اختبار المشاعر: معيارٌ جديدٌ يهدّد الكفاءات!
الانطباعات كفقاعات الصّابون، لامعةً للحظة، لكنّها تنفجر سريعاً، تاركةً المهارات الحقيقيّة في الظّلّ
عندما ننظر إلى حال التّوظيف في أيّامنا هذه، يبدو أنّ الجميع قد صاروا في معترك الخاسرين، سواءً أكانوا من الباحثين عن العمل أم من أرباب الشّركات الباحثة عن موظّفين. وقد كتبت كثيراً عن تلك المشكلات الّتي باتت تتفاقم عاماً بعد عامٍ لتجعل العثور على وظيفةٍ ضرباً من المستحيل بالنّسبة للعامل العاديّ. وعلى الجانب الآخر، فإنّ عمليّة التّوظيف لم تكن قطّ أشدّ تعقيداً ممّا هي عليه الآن بالنّسبة للشّركات الّتي تجد نفسها عاجزةً عن ملء شواغرها.
وكنت أظنّ، أو هكذا خيّل لي، أنّني قد وقفت على أغلب الثّغرات في هذا النّظام المربك، إن لم يكن كلّها. ولكن سرعان ما تبدّدت أوهامي حين جاءني تعليقٌ على أحد مقالاتي الأخيرة يقول فيه صاحبه: "إذا أردت أن تفهم مكمن الخلل في عمليّة التّوظيف، فاتّصل بي". وكيف لي أن أرفض دعوةً كهذه؟ فقد توقّعت أن أخرج منها بكنزٍ من المادّة الخام الّتي تصلح لمقالٍ جديدٍ، أو أن أجد نفسي أستمع إلى نظريّات مؤامرةٍ سخيفةٍ لمدّة خمسٍ وعشرين دقيقةً، وربّما إلى بيانٍ مفعمٍ بالخرافات. ولكن، ويا للدّهشة! لم يكن الأمر على هذا النّحو. لم يكن هناك حديثٌ عن جمعيّاتٍ سرّيّةٍ، ولا عن قبّعاتٍ مصنوعةٍ من ورق الألومنيوم. بل كانت محادثةً عاديّةً، عذبةً، خاليةً من الغرابة أو المبالغات. غير أنّ تلك المحادثة البسيطة كشفت لي عن جانبٍ غفلت عنه تماماً. وكان هذا الكشف بمثابة نقدٍ قاسٍ للنّظام الّذي بات يحكم عمليّة التّوظيف الحديثة، ويعرقلها أكثر ممّا يصلحها.
كان محدّثي هذا صديقاً لصديقٍ، رجلاً مضى عليه ما يقارب العام وهو يبحث بلا جدوى عن وظيفةٍ في قطاع التّقنيّة. قرأ بعض مقالاتي الّتي تناولت صعوبة التّوظيف واستحالة العثور على فرصة عملٍ في عام 2024. ولمّا علم أنّ بيننا وسيطاً مشتركاً، حرص على أن يصل إليّ ليخبرني قصّته.
ولا أزعم أنّني أعرفه عن قربٍ، ولكن من خلال حديثنا بدا لي أنّه شخصٌ ذو كفاءةٍ ومصداقيّةٍ. فهو يملك خبرةً تتجاوز 15 سنةً في مجال التّقنيّة، عمل خلالها أساساً في تطوير البرمجيّات، مع خبرةٍ لا بأس بها في القيادة وإدارة الفرق. بدأ مشواره المهنيّ في شركةٍ كبرى تعرفها الأوساط التّقنيّة جيّداً، ثمّ انتقل إلى شركتين صغيرتين متخصّصتين في أحدث تقنيّات العصر. ولكن كحال الكثير من الشّركات الصّغيرة، لم يكن مسار الأمور مستقيماً. فقد انهارت الشّركة الأولى مع بداية جائحة كوفيد-19، واضطرّ إلى ترك الشّركة الثّانية عندما لجأت إلى خيار التّوظيف الخارجيّ في مطلع هذا العام.
