أزمة فقر التعلم تهدد تعليم اللغة العربية في الشرق الأوسط
تقرير يكشف عن معاناة 60% من أطفال المنطقة في قراءة واستيعاب النصوص، وخبراء يطرحون مبادرات لتحسين التعليم وتطوير استراتيجيات مبتكرة
اللغة العربية، هي اللّسانُ الرّسميُّ في خمسٍ وعشرينَ دولةً، تتردّدُ أصداؤها على ألسنةِ أكثرِ من 467 مليونَ نفسٍ ممتدّةٍ عبرَ ستينَ دولةً.
في عامِ 2021، أبرزَ البنكُ الدّوليُّ تقريراً مثيراً للقلقِ؛ إذ كشفَ أنّ نسبةً تُبلغ نحو 60% من أطفالِ الشّرقِ الأوسطِ وشمالِ أفريقيا يعانونَ ممّا يُعرف بفقرِ التّعلمِ، وهو ما يعني أنّ أكثرَ من نصفِ الصّغارِ في تلكَ الأصقاعِ لا يقدرونَ على قراءةِ واستيعابِ النّصوصِ الملائمةِ لأعمارهِم بالعربيّةِ حينَ يبلغونَ العاشرةَ من العمرِ، وهذا يعني أنّ النّاشئةَ من أبناءِ اللّغةِ العربيةِ محرومونَ فعليّاً من إحدى أهمّ قنواتِ التعلّمِ؛ القراءةُ.
وضع معايير لتعلّم اللغة العربية
وضعتِ الأستاذةُ "هنادا طه تامير" -الأستاذةُ المتميّزةُ في تدريسِ اللّغةِ العربيةِ بجامعةِ زايد والكاتبةُ في تقاريرِ البنكِ الدوليِّ- معاييرَ مبتكرةً لتعلّمِ العربيّةِ، وساهمتْ بشكلٍ محوريٍّ في تطويرِ SARD، وهي منصّةٌ متقدّمةٌ لاختباراتِ اللّغةِ العربيةِ الموحّدةِ، الّتي تهدفُ إلى أنْ تصبحَ البديلَ العربيَّ المثاليَّ لاختباراتِ MAP، وتتميّز SARD -والّتي ما تزالُ قيدَ التّطويرِ- بأنّها أداةٌ تعتمدُ على الذّكاءِ الاصطناعيِّ لتقييمِ ومقارنةِ مستوى إتقانِ الأطفالِ للّغةِ العربيّةِ عبرَ مختلفِ المدارسِ والدّولِ في العالمِ العربيّ.
تشرحُ طه: "اللّغةُ عبارةٌ عن مجموعةٍ من الاستراتيجيّاتِ والمهاراتِ الضّروريةِ للأطفالِ لتعلُّمِها، مثل: معرفةُ القافيةِ، وأسماءُ الحروفِ وأصواتُها، وتراكيبُ الحروفِ، وسرعةُ قراءةِ الكلماتِ مع التّشكيلِ، وتمييزُ الكلماتِ الخياليّةِ عن غيرها". وتُعدُّ هذه الاختباراتُ -الّتي تُغطي فهم القراءةِ والاستماعِ- مؤشراً مهمّاً لمدى تعرّض الأطفالِ للكتابةِ والخطوطِ.
كذلكَ تقودُ طه مركزَ زاي الّذي أنشأتهُ جامعةُ زايدَ مؤخّراً؛ إذ يُركّزُ هذا المركزُ البحثيُّ على تحديدِ أفضلِ الطّرقِ لتعليمِ اللّغةِ العربيّةِ، ويسعى إلى تعزيزِ العلاقةِ بين المدارسِ والمعلّمين والأهالي؛ لضمانِ تعلُّمِ العربيّةِ في المدارسِ والبيوتِ، ويشملُ عملُ المركزِ كذلكَ ترجمةَ الأبحاثِ المتعلّقةِ بأساليبِ محوِ الأميّةِ المبنيّةِ على الأدّلةِ، والّتي لم يتمَّ توفيرُها باللّغةِ العربيّةِ بشكلٍ كافٍ.
