيّ أداةٍ أخرى من أدوات العمل. بذلك، ينجلي الغموض واللّغط الذي قد يعتري نظرة الموظَّف عن الذّكاء الاصطناعي، ويغدو تفاعله معه مسؤولاً وفعّالاً. هذا الإخلاص للتّعلّم المستمرّ ليس فقط استثماراً في رأس المال البشريّ؛ إنّما هو استثمارٌ في الصّلابة الأخلاقيّة.
-
مزيد من الارتقاء في تجربة العميل
لقد أدركتِ الشّركات اليوم أنّ جوهر هذه الفكرة يكمن في قدرة الذّكاء الاصطناعيّ على تجاوز توقّعات العملاء وتعزيز شعور الولاء للعلامة التّجاريّة، والّذي يُعتبَر حاسماً في سوق اليوم التّنافسيّ عن طريق إعمال الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ، لا يقتصر الأمر فقط على الاستجابة لاحتياجات العملاء، إنّما يتعدّاه إلى توقّعها، ممّا يخلق بيئةً استباقيّةً يُعتَبَر فيها رضا العملاء أمراً مسلَّماً به، لا هدفاً يُسعَى إليه.
السّمتان الأبرز لهذا التّحوّل في تجربة العميل بمساعدة الذّكاء الاصطناعيّ في 2024 هما الشّموليّة والابتكار؛ إذ إنّ مفهوم خدمة العملاء سيرتقي نحو التّفاعل مع العميل، وذلك بحدّ ذاته شهادةٌ على كفاءةِ الذّكاء الاصطناعيّ في تعظيم قيمة العميل، وإعادة اختراع الطّرق الّتي تتفاعل بها الشّركات مع زبائنها، بحيث تغدو كلّ نقطةِ تلامسٍ واتّصالٍ فرصةً للتفاعل.
شاهد أيضاً: الذكاء الاصطناعي سيخلق حقبة جديدة من التّميّز في خدمة العملاء
علاوةً على ذلك، تسمح قدرات الذّكاء الاصطناعيّ الفائقة في معالجة البيانات بإنشاء إعلاناتٍ مستهدَفةٍ، وتخاطب مباشرةً حاجات العملاء واهتماماتهم وسلوكيّاتهم. هذا المستوى من التّخصيص غير المسبوق هو خيرُ استراتيجيّةٍ مع المستهلك الحديث، الذي يثمّن جانب التّخصيص الشّخصيّ بقدر ما يثمّن جودة وسرعة الخدمة. ليس ببعيدٍ عن ذلك تتجلّى الفوائد التّشغيليّة، وهي واضحةٌ وبديهيّةٌ في ظلّ ما ذكرناه آنفاً، مثل تقليل أوقات الانتظار، وتبسيط التّفاعلات مع العملاء، وتعزيز التّفاعل.
إذن، سيغدو الذّكاء الاصطناعيّ بمثابة مهندس البهجة للعميل، والشّريك الصّامت في كلّ تفاعلٍ ناجحٍ معه، واليد غير المرئيّة الّتي تقود الأعمال نحو المستقبل، حيث تجربة المستهلك هي الفارق الأساسيّ.
كلمة أخيرة
خلاصةُ القول، في 2024، سوف تخضع رواية الذّكاء الاصطناعيّ في عالم الأعمال لتحوّلٍ عميقٍ، لا محالة، وأعظم ممّا عايشناه في 2023، إذ لم يَعُدْ الذّكاء الاصطناعيّ مجرّد فكرةٍ مستقبليّة أو هامشٍ في استراتيجيّة الشّركات، كلّ الشّركات، بل الرّكن الأهمّ والأولى بالتّركيز والاستثمار من بين كلّ أدوات العمل والتّخطيط، والمنارة الّتي تقود السّباق نحو واقعٍ جديدٍ ومعالمَ منافسةٍ غير مألوفةٍ.