الأثر الاقتصادي لشهر رمضان: تباين بين الإنتاجية والاستهلاك
تحليلٌ شاملٌ يغطّي تأثير شهر الصيام على الإنتاجية، والاستهلاك، والتأثيرات الإيجابية والسلبية على مختلف القطاعات
استحوذ التأثير السلبي لشهر رمضان على الاقتصاد على اهتمام كثيرٍ من الباحثين ورجال الأعمال والحكومات، سواءً في المنطقة العربيَّة أو الشَّرق الأوسط أو حتَّى على مستوى العالم، فمع نقص عدد ساعات العمل المؤكَّد خلال الشَّهر الكريم في معظم الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة إن لم يكن كلُّها، فإنَّ الإنتاجيَّة بالطَّبع تتراجع، ولكن من ناحيةٍ أُخرى يزيد الإنفاق في هذا الشَّهر بمعدَّلاتٍ شديدة الوضوح والتي لا يمكن إنكارها أيضاً؛ ليُعدَّ معدَّل الإنفاق هو الأكبر على الإطلاق في المنطقة مقارنة ببقيَّة أشهر السَّنة، فكيف يؤثِّر الصِّيام سلباً على الاقتصاد، وهل يمكن إيجاد حلولٍ لهذا التَّأثير وهل هذا التأثير السلبي يمتدُّ لكافة القطاعات؟
تأثير رمضان على إنتاجية العمال
تعدُّ مسألة إنتاجيَّة العمال في شهر رمضان معقَّدةٌ بعض الشَّيء، فالدِّراسات الأجنبيَّة التي أجريت على هذا الشَّأن طوال سنواتٍ تستندُ إلى أنَّه إذا حرم ملايين المسلمين أنفسهم من الطَّعام والشَّراب خلال ساعاتِ النَّهار لمدَّة شهرٍ، مع تقليل عدد ساعات العمل المتَّبع في مختلف الدُّول الإسلاميَّة، فإنَّ هذا بالتَّأكيد يضرُّ الإنتاج، وتُشير هذه الدّراسات إلى تراجع الإنتاجيَّة بنسبة من 35-50% خلال هذا الشَّهر، مع تقليل نموِّ الإنتاج بنسبة 0.7% وتأثير ركودٍ بنسبة 3% كل عام.
لكن يرفض بعضهم هذا التَّوجُّه مؤكِّدين أنَّ الصِّيام ومدَّته لا يؤثِّران مطلقاً على الإنتاجيَّة، كما أنَّ الكثير من القطَّاعات تشهد ساعات عملٍ مضاعفةٍ مستشهدين بما حدث في قطر خلال تحضيرات كأس العالم 2022، حيث انخفضت ساعات العمل بنسبة 80%، وعلى الرَّغم من ذلك لم تتأثَّر الإنتاجيَّةُ الإجماليَّة، ففي استطلاعٍ أجرته شركة YouGov في الشَّرق الأوسط وشمال أفريقيا بيَّن أنَّ نصف المشاركين تبقى إنتاجيَّتهم في شهر رمضان هي نفسها بقيّة العام، بينما أكَّد 60% منهم أنَّ الإنفاق يرتفع خلال هذا الشَّهر.
لذا في حين قد نجد أن هناك قطَّاعاتٍ تتراجع إنتاجيَّتها بالفعل خلال الصِّيام، إلّا أنَّ التَّعويض يأتي سريعاً في قطَّاعاتٍ أُخرى تشهد ارتفاعاً كبيراً ويمكنها بشكلٍ واضحٍ تعويض هذا التَّراجع. [1]
زيادة الاستهلاك في رمضان وأهم أوجه الإنفاق
ترتفع فواتير الطَّعام في شهر رمضان بنسبة من 50-100%، وتشير تقاريرٌ إلى أن 15% من الإنفاق السَّنويّ على الغذاء في البلاد ذات الأغلبيَّة المسلمة يكون في هذا الشَّهر، وأنَّ 83% من الأسر تغيِّر عاداتها الغذائيَّة في رمضان.