تواجهُ طه تحديّاً آخرَ يتمثّلُ في قلّةِ تدريبِ المعلّمينَ وغيابِ استراتيجيّاتِ التّعلّمِ المنظّمةِ، "يعاني المعلّمونَ من نقصٍ في الحماسِ، وغيابٍ في الشّعورِ بالانتماءِ، ويعتمدونَ على برامجَ تحضيريّةٍ متقادمةٍ، ولا يتمُّ توجيهُ الاهتمامِ الكافِي لتطويرِهم، ممّا يرسلُ رسالةً سلبيّةً حولَ أهميّةِ اللّغةِ العربيّة"، وتفيدنا طه وتضيفُ: إنّ المناهجَ الدّراسيّةَ القديمةَ، وندرةَ الاستراتيجيّاتِ الأميّةِ القائمةِ على الأدّلةِ، وانتشارَ المدارسِ الأجنبيّةِ، والسّياساتِ التّعليميّةَ الّتي لا تركّزُ بما فيهِ الكفايةُ على تعلّمِ العربيّةِ في المراحلِ التّعليميّةِ الأولى أو تخصيصِ عددٍ كافٍ من السّاعاتِ الأسبوعيّةِ لتعلُّمِها؛ كلّ ذلك يؤدّي إلى تدريسِ العربيةِ كلغةٍ ثانيةٍ أو كمادّةٍ خاصّةٍ لجيلٍ كاملٍ.
وتؤكّد طه على ضرورةِ "تسويقِ اللّغةِ العربيةِ بطريقةٍ فعّالةٍ"، وتقول: "إنّ تعدّدَ اللّغاتِ ميزةٌ كبيرةٌ، لكنْ من الضّروريِّ أنْ نكونَ متمكّنينَ من لغتنَا الأمِّ".
شاهد أيضاً: مؤسسة أجيال تفوز بجائزة محمد بن راشد للغة العربية
الكتب إلى المنازل
إدخالُ الكتبِ إلى المنازلِ أحدُ أهم التّحديات في تعليمِ اللّغةِ العربيّةِ، خاصّةً مع الفارقِ بين العربيّةِ الفُصحى والعربيّةِ الدّارجةِ؛ إذ يؤدّي هذا الأمر إلى ظاهرةِ الازدواجيّة اللّغوية، أو "الدجلوسيا"؛ وهو مصطلحٌ يستخدمهُ اللّغويونَ للدّلالةِ على وجودِ لهجتينِ مختلفتينِ من نفسِ اللّغةِ في نفسِ المجتمعِ اللّغويّ؛ حيث تُستخدمُ كلُّ لهجةٍ لأغراضٍ مختلفةٍ في العربيةِ، يشيرُ هذا إلى الفرقِ بين العربيّةِ الدّارجةِ المستخدمةِ في التّواصلِ اليوميِّ، والعربيّةِ الفُصحى الّتي تُعدٌّ لغةَ الثّقافةِ والتّعلّمِ.
تقولُ طه: "يُعرفُ النّاطقُ الأصليُّ بالعربيّةِ بأنّهُ من يُتقنُ الفُصحى أو العربيّةَ المعياريّةَ الحديثةَ ولهجتَهُ المحليّةَ، ويستطيعُ فهمَ اللّهجاتِ المتنوّعةِ".
منذ الولادةِ وحتّى الوصولِ إلى سنِّ الدراسةِ، يكتسبُ الأطفالُ مهاراتِ القراءةِ والكتابةِ من خلالِ القراءةِ لهم أو قراءتهم للكتبِ، ويُظهر تقريرُ البنكِ الدَّوْليِّ أنّ نسبةَ قراءةِ الآباءِ ومقدِّمِي الرّعايةِ للأطفالِ في الدّولِ النّاطقةِ بالعربيّةِ تتراوحُ بين 20-25% فقط، مقارنةً بنسبةِ 80% في دولٍ، مثل: أستراليا وهولندا ونيوزيلندا وأيرلندا الشّمالية.
- مؤشرٌ آخرُ هو انخفاضُ معدّلِ وجودِ كتبِ الأطفالِ في المنازلِ، وهو أمرٌ شائعٌ في المنطقةِ أيضاً.
تخبرنا ندى ثابتُ مالكةُ دارِ نشرِ "لبلب" في لندن -المتخصّصةُ في نشرِ كتبِ الأطفالِ بالعربيّةِ الدّارجةِ المصريّةِ- أنّ حواراتِها مع مؤلّفينَ وناشرينَ مستقلّينَ، تُظهر أنّ الكتبَ بالعربيّةِ الدّارجةِ غالباً ما تكون أكثرَ جاذبيّةً وتفاعلاً للآباءِ والأطفالِ، ومع ذلكَ غالباً ما تُستبعدُ هذه الكتبُ من جوائزِ الكتبِ، ويشكّلُ النّشرُ بالعربيةِ الدّارجةِ تحدّياً في الوصولِ إلى أسواقٍ عربيّةٍ متعدّدةٍ، مما يحدُّ من قدرةِ النّاشرين على التّوسعِ.
يجدُ الكثيرُ من الكتّابِ طرقاً لسدِّ الفجوةِ بين العربيّةِ الدّارجةِ والفُصحى، وذلكَ من خلالِ استخدامِ كلماتٍ مشتركةٍ أو الإبداعِ في استخدامِ التّشكيلِ؛ إذ حتّى بين الكُتّابِ الذين يستخدمونَ الفُصحى، يظلُّ حجمُ النّشرِ منخفضاً مقارنةً باللّغاتِ الأخرى.