رجلٌ لطيفٌ، هادئ الطّباع، ولكنّه مثل كثيرٍ من المبرمجين، يحمل في حديثه ثقةً لا تخلو من روح الدّعابة إذا أبحرت معه في حديثه. ومع ذلك، بدا عليه أثر الإرهاق الّذي أصابه من طول البحث عن عملٍ. كانت في نبرة صوته وملامحه علامات إحباطٍ، كأنّما الحزن بدأ يكسو أيّامه بحدّةٍ لا مفرّ منها.
وأنا، والله، أفهم ذلك كلّ الفهم. فإن كان شخصٌ بهذه الخبرة والكفاءة لم يتمكّن من العثور على عملٍ، فمن عساه يفلح؟ السّوق قاسٍ إلى حدٍّ يجعل من الصّعب أن نلقي اللّوم على أيّ طرفٍ، حتّى على نفسه.
ولكن ما جعلني أتوقّف وأمعّن التّفكير كان قوله: "لم تعد الخبرة تعني شيئاً. كلّ شيءٍ الآن يعتمد على المشاعر". كاد هذا القول أن يمرّ عليّ مرور الكرام. ولكنّني، ولأنّني كنت مدفوعاً بحكم الصّداقة المشتركة، ولأنّني كنت عازماً على الرّدّ على تعليقه، وجدتني أبحث سريعاً عن مفهوم "المشاعر" في سياق التّوظيف. ويا للعجب، ما وجدت كان أغرب ممّا توقّعت بكثيرٍ! وما كان أغرب في ما وجدت، هو أنّ "فحص المشاعر" قد أصبح خطوةً أوّليّةً في كثيرٍ من عمليّات التّوظيف، بدلاً من أن يكون أحد المراحل النّهائيّة.
أخبرني صديق الصّديق، أنّه في كلّ مرّةٍ تجاوز فيها فحص السّيرة الذّاتيّة بالذّكاء الاصطناعيّ، كان أوّل لقاءٍ مع الشّركة ليس مقابلةً تقنيّةً، ولا حتّى مقابلةً تقليديّةً. بل كان مجرّد "فحص مشاعر". وفي إحدى المرّات، قيل له صراحةً من قبل موظّف موارد بشريّةٍ شابٍّ: "لا تقلق، هذه ليست مقابلةً تحت الضّغط. إنّها مجرّد فحص مشاعر". ولم يكن قد سمع بهذا المصطلح من قبل، ولكن، بعد فترةٍ قصيرةٍ، تكرّر الأمر في مقابلةٍ تمهيديّةٍ أخرى. أثار ذلك دهشته، فلجأ إلى مجموعةٍ من أصدقائه الّذين يشاركونه رحلة البحث عن عملٍ. قاسمهم تجربته، وسألهم عن هذا المصطلح الغريب، فوجد أنّ بعضهم قد مرّ بتجربةٍ مماثلةٍ.
لم يكن الأمر عامّاً، ولكنّ عدداً ممّن شاركوا في الحوار أكّدوا أنّ "فحص المشاعر" كان المرحلة الأولى في تواصلهم مع الشّركة. لم يكن المصطلح نفسه يستخدم دائماً، ففي بعض الحالات أطلق عليه "اختبار التّوافق"، وفي حالاتٍ أخرى سمّي "تحليل الشّخصيّة"، أو حتّى "لقاء تعارفٍ بسيطٍ".
كان من المدهش بالنّسبة لي أنّني لا أعارض هذا النّوع من الفحوصات في حدّ ذاته. بل أرى أنّه قد يكون مفيداً، إذا ما استخدم في التّوقيت المناسب. ولكنّني أعتقد أنّه يجب أن يأتي في نهاية عمليّة التّوظيف، لا في بدايتها.