ويأتي التمر على قمَّة زيادة هذا الاستهلاك، وهو أمرٌ طبيعيٌّ إلى حدٍّ كبيرٍ، نظراً لأهميَّة التَّمر في السُّنَّة النَّبويَّة، ولكن أيضاً يرتفع الإقبال على الخبز بنسبة 63%، والدَّجاج بنسبة 66%، والفواكه المجفَّفة بنسبة 25%، كما يتزايد استهلاك منتجات الألبان، وتكثر العروض عليها لأهميَّتها الشَّديدة في مقاومة العطش خلال ساعات الصِّيام.
ولكن ليس الطَّعام فقط هو ما يزيد استهلاكه، فأوضح أكثر من ثلث الأشخاص في دراسةٍ حديثةٍ أنَّهم يؤجِّلون قرارات الشِّراء الكبيرة لموسم شهر رمضان، كما ترتفع نسبة الإقبال على تناول الوجبات في الخارج سواءً المطاعم والمقاهي، فتظلّ تعمل طوال اليوم تقريباً لاستقبال الرَّاغبين في الإفطار أو السُّحور.
وهذا الإقبال الشَّديد على الاستهلاك يُمكن تفسيره بأنَّ رمضان موسمٌ احتفاليٌّ دينيٌّ يُشبه ما يحدث خلال أعياد الميلاد في الدُّول الغربيَّة، حيث يرتفع معدّل الاستهلاك أيضاً وتتزايد الحاجة للتَّواصل الاجتماعيِّ والتَّجمُّعات العائليَّة وتقديم الهدايا، ومع الدِّراسات التي أظهرت ارتفاع معدّل السَّعادة في هذا الشَّهر، فإنَّ هذا بالتَّأكيد ينعكس بالإيجاب على قرارات الشِّراء. [2]
شاهد أيضاً: 7 مخاطر اقتصادية تواجه الأعمال الصغيرة في عام 2024، فما هي؟
الإقبال على الشراء أونلاين وتأثير شهر رمضان على الأسواق المالية والاقتصاد العالمي
من الواضح أنَّ الأثرَ الاقتصاديّ لشهر رمضان يمتدُّ حتَّى على الأسواق العالميَّة، فترتفع المبيعات عبر الإنترنت بنسبة 106% خلال الأسبوع الثَّاني من شهر رمضان، ويرتفع حجز التَّذاكر وخطّط السَّفر بنسبة 51% قبل عيد الفطر في الشَّرق الأوسط، وهذا عموماً ينعكس على اقتصاد الكثير من الدُّول حتى ذات الأغلبيَّة غير المسلمة، ففي استطلاعٍ أجرته شركة أوجيلفي نور لاستشارات التسويق الإسلاميِّ عام 2018 بيّن أنَّ شهر رمضان أسهم بدخل 200 مليون جنيه استرليني في المملكة المتَّحدة.
كما ترتفع نسبة التَّداول في سوق الأوراق الماليَّة أيضاً في رمضان، وفقاً لتحليل نسبة التَّداول في 15 دولةٍ بين عامي 1989 و2007، ليبيّن ارتفاع عوائد الأسهم 9 أضعافٍ في رمضان مقارنةً بأشهر العام الأخرى، وقد استمرت النَّتائج الإيجابيَّة لشهر رمضان على سوق الأوراق الماليَّة في دراساتٍ تاليةٍ حتَّى عام 2016 عندما ظهرت بعض النَّتائج السَّلبيَّة أيضاً.
هدر الطعام في رمضان وزيادة النفايات
وهذا من الآثار السَّلبيَّة لشهر رمضان على الاقتصاد، وهو موجودٌ وواقعيٌّ في مجموعةٍ من الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة، فليس كل الزّيادة في الاستهلاك والشِّراء يستفيد منها السُّكَّان فعليَّاً، بل ترتفع نسبة الهدر بشكلٍ مبالغٍ فيه في الشَّهر الكريم بما يتعارض تماماً مع روحانيَّات الصِّيام، وتُشير التَّقديرات إلى إهدار أكثر من 20 ألف طنٍّ من الطَّعام يوميَّاً على مدار العام، وتزيد بنحو 40 طناً خلال أوَّل 10 أيَّامٍ من رمضان، كما يُذكر أنَّ 60% من الطَّعام في مصر يتعرَّض للهدر خلال هذا الشَّهر.