بالنّسبةِ لطه، بينما يُعدُّ سماعُ العربيّةِ الدّارجةِ ضروريّاً لتعويدِ الأطفالِ على بنيةِ اللّغةِ، تكمنُ الفجواتُ الأساسيّةُ في التّعلّمِ بالفُصحى، ممّا يجعلُ من الضّروريّ للأطفالِ التّفاعلُ مع الفصحى من خلالِ وسائطِ الإعلامِ والكتبِ، وتلاحظُ طه مثلَ ثابت، أنَّ النّاشرينَ والكتّابَ بحاجةٍ للإبداعِ في إيجادِ كلماتٍ مشتركةٍ بين العربيّةِ الدّارجةِ والفُصحى، والّتي يُمكن أن تساعدَ في ردمِ الفجوةِ للقرّاءِ الصّغارِ وأوليائِهم، وخلقِ حبِّ القراءةِ واللّغةِ في سنٍّ مبكّرةٍ.
شاهد أيضاً: نون التعليمية السعودية تجمع $41 مليوناً في جولة تمويل من السلسلة "ب"
تحت الرادار: التكنولوجيا التعليمية
يشيرُ ماجدُ حربي المديرُ العامُّ لـ EdVentures- وهي شركةٌ رأسماليّةٌ استثماريّةٌ مقرُّها القاهرةُ، تابعةٌ لمجموعةِ نهضةِ مصرَ للنّشرِ، وتستثمرُ في المراحلِ المبكّرة للشّركاتِ النّاشئةِ في مجالِ التّكنولوجيا التّعليميّةِ في الشّرقِ الأوسطِ وأفريقيا وأوروبا والولاياتِ المتّحدة- إلى أنّه على الرَّغمِ من النّمو الكبيرِ للتّكنولوجيا التّعليميّةِ في المنطقةِ، فإنّ التّكنولوجيا المختصّةَ بتعلّمِ اللّغةِ العربيّةِ ما تزال في بداياتِها، ووفقاً لتجربتهِ، غالباً ما يعودُ الابتكارُ في تعلّمِ اللّغةِ العربيّةِ من برامجَ مخصّصةٍ لتعليمِ غيرِ النّاطقينَ بها.
"نحن بحاجةٍ إلى تعاونٍ أكبرَ مع الحكوماتِ والمنظّماتِ غيرِ الحكوميّةِ والقطّاعِ الخاصِّ؛ لابتكارِ حلولٍ فريدةٍ تُحافظُ على اللّغةِ العربيّةِ وتطوّرُها"، ويقولُ مضيفاً: إنّه إذا أوجدتِ السّلطاتُ التّنظيميّةُ وصانعو السّياساتِ حوافزَ للشّركاتِ النّاشئةِ للدّخولِ في هذا المجالِ، فإنّ التكنولوجيا التّعليميّةَ ستتقدّمُ لسدِّ الثّغراتِ القائمةِ.
يرى حربي أنّ غيابَ الاختباراتِ الموحّدةِ وقلّةَ الوعي بحجمِ المشكلةِ تشكّلانِ عقبتينِ رئيسيّتينِ أمامَ تطوّرِ تعلّمِ اللّغةِ العربيّةِ.
أحمد القلا -مستثمرٌ ملائكيٌّ ورأسماليٌّ مغامرٌ، استثمرَ في أكثرَ من ثماني شركاتٍ ناشئةٍ في مجالِ التّكنولوجيا التّعليميّةِ عبرَ منطقةِ الشّرقِ الأوسطِ وشمالِ أفريقيا ودولِ مجلسِ التّعاون الخليجيّ والولاياتِ المتحدةِ وأفريقيا- يؤكّد أنّ الابتكارَ في مجالِ التّكنولوجيا التّعليميّةِ يُمكنُ أن يساعدَ في سدِّ الفجواتِ ولا يقتصرُ دورُهُ على تعلّمِ اللّغةِ، ولكنْ سيساعدُ أيضاً في التّعليمِ الرّسميِّ بشكلٍ عامٍ. واستناداً إلى تجربتهِ، يرى أنّ لديهم الابتكارَ اللّازمَ للشّراكةِ مع الوزاراتِ وسدِّ الثّغراتِ الضّروريةِ؛ لكنّهم لم يكتسبوا بعدُ ثقةَ الجهاتِ التّنظيميّةِ.
يواجهُ قطّاعُ التّكنولوجيا التّعليميّةِ مشكلةً في الوصولِ إلى السّوقِ، ويقولُ القلا مشدّداً على أنّه بسببِ نقصِ الدّعمِ التّنظيميِّ وعدمِ الاعترافِ بها كأدواتٍ تعليميّةٍ مشروعةٍ من قبل صانِعي السّياساتِ، فإنّها لا تستطيعُ الوصولَ إلى نظامِ التّعليمِ بنفسِ الطّريقةِ الّتي فعلتْهَا التّقنياتُ المخصّصةُ لتعلّم اللّغةِ الإنجليزيّةِ.
