كيف يمكن للعقلية الصحيحة أن تحدث الفرق في نجاح الأعمال؟
دروس في المرونة وإعادة تعريف الفشل لرواد الأعمال، مما يضمن صمود المشاريع في وجه تحديات السوق المتغيرة باستمرار
وفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأمريكيّ، تُظهر الإحصائيَّات أنَّ حواليّ 20% من الشركات الناشئة تخفقِ في السَّنتين الأوليّين من تأسيسها، بينما ترتفعُ هذه النّسبة إلى 45% خلال الخمس سنواتٍ الأولى، وتصل إلى 65% في العقد الأول، وعلى الجانب الآخر فإنَّ فقط ربع هذه الأعمال يمكنها الصُّمود لمدَّة خمس عشرة سنةٍ أو أكثر -على الرَّغم من بعض التَّذبذب الطَّفيف- وبقيت هذه النّسب ثابتةٌ نسبيَّاً منذ التَّسعينيَّات. [1]
يمكن تفسير هذه الظَّاهرة من خلال زوايا متعدّدةٍ -سواء كان ذلك بسبب قسوة البيئة الاقتصاديَّة، أو نقصٍ في التَّعليم الرّياديّ الفعّال، أو غياب العقليَّة الرّياديَّة السَّليمة، وفي هذا المقال، أودُّ أن أسلّطَ الضَّوء بشكلٍ خاصٍّ على الجانبِ الأخير، مستكشفاً كيف يمكن لتبنّي العقلية المناسبة أن يسهمَ في بناءِ ونموِّ أعمالٍ تجاريَّةٍ مستدامةٍ؛ ولهذا الغرض أَجريتُ حواراً مع نيك-أنتوني زاموسين، رائد الأعمال المخضرم والرَّئيس التَّنفيذي لشركة Best Option Restoration، لاستقاء آرائه ونصائحه.
زاموسين، بخبرته التي تمتدُّ لسنواتٍ في ميدان الرّيادة، يؤكِّد على أهميَّة تنميةِ عقليَّةٍ تتسمُ بالمرونة والتَّصميم والقدرة على التَّعلُّم المستمرّ، ويقول زاموسين: "الفشل جزءٌ لا يتجزَّأ من رحلة النَّجاح، والفارقُ الحقيقيُّ يكمن في كيفيَّة استجابتنا لهذه الإخفاقات وما نتعلَّمه منها".
في النّهاية، لا تقتصر القوَّة العقليَّة على مجرَّد التَّأثير في مدى قدرتنا على تجاوز العقبات، بل تمتدُّ لتشكيل كيفيَّة رؤيتنا للفرص وتحدّيات السُّوق، ويمكن أن يساعد تبنِّي عقليَّةٍ إيجابيَّةٍ ومرنةٍ روَّاد الأعمال على التَّركيز على الحلول بدلاً من العوائق، وبناء أعمالٍ تجاريَّةٍ تزدهرُ حتَّى في أكثر الأوقات تحدِّياً.
ويتطلَّب التَّحوُّل من تركيز النَّظر على الصُّعوبات إلى استغلال الفرص مزيجاً من الصَّبر، والاستبصار، والإصرار، ويختتم زاموسين حديثه قائلاً: "النَّجاح في الأعمال يبدأ بالنَّجاح في تنميَّة عقليَّتك، هذا هو الأساس الذي تُبنَى عليه كلُّ الإنجازات العظيمة".
شاهد أيضاً: في يوم الخيال العلمي.. ما هي فرص ريادة الأعمال خارج الأرض؟
بناء المنظور الصحيح
تبدو المرحلة التي يكون فيها بدء العمل التِّجاري مجرَّد فكرةٍ مليئةٍ بالحماس، وبوصفنا روَّاد أعمالٍ، فإنَّنا غالباً ما نكون مفتونين برؤية ما نرغب في بنائه وكيف نريد بناءه، ومع ذلك نادراً ما نتوقَّف للنَّظر في حقائق الأمور على أرض الواقع والعقبات المحتملة؛ لأنَّ ذلك بصراحةٍ لا يبدو مثيراً، ولكن وفقاً لزاموسين، هنا يكمن الخطأ الذي يقع فيه الكثير منَّا:
يقول زموسين: "إذا تحدَّثت إلى أحدِ روَّاد الأعمالِ الطَّموحين، ممن لديهم أفكارٌ لمشروعاتٍ، فإنَّه غالباً ما يكون لديهم أحلامٌ كبيرةٌ وجداولُ زمنيَّةٌ قصيرةٌ"، ويتابع: "غالباً ما يكون تحليلهم لفرصهم في السُّوق مَشُوباً بالقُصور، وتسمع عباراتٍ من قبيل 'لو أنَّني استحوذت على نسبة 25% من السُّوق، سأعدُّ نفسي في نعمة'، ولكنَّهم يرغبون في تحقيق ذلك خلال سنتين دون أن يمتلكوا أدنى فكرةٍ عن صعوبة الحصول حتَّى على 1% من السُّوق، ومن الجوهريِّ أن تُجري بحثك بعنايةٍ، وتُقدِّر المنافسين حقَّ قدرهم، وتخطِّط للمدى البعيدِ، لا أن تَحصر تفكيرك في الأشهر القليلة القادمة، في عالم الأعمال، الأمور لا تتحقُّق بالسُّرعة التي ترجوها، وأجد أناساً يضعون توقُّعات لثلاثة أشهرٍ مقبلةٍ، وهم بالفعل يتوقَّعون الأرباح، يا له من هراءٍ، لو كان الأمر بهذه البساطة، لأقدم عليه الجميع".