وهذا الاتِّجاه يؤثِّر سلباً على الاقتصاد من نواحٍ عدَّةٍ، فهو أوّلاً يحرم الكثير من الفئات الفقيرة من إيجاد الطَّعام الجيد، كما يزيد من أسعار السِّلع والخدمات والمواد الغذائيَّة دون سببٍ حقيقيٍّ، كما أنَّ هذا الاستهلاك الزَّائد يتحوّل إلى زيادة وزنٍ لكثير من الصَّائمين تتُرجم عادةً إلى أمراضٍ مزمنةٍ تقلِّل من الإنتاجيَّة؛ لذا وجب التَّدخُّل الحكوميّ لإدارة مخزون الغذاء، وتجنُّب هدر الطَّعام قدر الإمكان وزيادة التَّوعية بأساليب التَّغذيَّة الصِّحيَّة. [3]
الزكاة والتكافل الاجتماعي في رمضان وتأثيره في القضاء على الفقر
يُقدِّر البنك الدُّوليّ أنَّ أموال الزَّكاة على مستوى العالم تصل إلى 600 مليار دولارٍ كلَّ عامٍ، ويُجمع 85% منها خلال شهر رمضان بمفرده، ويوصف نظام الزَّكاة بأنَّه ديناميكيٌّ وسريعٌ في مردوده، ومن خلال تخصيص مليارات الدُّولارات سنويَّاً في إعانة الفقراء وإنشاء المشروعات الصَّغيرة لتوفير فرص العمل، فإنَّ هذا له مردودٌ سريعٌ على الاقتصاد في الدُّول الإسلاميَّة.
وتَكثُر التَّبرُّعات في شهر رمضان سواءً زكاة المال أو زكاة الفطر أو الصَّدقات، فمن المعروف أنَّه شهرٌ يُضاعف به الثَّواب؛ لذا إذا وضعت الحكومات أفكاراً متنوِّعةً للاستفادة من هذه الأموال كلَّ عامٍ، سيمكنها فعليَّاً حلُّ الكثير من المشكلات الاجتماعيَّة، وهو الأمر الذي ينعكس بالتَّأكيد إيجاباً على الاقتصاد.
شاهد أيضاً: أهم 5 تحديات يواجهها الرؤساء التنفيذيون أمام التقلّب الاقتصادي في 2024
هل يمكن تعزيز الأثر الاقتصادي الإيجابي لرمضان وتفادي التأثيرات السلبية؟
في حين قد تتراجع الإنتاجيَّة بمعدَّلاتٍ واضحةٍ في بعض القطَّاعات خلال شهر رمضان في البلاد ذات الأغلبيَّة المسلمة، إلَّا أنَّه عادةً ما يحدث تعافٍ سريعٌ من هذا الموسم، وتعود الأمور إلى سابق عهدها، كما أنَّ الزّيادة في الإقبال على قطَّاعات أُخرى وخصوصاً الطَّعام والضّيافة والتَّرفيه والسَّفر تجعل التَّأثير الكُليّ إيجابيَّاً بشكلٍ ما.
ولكن لا يمكن إنكار الأثر السَّلبيّ والذي يمكن السَّيطرة عليه أكثر بمحاولة زيادة الإنتاجيَّة قبل شهر رمضان في القطَّاعات التي تسمح بهذا لتجهيز كميَّةٍ أكبر من العمل، كما يمكن السَّماح بساعات عملٍ مرنةٍ، ممّا يزيد من إنتاجيَّة العمال والموظَّفين عموماً، وهذا ما أثبتته تجارب الكثير من الدُّول، مثل عمَّان والإمارات وغيرها، خصوصاً بعد جائحة كوفيد وتخصيص فتراتٍ ثابتةٍ للعمل عن بعد.
فقد بيّنت دراسةٌ من شركة DinarStandard الاستشاريَّة لأبحاث النُّموِّ أنَّ 77% من المسلمين يحاولون الحفاظ على نفس مستوى الإنتاجيَّة في شهر رمضان، ومع محاولة أصحاب العمل مساعدتهم في هذا التَّوجُّه سواءً بساعات عملٍ مرنةٍ أو عن بُعد أو تأجيل بعض المهام لما بعد الإفطار أو تجهيزها مبكِّراً قبل بدء الشَّهر الكريم، فإنَّ التَّأثير الاقتصاديَّ السَّلبيّ على بعض القطَّاعات بالتَّأكيد لن يكونَ له أثرٌ. [4]
لمزيدٍ من المعلومات المفيدة في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.