تواصلت مع إحدى الخبيرات في مجال الموارد البشريّة، وهي ممّن أكنّ لهنّ احتراماً كبيراً، وطرحت عليها هذا الموضوع الغريب. كان ردّها مزيجاً من تنهيدةٍ عميقةٍ وضحكةٍ ساخرةٍ. قالت لي: "يبدو أنّهم بحاجةٍ إلى إيجاد شيءٍ يشغلون به هؤلاء الموظّفين الجدد، خاصّةً الآن بعد أن أصبح الذّكاء الاصطناعيّ يتولّى كلّ المهامّ التّقنيّة". ثمّ أضافت بلهجةٍ أكثر جدّيّةً: "تكمن المشكلة عندما يقرر هؤلاء أنّهم الحكّام الوحيدون لثقافة الشّركة. قد لا تكون الإدارة العليا على درايةٍ بما يحدث، ولكنّه يحدث. ينتج هؤلاء الموظّفون قائمةً سرّيّةً للمرشّحين الّذين استبعدوا بناءً على ’مشاعرهم‘، ثمّ يتركون للإدارة اختيار من تبقّى".
وعندما سألتها عن رأيها الحقيقيّ في هذا الأسلوب، أجابت: "فحص المشاعر ليس سيّئاً في حدّ ذاته. ولكنّه يجب أن يكون أداةً مكمّلةً، تستخدم فقط لاستبعاد المرشّحين الّذين لا يمكنهم بأيّ حالٍ من الأحوال التّكيّف مع ثقافة الشّركة. وينبغي أن يتمّ هذا الفحص من قبل شخصٍ له دورٌ حقيقيٌّ في تشكيل هذه الثّقافة. والأهمّ من ذلك، أن يأتي هذا الفحص في نهاية العمليّة، لا كبوّابةٍ أولى تحجب الكفاءات". ثمّ أضافت بنبرةٍ متردّدةٍ: "لا أستطيع أن أقول إنّني أحبّ هذا النّظام الجديد".
حين يتحوّل التّوظيف إلى لعبة تمريرٍ
عدت للتّحدّث مع صديق الصّديق، وسألته عمّا يظنّ أنّه قد حدث خطأً في مقابلته الأخيرة. أجابني بنبرةٍ تحمل مزيجاً من الحيرة والنّدم: "أعتقد أنّني استخدمت كلمة ’أنا‘ أكثر ممّا ينبغي. كانت مقابلةً قصيرةً جدّاً، مع شخصٍ غير تقنيٍّ، فحاولت أن أشرح كلّ شيءٍ بسرعةٍ، وأعتقد أنّ ذلك بدا وكأنّني أتباهى".
ذكّرني حديثه بقصّةٍ أخرى سمعتها قبل أسابيع قليلةٍ، حين أخبرني صديقٌ آخر أنّه حمل معه حلولاً حقيقيّةً إلى مقابلة عملٍ، ولكنّه شعر أنّ اهتمام اللّجنة كان منصبّاً على المصطلحات الرّنّانة أكثر من كفاءته العمليّة.
وهكذا، يبدو أنّ عالم التّوظيف اليوم قد صار محكوماً بقوائم من الكلمات الطّنّانة والانطباعات العابرة. وربّما لم تكن المشكلة في "المشاعر السّلبيّة"، بقدر ما كانت في عدم التّركيز الكافي على "المشاعر الإيجابيّة".
أصبح الآن على الباحثين عن عملٍ مهمّةٌ إضافيّةٌ: ليس فقط إثبات كفاءتهم، بل أيضاً اجتياز اختبار المشاعر. ويا له من عبءٍ جديدٍ!