من السَّهل جداً وضع التَّوقُّعات قبل أن تبدأ، ولكن في دنيا الأعمال، تظلُّ أكثر التَّحدِّيات جسامةً خفيَّةً عن البال، ولا سيَّما للمبتدئين، وتشييد دعائم العقليَّة القويَّة التي لا تزعزعها التَّحدّيات أمرٌ حاسمٌ لروِّاد الأعمالِ، فالصّعاب لا محالة آتيةٌ، ويذهب روَّاد الأعمال ذوو الخبرة إلى القول بأنَّ السُّقوط في فخِّ الفشل للكثيرين يرجع، في جانب منه إلى الدَّهشة والصَّدمة التي تنتابهم عند اصطدامهم بالعقباتِ الشَّاقَّةٍ أثناء سعيهم لتحقيق مُبتغاهم.
شاهد أيضاً: اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه قد يكون سرّ قوة رواد الأعمال الناجحين
إعادة تصوُّر الانطلاق بميزانية محدودة
يقول زموسين في اعترافٍ له: "تُثير حفيظتي عبارةُ 'بدءُ عملٍ تجاريٍّ بميزانيَّةٍ محدودةٍ'، فغالباً ما تَسيرُ الأمورُ نحو الأسوأ، إذ تطرأُ نفقاتٌ غير متوقَّعةٍ في كلِّ مشروعٍ"، ولا غنىً عن رأس المال لتأسيس الأعمالِ وضمان استمرارها، ويبدو أنَّ العديد من روَّاد الأعمال قد استخفُّوا بهذا المطلب الجوهريِّ في سعيهم لـ "البدء بموارد محدودةٍ".
ويتساءل زموسين: "ما المعنى الذي تحمله 'ميزانيَّةٌ محدودةٌ' بالنِّسبة إليك؟ قد لا تكفي الميزانيَّة لتأمين مكتبٍ فخمٍ أو تغطية بعض المصاريف الفارهة، ولكن يجب عليك فعليَّاً امتلاكُ رأس المال الكافي لتمويلِ جوانبَ عملكَ الحيويَّة كالاستحواذات، وأجور الموظَّفين، والتَّسويق، والمبيعات، وغيرها، فالانطلاقُ بميزانيَّةٍ محدودةٍ لا يعني بالضَّرورة الإيمان الأعمى بأنَّ كلَّ شيءٍ سيجري كما هو مخطَّطٌ له".
ما يُشيرُ إليه البدء بـ "ميزانيَّةٍ محدودةٍ" هو تأسيسُ مشروعٍ بالقدر الكافي من رأس المال لإدارة عمليَّاته الأساسيَّة، مع التَّضحية ببعض الجوانب الأقلِّ أهميَّةً (وأحياناً حتَّى الضَّروريَّة) حتَّى يصل العمل إلى مرحلة الرِّبحيَّةِ المقبولةِ، وهذا يعني أنَّ الشَّركات يجب أن تضمن توفُّر التَّمويل الكافي، ولتحقيق ذلك يجب عليهم أن يمتلكوا صورةً واضحةً عمَّا سيكون مطلوباً للإدارة اليوميَّة لأعمالهم، فالنَّظر إلى الأمور برؤيةٍ حالمةٍ في عالم الأعمال محفوفٌ بالمخاطر، وغالباً ما يكون طريقاً مباشراً نحو الإخفاق.