"ما تزالُ الجهاتُ التّنظيميّةُ تواجه صعوبةً في الثّقةِ بالتّكنولوجيا التّعليميّةِ؛ لأنّها تركّز على الكيفيّةِ، بينما أرغبُ في التّفكيرِ في النّتائجِ، فهل تقدّمُ هذه التّطبيقاتُ المحتوى الصّحيحَ؟ هل توفّرُ إمكانيّةَ الوصولِ العادلةِ؟ ما هي نتائجُها؟ هذهِ كلُّها أمورٌ يُمكنُ قياسُها"، وفق ما يقولُ.
الضوء في آخر النّفق
على الرَّغمِ من وجودِ شغفٍ واهتمامٍ بتحسينِ نتائجِ تعلّمِ اللّغةِ العربيّةِ، إلّا أنّ الإطارَ والسّياسةَ -المطلوبَينِ لتقدّمِ تعلّمِ اللّغة- ما زالا قاصرينِ.
"نحتاجُ إلى صانعي السّياساتِ لفرضِ عددٍ معيّنٍ من السّاعاتِ الأسبوعيّةِ لتعلّم اللّغةِ العربيةِ، مع تقديمِ هذا التعلُّم بطريقةٍ ممتعةٍ وفعّالةٍ، ونحتاجُ إلى تدريسِ موادٍ مسلّيةٍ، مثل: الموادُ الخاصّةُ باللّغتينِ الإنجليزيةِ والعربية، فكّروا في كيفيّةِ استخدامِ الأرقامِ بشكلٍ متكررٍ في حصصِ التّربيةِ البدنيةِ، لماذا لا نجمعُ بين تدريسِ الموسيقى بأسلوبٍ يجمعُ بين الغربيِّ والشّرقيِّ؟ هذه فرصٌ ذهبيّةٌ يُمكننا الاستفادةُ منها بسهولةٍ"، وفق ما تشيرُ طه.
"يعودُ كلّ شيءٍ في النّهايةِ إلى السّياسةِ؛ لا أُحصي عددَ المرّاتِ التي أذكرُ فيها كلمةَ "سياسة" في اليومِ، لدينا أكثرُ من 250 مليونَ طفلٍ في المدارسِ، وهذا العددُ في تزايدٍ مستمرٍّ، نحتاجُ إلى سياساتٍ تُمكّننا من جذبِ أطفالِنا للتّفاعلِ مع اللّغةِ العربيّةِ وتعزيزِ شعورِهم بالانتماءِ والهويّةِ"، وتضيف: "أعتقدُ أنّ الواجبَ المنزليَّ الوحيدَ للّغةِ العربيّةِ يجبُ أن يكونَ القراءةَ لمدّة 20 دقيقةً يوميّاً في المرحلةِ الابتدائيّةِ و30 دقيقةً في المرحلةِ الثّانويّةِ، تماماً مثلما يحدثُ في اللّغةِ الإنجليزيةِ؛ هذا سينعشُ سوقَ النّشرِ ويخلقُ قرّاءً بين الأطفالِ، ويجبُ أن يأتي الطّلبُ على الكتبِ من المدارسِ".
يؤكّد القلا أنّ غيابَ أرضيّةِ اختبارٍ معترفٍ بها ومشروعةٍ للتكنولوجيا التعليميةِ، يجعلُ من الصّعبِ سدُّ الفجواتِ القائمةِ في السّوق، "إذا كانَ هناكَ طلبٌ يُمكنني تقديمهُ للمنظّمين فهو إنشاءُ مساحةٍ للابتكارِ التّعليميّ" بحسبِ قولِ القلا مقارناً التّكنولوجيا التّعليميّةَ بصناعةِ التّكنولوجيا الماليّةِ المزدهرةِ في المنطقةِ، والّتي استفادتْ من مساحاتِ الاختبارِ: "إذا استطاعتِ الوزارةُ توفيرَ أهدافِها التّعليميّةِ، فإنّ التّكنولوجيا التّعليميّة يُمكن أن تساهمَ في تحقيقِها وقياسِها".
وبالنّسبةِ لحربي، فإنّ الدّورَ الأساسيَّ الّذي يُمكن أن تلعبَهُ السّياساتُ هو: رفعُ الوعي؛ إذ قال: "نحتاجُ إلى صانعي السّياساتِ والمنظّمينَ لزيادةِ الوعي بحجمِ المشكلةِ؛ إذ عندما ترى الشّركاتُ النّاشئةُ المشكلةَ، ستبادرُ إلى تقديمِ الحلولِ".