إدريس تريفيثان: الفن الإسلامي بين الماضي والحاضر
بشغفٍ عميق، يستعرض تريفيثان كيف يمكن للفنّ الإسلاميّ أن يعزّز الفهم المشترك بين الثّقافات، ويربط الماضي بالحاضر
هذا المقال متوفر أيضاً باللغة الإنجليزية هنا
يعدّ الدّكتور إدريس تريفثان، المؤرّخ الفنّيّ المرموق، والمربّي، والمؤلّف الّذي تحظى أعماله بتقديرٍ واسعٍ، من أبرز الأسماء في عالم الفنّ الإسلاميّ. لقد كرّس مسيرته لفهم هذا الفنّ بجوانبه الثّقافيّة والرّوحيّة، مسهماً في تعزيز الوعي بجماليّاته العميقة ورموزه المتفرّدة.
ما الّذي أشعل شرارة اهتمامك بالفنّ الإسلاميّ في بداية مشوارك، وكيف انعكس ذلك على مسيرتك في حفظ الفنّ وترميمه وتنظيم المعارض؟
لقد تبلور شغفي بالفنّ الإسلاميّ منذ البدايات، خلال سنوات دراستي الأولى، حين انجذبت إلى عالم حفظ الفنون وترميمها وتنظيم المعارض. تلقّيت تدريبي كمرمّمٍ فنّيٍّ في مدرسة "سيتي آند جيلدز" (City & Guilds) للفنون في لندن، ثمّ تابعت مسيرتي الأكاديميّة بحصولي على درجة الدّكتوراه في الفنّ الإسلاميّ من مؤسّسة الملك للفنون التّقليديّة بلندن. ومنذ ذلك الحين، ظلّ شغفي متقدّاً، تغذّيه رغبةٌ عميقةٌ في حفظ هذا التّراث الزّاخر، وجعله متاحاً للأجيال الجديدة، ليبقى حيّاً في الذّاكرة الإنسانيّة.
هل يمكنك أن تسلّط الضّوء على بعض مشاريعك البارزة في حفظ الفنّ الإسلاميّ، مثل مخطوطات القرآن الماليزيّة أو غرف الاستقبال الدّمشقيّة؟
أحد أعظم إنجازاتي كان تنظيم معرض "الهجرة: في خطى الرّسول"، الّذي مثّل نقطة تحوّلٍ في المشهد الثّقافيّ في المملكة العربيّة السّعوديّة، وترك بصمةً لا تُمحى في مجال الفنّ الإسلاميّ. أعتبر هذا المشروع الأهمّ في مسيرتي حتّى الآن.
لمن يريد معرفة المزيد عن عملي في مشروع "الهجرة"، أنصح بالاطّلاع على مقال مجلّة أرامكو وورلد بعنوان "الهجرة: رحلةٌ غيّرت العالم". يستند المقال إلى مقابلةٍ أجريتها معهم، وهو مصدرٌ غنيٌّ لمن يودّ الاقتباس.
كيف توفّق بين الحفاظ على الجوانب الجماليّة والرّوحيّة للفنّ الإسلاميّ، وضمان نقله بأمانةٍ للأجيال القادمة؟
الإجابة ببساطةٍ تكمن في ضرورة إحياء الفنّ الإسلاميّ عبر دعم الحرفيّين التّقليديّين، وتكليفهم بإنجاز أعمالٍ جديدةٍ تحمل روح هذا التّراث العريق. الفنّ الإسلاميّ ليس إرثاً متحجّراً في صفحات الماضي؛ بل هو تقليدٌ حيٌّ، متجدّدٌ ونابضٌ بالحياة، ويستحقّ منّا العناية والاهتمام ليستمرّ في الازدهار.
كتابك "اللّون، الضّوء والدّهشة في الفنّ الإسلاميّ" (Colour, Light and Wonder) يتناول رمزيّة اللّون. هل يمكنك أن توضّح لنا كيف يؤثّر اللّون في الفنّ الإسلاميّ على الإدراك؟
في كتابي، سعَيت إلى تسليط الضّوء على دور اللّون، الّذي كثيراً ما يُغفل في الدّراسات، في الثّقافة البصريّة الإسلاميّة. اللّون هنا ليس مجرّد زينةٍ، بل هو لغةٌ رمزيّةٌ، تتغلغل في عمق التّجربة الرّوحيّة والثّقافيّة، وتستحضر لدى المشاهد تأمّلاتٍ تتجاوز سطح الأشياء، لتغوص به في بحرٍ من المعاني. أناقش في الكتاب تأثير الفلسفات والصّوفيّة على الفنّ الإسلاميّ، حيث يستخدم اللّون كأداةٍ للتّعبير عن معارف تتخطّى حدود العالم المادّيّ.