شاهد أيضاً: 8 خطوات فعالة لنقل الخطط الاستراتيجية إلى حيز التنفيذ العملي
من لفائف الورق إلى التكنولوجيا: دروس في المرونة وإعادة تعريف الفشل
أحياناً، تَخذلنا خططُنا وتَخيب توقُّعاتُنا، ما يضطرنا إلى الانعطاف بشكلٍ حادٍّ نحو مساراتٍ غير متوقَّعةٍ، ومن المثير للاهتمام أنَّ نوكيا، التي نعرفها اليوم كعملاقٍ في صناعةِ الهواتف، كانت في بداياتها تصنع لفائف ورق الحمام، وكذلك كانت أولى خطواتُ سامسونج في عالمِ الأعمالِ عبر بوابةِ متجرِ بقالةٍ، وبقَدرِ ما قد يبدو هذا الأمرُ غريباً، هناك خيطٌ مشتركٌ بين هاتين الشَّركتين، غير صناعة الهواتف الذَّكيَّة، ألا وهو أنَّ كلاهما ما يزالُ قائماً ومزدهراً حتَّى اليوم!
قد تقود التَّحدّيات إلى الفشل فقط إذا عدَّها روَّاد الأعمال النِّهاية، إذ يتمثَّل جزء لا يتجزَّأ من بناء عقليَّةٍ متينةٍ في إعادة تعريف معنى الفشل بالنِّسبة لنا، من المثير للانتباه أنَّ الكثير من الـ 25% من الشَّركات التي يتخطَّى وجودها عتبة الـ 15 سنةً في الولايات المتَّحدة لم تَعُد تظهرُ بنفس شكلها الأصليِّ أو لم تَعُد تُقدِّمُ نفس الخدماتِ أو المنتجاتِ التي بدأت بها، وهذه الحقيقة تبرهن على أنَّ المرونة هي إحدى أهمّ الأدوات في مجموعة مهارات رائد الأعمال.
إنَّ التَّكيُّف مع التَّغيرات والقدرة على النُّهوض بعد كلّ سقوطٍ هي ليست فقط مهاراتٌ قيِّمةٌ، ولكنَّها ضروريَّةٌ للبقاء والازدهار في عالم الأعمال المتقلِّب، وإعادةُ تعريفِ الفشل لا تعني تجاهلَ الأخطاء، بل تعلُّم الدُّروس منها واستخدام هذه المعرفة لتوجيه الخطوات التَّالية بذكاءٍ ومرونةٍ، وفي النِّهاية، قد تكون القدرة على التَّغيير والتَّكيُّف هي الفارق بين الشَّركات التي تزدهر وتلك التي تتلاشى.
كما يُردِّد كثيراً في الأوساط الإبداعيَّة، قد يلزمك أحياناً أن "تضحّي بفكرتك الأولى"، هذا ما أوضحه زموسين، وتلك "الفكرةُ الأولى" قد تكون اللَّمحةَ البكر لمشروعك، والمدينة التي حلمتَ بإطلاق مشروعكَ فيها، أو أيٌّ من الأفكارِ الأساسيَّة التي كانت جوهر رؤيتك للعملِ، قد يستوجب الصُّمود في عالم الأعمال في بعض الأحيان التفريط بواحدةٍ أو أكثر من هذه الرُّؤى، في حين أنَّ العناد في التَّشبُّث بها دون استعدادٍ للتَّعديل قد يجرُّ بعضهم إلى الغرق برفقة سفينتهم.
والحقيقة هي أنَّ أنجح روَّاد الأعمال واجهوا الفشل في مرحلةٍ ما، لكنَّهم يدركون أنَّ كلَّ تحدٍّ يغلقُ باباً قد يفتح آخر، إذ تمكِّن المرونةُ رائدَ الأعمال من التَّحوُّل من فكرةٍ إلى أُخرى، ومن موقعٍ إلى آخر، أو من استراتيجيَّةٍ إلى أُخرى، حتَّى في أصعب الظُّروف، والهدف ليس الاستسلام، بل الاستمرار في تطوير وإعادة تعريف المشروع حتَّى يتمَّ الوصول إلى النسخة الناجحة منه.
وختاماً أقول إنَّ عقليَّةَ عدم الفشل لا تعني عدم الفشلِ أبداً، بل تعني عدم قبول الفشل كخاتمةٍ، وهذا يتضمَّن الاستعداد للتَّحديات، وتوقُّعها، والتَّجهيز لها بشكلٍ كافٍ قبل خوض غمار رحلة ريادة الأعمال.
لمزيدٍ من النصائح في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.