كيف تحدث تغييراً حقيقيّاً دون الحاجة لساعات عملٍ مرهقة؟
التّغيير لا يحتاج لساعاتٍ طويلةٍ بقدر ما يحتاج لرؤيةٍ واضحةٍ واستمراريّةٍ تسمح للأجيال القادمة بمواصلة الرّحلة
في الوقت الحاليّ، تَفرض الكثير من الأفكار النمطيّة حول العمل تصوراً بأنّ النّجاح يتطلب قضاء ساعاتٍ طويلةٍ في المكتب أو بيئة العمل. يُقال لنا إنّ العمل الجادّ هو السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف، ولكن هل حقاً هذا صحيحٌ؟ هل من الممّكن تحقيق تغييّرٍ فعليٍّ في العالم بالعمل لأقل من 40 ساعةٍ أسبوعياً؟ هذا السؤال الذي طرحه الخبير أليكس بوداك، مؤلف كتاب "كيف تصبح صانع تغييّرٍ"، وطرحه على رواد الأعمال وصنّاع التغييّر الذين يتصّدرون مشهد الابتكّار والتقدّم حاليّاً.
التغييّر لا يتطلب ساعاتٍ طويلةٍ
كانت ردود الأفعال التي تلقّاها بوداك متنوعةً، ولكن كان هناك إجماعٌ ملحوظٌ على أنّ النّجاح والتغييّر لا يتطلّب بالضّرورة عدداً كبيراً من الساعات. وفي استبيانٍ غير رسميٍّ أجراه بوداك، أظهرت النتائج أنّ 81% من المشاركين يعتقدون أنّه يمكن بالفعّل إحداث تغييّرٍ ملموسٍ دون الحاجة للعمل لساعاتٍ طويلةٍ. ومن بين الرّدود التي برزت، كان رائد الأعمال الاجتماعيّ السويديّ، أدمير لوكاسيفيتش، الذي أجاب بثّقةٍ قائلاً: "أعطني ثانيّةً واحدةً فقط– ستكون كافيّةً!" رغم أنّ إجابته كانت نابعةً من ثّقةٍ وخبرةٍ كبيرةٍ، إلّا أنّ معظمنا يتّفق على أنّنا بحاجةٍ إلى المزيد من الوقت لتحقيق إنجازاتٍ حقيقيّة في العمل. لكن السّؤال الأهمّ هو: كم من الوقت نحتاج بالضّبط؟
ومع ذلك، يرى 19% من المشاركين أنّ قيّادة شركةٍ أو حركة تغييّر في العالم تحتاج لأكثر من 40 ساعةٍ أسبوعياً لتحقيق نتائج ملحوظةٍ، مشيرين إلى أنّ الأمثلة التي تثبت العكس قليلةٌ. ولكن، حتّى هؤلاء يعترفون أنّ نموذج "القائد الوحيد" الذي يعمل بلا توقفٍ ليغير العالم قد لا يكون واقعيّاً في العصر الحاليّ.
نصيحةٌ من رائد التغيير سيد إسبينوزا
عندما كان بوداك يعمل على تأليّف كتابه "كيف تصبح صانع تغيير"، تحدّث إلى السيد إسبينوزا، أوّل عمدةٍ لاتينيٍّ لمدينة بالو ألتو في كاليفورنيا، حيث قدّم إسبينوزا نصيحةً غيّرت وجهة نظر بوداك عن العمل والإنّجاز.
فبدلاً من التّفكير في أنفسنا كعدّائين في سباقٍ ماراثونيٍّ يتطلّب منّا الرّكض المستمرّ دون توقّفٍ، قال إسبينوزا إنّه يجب أن نعتّبر أنفسنا عدّائين في سباق تتابعٍ. بمعنى آخر، مهمّا كانت الفترة الزمنيّة المتبقيّة لنا في حياتنا المهنيّة، سواءً كانت 10 أو 20 أو 30 عاماً، قد لا نتمكّن من رؤية جميع التّغييّرات التّي نطمح إليّها تتحقّق خلال حياتنا. دورنا هو المساهمة بقدر الإمكان في تقدّم الأمور وتسليم الرّاية للجيل القّادم.
كما أوضح إسبينوزا أنّ فكرة "سباق التّتابع" تعني أنّنا نبدأ من حيث انتهى الآخرون، سواءً كانوا يعملون قبلنا بسنواتٍ أو حتّى أيامٍ، ونبذل قصارى جهدنا لدفع الأمور إلى الأمام. وعندما يحين وقتنا لتسليم المهمّة إلى من سيأتون بعدنا، يجب أن نكون قدوةً لهم، ونساعدهم بالتوجيّه والنّصائح حتى يتمكّنوا من الاستمرّار في إحداث التغييّر.
ينطبق هذا المفهوم على مختلف المجالات، سواءً في ريادة الأعمال، أو في الأعمال الاجتماعيّة. نعم، قد تكون لدينا أهدافٌ قصيرة الأجل، مثل زيادة الإيرادات أو تحقيق إنجازاتٍ معّينةٍ، ولكن يجب ألّا ننسى أنّ التغييّر الحقيقيّ يحتاج إلى وقتٍ وصبرٍ. فعلينا أن نعمل على الأهداف القريبة، بينما نخطّط للمستقبل، ونفكّر في كيفيّة دعم الآخرين ليتابعوا المسيرة بعدنا.
إذاً، السّؤال الحقيقيّ ليس عن عدد السّاعات التي نعملها كلّ أسبوعٍ، بل عن مدى التزامنا المستمرّ على مدى سنواتٍ طويلةٍ. هل نحن مستعدّون للاستمرار في العمل على تحقيق التّغيير شهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنةٍ؟ وما هو دورنا في تمكين الآخرين من استلام المهمّة بعدنا؟
وفي هذا السيّاق، ذكر الكاتب ماثيو كيلي جملةً رائعةً في كتابه "الرؤية البعيدة": "معظّم النّاس يبالغون في تقدير ما يمكنهم تحقيقه في يومٍ واحدٍ، ويقلّلون من شأن ما يمكّنهم تحقيقه في شهرٍ. ونحن كبشرٍ نبالغ في تقدير ما يمكننا فعله في سنةٍ، ونقلّل من قيّمة ما يمكن إنجازه في عقدٍ".
عندما نبدأ في التّفكير من منظورٍ طويل الأمد، يصبح من غير المهمّ ما إذا كنّا نعمل 35 أو 45 ساعةٍ أسبوعيّاً. ما يهمّ هو الاستمراريّة والتزامنا بإحداث التّغييّر على مدى الشّهور والسّنوات، وكيف نتمكّن من إحضار الآخرين معنا في هذه الرّحلة. وفي النّهاية، النّجاح ليس سباقاً فرديّاً، بل هو سباق تتابعٍ تشاركيٍّ يتطلّب منّا التّفكيّر في الأجيال القادمة بقدر ما نفكّر في أنفسنا اليوم.