ينبغي أن يُنظر إلى كتابي على أنّه جزءٌ من تحوّلٍ عميقٍ في مقاربة دراسة الفنّ الإسلاميّ، حيث ينتقل من نهج التّوثيق الصّارم وتحليل الأعمال الفنّيّة الّذي ساد لعقودٍ، إلى مسارٍ جديدٍ يرتكز على استراتيجيّاتٍ تفسيريّةٍ أعمق وأكثر شمولاً. يتماشى هذا التّحوّل مع ما نجده في أعمال باحثين مرموقين في مجال الجماليّات الإسلاميّة، مثل نجيبوغلو، إلياس، وغونزاليس.
وفي هذا السّياق، أركّز في دراستي على استقبال اللّون في الفنّ والعمارة الإسلاميّة ضمن المجتمعات الّتي أبدعته، وهو بعدٌ لطالما أغفلته الدّراسات التّقليديّة. ومن خلال الاعتماد على التّقاليد الفلسفيّة والصّوفيّة الّتي شكّلت عمق الإرث الفنّيّ الإسلاميّ، تتجاوز أبحاثي المنهجيّات التّقليديّة الّتي التزم بها مؤرّخو الفنّ، لتفتح آفاقاً جديدةً في فهم اللّون كأداةٍ للتّأمّل والمعرفة. أسعى من خلال هذه الرّؤية إلى تسليط الضّوء على كيفيّة تفاعل المجتمعات الإسلاميّة مع الألوان بطرقٍ تختلف عمّا نعرفه اليوم، مستلهماً ذلك من النّصوص الإسلاميّة القديمة الّتي أبدعت في وصفها.
ما هي الخصائص الفريدة للفنّ الإسلاميّ الّتي تجدها الأكثر إلهاماً، وكيف تبرزها في المعارض الّتي تنظّمها في "إثراء"؟
أحاول في معارضي أن أكشف عن تعدّديّة وجوه الفنّ الإسلاميّ، مستمدّاً رؤيتي من تنوّع الأسلوب التّفسيريّ الّذي نجده في المصادر التّاريخيّة. أعتمد على ثلاثة محاور رئيسيّةٍ في عملي:
-
النّهج الجماليّ/السّيميائيّ الظّواهريّ، الّذي يبحث عن الرّوابط العميقة بين الأشكال والمعاني، مستعرضاً القيم الإدراكيّة المتجسّدة في الأعمال الفنّيّة.
-
النّهج الرّمزيّ/الفلسفيّ، الّذي يستند إلى التّأمّل الباطنيّ والتّفسير الصّوفيّ، ممّا يمنح الأعمال عمقاً يتجاوز الظّاهر ليصل إلى مستوياتٍ روحيّةٍ أعمق.
-
تخصّص تاريخ الفنّ، الّذي يتطلّب توثيقاً دقيقاً وتحليلاً صارماً للبيانات، لضمان أصالة وتكامل الدّراسة.
من خلال دمج هذه المناهج، أسعى إلى تقديم تجربةٍ متكاملةٍ تتيح للزّوّار فهم الفنّ الإسلاميّ ليس فقط كتراثٍ بصريٍّ، بل كتعبيرٍ حيٍّ عن فلسفةٍ وثقافةٍ متمدّدةٍ عبر العصور.
كيف يسهم عملك في "إثراء" في تعزيز الوعي العالميّ والتّقدير للفنّ والثّقافة الإسلاميّة؟
في "إثراء"، نهدف إلى توسيع نطاق التّقدير العالميّ للفنّ الإسلاميّ عبر سلسلةٍ من المعارض والمؤتمرات الّتي تفتح جسوراً للحوار الثّقافيّ. على سبيل المثال، في معرض "في مديح الفنان الحرفيّ"، نسلّط الضّوء على إبداعاتٍ تتراوح بين التّحف التّاريخيّة والأعمال المعاصرة، لنظهر كيف تستمرّ الحرفيّة الإسلاميّة في التّطوّر والابتكار.
عبر مبادراتٍ مثل مؤتمر الفنّ الإسلاميّ، نعمل على وصل الماضي بالحاضر، ونسعى لتعميق الفهم حول الجوانب الرّوحيّة والجماليّة للفنّ الإسلاميّ. رسالتنا الأساسيّة هي أنّ الفنّ الإسلاميّ ليس مجرّد تراثٍ مغلقٍ في صفحات التّاريخ، بل هو تقليدٌ حيٌّ ينبض بالحياة، يحمل جمالاً خالداً يظلّ مصدر إلهامٍ للأجيال القادمة.
من خلال هذه الجهود، نسعى إلى دعم استمراريّة هذه التّقاليد، وضمان بقائها ذات صلةٍ في عالمنا المعاصر، ممّا يفتح أفقاً جديداً للفنّ كجسرٍ بين العصور والثّقافات.