فحص التّوافق ضرورة، أمّا فحص المشاعر فأزمة
إنّ ما يجري اليوم في عالم التّوظيف يكشف عن مشكلةٍ أعمق من مجرّد إدخال خريجٍ جديدٍ إلى متاهة السّير الذّاتيّة والمقابلات التّمهيديّة. فثقافة الشّركة أمرٌ حقيقيٌّ، والحفاظ عليها ضرورةٌ لا شكّ فيها. ولكنّ المشكلة ليست في وجود هذه الثّقافة أو في السّعي للحفاظ عليها، بل تكمن في الفجوة المتّسعة بين القيم الثّقافيّة للشّركة وأهدافها العمليّة.
في أيّامٍ مضت، كان أوّل فحصٍ لأيّ مرشّحٍ تقنيٍّ يتمّ مباشرةً مع رئيس القسم التّقنيّ أو مدير المشروع. كان ذلك زمناً بسيطاً، زمناً تدار فيه الأمور بوضوحٍ دون تعقيدٍ. ولكنّني أدرك أنّ الظّروف قد تغيّرت، وأنّ هذا النّهج لم يعد عمليّاً في أيّامنا هذه. ومع ذلك، لا أجد وصفةً جاهزةً تعيد الأمور إلى نصابها.
ولكنّ ما أعرفه يقيناً هو أنّه كلّما أبعدنا العاملين في مجال التّقنيّة عن النّتائج النّهائيّة وعن أهداف الشّركة الكبرى، سواءً من خلال جداول عملٍ تفقد المرونة معناها، أو عبر نظم توظيفٍ تضع العقبات بدلاً من الحلول، اتّسعت الفجوة بين الغايات الّتي تسعى الشّركة لتحقيقها وبين المنتج الّذي يفترض أن يكون وسيلتها إلى ذلك.
حين نعتمد على "المشاعر" في اختيار الموظّفين، نضطرّ إلى الاعتماد عليها أيضاً في تقييم أدائهم، بل وفي تسويق إنتاجهم للعملاء. وبهذا، تتحوّل المشاعر من أداةٍ ثانويّةٍ إلى معيارٍ أساسيٍّ يقود القرارات، فيضعف البناء بأكمله.
على القادة في عالم الأعمال أن يتّخذوا قراراتهم بوعيٍ وحكمةٍ. وإن كنت ترى في حديثي هذا ما يستحقّ النّقاش، فلا تتردّد في مشاركتي أفكارك واقتراحاتك. في نهاية المطاف، ليست المشكلة في كون المشاعر جزءاً من عمليّة التّوظيف، ولكنّ المشكلة تكمن في جعلها المحرّك الرّئيسيّ للقرارات. هذا النّهج يعرّض الشّركة لمخاطرٍ كثيرةٍ، لأنّه يحرمها من المرشّحين ذوي الكفاءة الّذين يمكنهم تحقيق الفرق. ففي زمنٍ كانت الجدارة فيه تتصدّر قائمة الأولويّات، كان النّظام يعمل بشكلٍ يمكن فيه للجميع أن يثبتوا مهاراتهم وكفاءتهم. أمّا اليوم، فقد أصبحت المشاعر بوّابةً تغلق في وجه المرشّحين، لا أداةً لضمان التّوافق. وهذا التّحوّل يفترض أنّ "المشاعر" هي الحلّ السّحريّ لكلّ شيءٍ، بينما الحقيقة أنّ المشاعر تركّز على الانطباعات الأوّليّة، في حين تكمن القيمة الحقيقيّة في القدرة على الإبداع، والمرونة، وحلّ المشكلات. لذا، على قادة الأعمال الّذين يسعون إلى تطوير شركاتهم أن يراجعوا مفاهيمهم، وأن يضعوا الجدارة في مقدمة معايير التّوظيف. أمّا المشاعر، فلتكن وسيلةً مساعدةً، لا أداةً حاسمةً تحرم الشّركة من الكفاءات وتقيّد نموّها.
شاهد أيضاً: 5 أسباب تحول بينك وبين توظيف أصحاب الكفاءات