هل يمكنك مناقشة الموضوعات الأساسيّة وراء "فنّ التّوجيه" وكيف يعيد تشكيل فهمنا للمساجد من خلال القطع الفنّيّة؟
"فنّ التّوجيه" كان معرضاً استثنائيّاً نظّمته في "إثراء" عام 2021، حيث سعينا إلى استكشاف العمق التّاريخيّ للمساجد، ليس فقط كأماكن للعبادة، بل كمراكز نابضةٍ بالحياة المجتمعيّة والثّقافيّة. لم يقتصر المعرض على عرض التّصاميم الدّاخليّة والمقتنيات الثّمينة، بل سعى لاستحضار روح المساجد كمحاور للهويّة والتّرابط المجتمعيّ. جمع المعرض، بالتّعاون مع شراكاتٍ دوليّةٍ، تشكيلةً من أروع روائع الفنّ الإسلاميّ الّتي شهدتها المملكة على الإطلاق؛ حيث ضمّ قطعاً نادرةً من الحرمين الشّريفين في مكّة والمدينة مُستعارة من المتحف الوطنيّ بالرّياض، إضافةً إلى 84 عملاً فنّيّاً من متحف الفنّ الإسلاميّ بالقاهرة، و34 قطعةً فنّيّةً مختارةً بعنايةٍ من مجموعة "إثراء".
من خلال هذا المعرض، تعمّقنا في فهم المساجد كأكثر من مجرّد مواقع للعبادة؛ إنّها أماكن تنبض بالحياة، تعكس التّاريخ، وتحتضن القيم والمعتقدات الّتي تجمع بين أفراد المجتمع. وبينما تلفتنا الأنماط الزّخرفيّة والخطوط العربيّة الرّائعة، فإنّ روح المسجد تتجسّد في دوره كفضاءٍ اجتماعيٍّ يعزّز شعور الانتماء والتّواصل.
ما هي أبرز التّحدّيات الّتي تواجه حفظ الفنّ الإسلاميّ اليوم، وكيف تتعامل معها في عملك؟
من أكبر التّحدّيات الّتي أواجهها هو النّظرة السّائدة الّتي تجعل من الفنّ الإسلاميّ مجرّد تحفٍ مغلقةٍ في إطار الزّمن، محصورةٍ في المتاحف والمعارض. كثيراً ما تركز الدّراسات الأكاديمية على الجوانب الأسلوبيّة للأعمال الفنّيّة، متجاهلةً السّياقات الإنسانيّة والاجتماعيّة الّتي أنتجت فيها. في معارضي، أسعى إلى إحياء هذه القطع الفنّيّة من خلال استخدام الموادّ السّمعيّة والبصريّة والجولات التّفاعليّة، لنجعل الزّائر يشعر بروح الأماكن الّتي جاءت منها.
تحدٍّ آخر يتمثّل في الفهم الخاطئ بأنّ الفنّ الإسلاميّ ينتمي لعصرٍ بعيدٍ وانتهى. لكنّ الحقيقة أنّ هذا الفنّ ما زال حيّاً ينبض بروح الحرفيّين المهرة الّذين يواصلون إبداعهم حتّى اليوم. إهمال هؤلاء الحرفيّين هو إهمالٌ لتراثنا الحيّ. لذا، أرى أنّ دعمهم ليس مجرّد حفظٍ للتّراث، بل هو استمراريّةٌ لروح الإبداع الّتي تعكس هويّتنا الثّقافيّة.
كيف ترى مستقبل تطوّر الفنّ الإسلاميّ، سواءً من حيث البحث الأكاديميّ أو المشاركة العامّة، خاصّةً في إطار رؤية المملكة 2030؟
أعتقد أنّ مستقبل الفنّ الإسلاميّ سيكون مشرقاً من خلال دمج البحث الأكاديميّ العميق مع تجارب تفاعليّةٍ تقرّبه من الجمهور العامّ. هنا في "إثراء"، نعمل على تقديم الفنّ الإسلاميّ بطرقٍ جديدةٍ ومبتكرةٍ، عبر معارض وبرامج تعليميّةٍ تجمع بين الأصالة والحداثة. نهدف إلى تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين تكريم التّراث وتقديمه بروحٍ معاصرةٍ، بحيث يظلّ ذا صلةٍ بجيل اليوم.
إنّ رؤية المملكة 2030 تمثّل فرصةً ذهبيّةً لجعل الفنّ الإسلاميّ جزءاً من الحاضر والمستقبل. من خلال معارضنا، نسعى ليس فقط لعرض القطع الفنّيّة، بل لإعادة الحياة إلى القصص الّتي تحملها هذه القطع، ولجعلها تتحدّث إلى الزّوّار، خصوصاً الشّباب، بلغتهم واهتماماتهم. لقد اكتشفت من خلال تنظيم المعارض في المملكة أنّ الجمهور متعطّشٌ لفهم الأبعاد العميقة الّتي تربط هذه الأعمال بثقافتهم وتاريخهم.
السّياق هو جوهر كلّ ما نقدّمه؛ القطع الفنّيّة ليست مجرّد أشياء صامتةٍ، بل هي نوافذ تفتح لنا أبواب الماضي لنستلهم منها المستقبل. لذلك، أحرص دائماً على خلق تجربةٍ متكاملةٍ تتيح للزّوّار استكشاف الجمال والوظيفة والمعنى الّذي تحمله كلّ قطعةٍ فنّيّةٍ، ممّا يعمّق ارتباطهم بها ويجعلها جزءاً من ذاكرتهم الثّقافيّة.