الاقتصاد التشاركي: كيف غيّرت المشاركة مفهوم الملكية للأبد؟
من مشاركة السّيارات إلى المنازل، الاقتصاد التّشاركي يعيد تعريف مفاهيم الملكيّة والاستهلاك، لكن هل هو الحلّ السّحري للأزمات أم مجرد موجة عابرة؟
في عصرٍ تحوّل فيه كلّ شيءٍ تقريباً إلى مشاركة، من السّيارات إلى المنازل، وحتى الأدوات المنزليّة، يبدو أنّ مفهوم "الملكيّة الفرديّة" بدأ يفقد بريقه أمام زحف الاقتصاد التّشاركيّ، فبدلاً من شراء سيارةٍ لا نستخدمها إلا بضع ساعاتٍ في الأسبوع، أو امتلاك شقةٍ تبقى فارغةً نصف العام، يتيح لنا الاقتصاد التّشاركيّ استغلال الموارد بشكلٍ أكثر ذكاءً وفاعليّةً، إنّه أشبه بمائدة بوفيهٍ مفتوحةٍ، حيث يختار كلّ شخصٍ ما يحتاجه، ويدفع فقط مقابل ما يستخدمه، تاركاً فكرة تكديس الممتلكات خلفه.
ولكن، هل الاقتصاد التّشاركيّ هو حقاً الحلّ السّحريّ لأزماتنا الماليّة والبيئيّة؟ أم أنّه مجرد "موضةٍ" جديدةٍ تدفعنا لإعادة التّفكير في عاداتنا الاستهلاكيّة؟
ما هو الاقتصاد التّشاركيّ؟
يعرف الاقتصاد التّشاركيّ بأنّه نموذجٌ اقتصاديٌّ يعتمد على المعاملات المباشرة بين الأفراد (P2P)، حيث يسهّل الوصول إلى السّلع والخدمات وتبادلها أو توفيرها، ورغم أنّ مفهوم الاقتصاد التّشاركيّ ليس جديداً، فقد شهد هذا النّموذج انتعاشاً ملحوظاً في العصر الحديث بفضل منصات الإنترنت المجتمعيّة التّي تجمع بين مقدمي الخدمات والمستفيدين منها.
يمكن تلخيص مفهوم الاقتصاد التّشاركيّ بالنّقاط التّاليّة [1]:
- يقوم الاقتصاد التّشاركيّ على معاملاتٍ قصيرة المدى بين الأفراد، حيث يتمّ تبادل الأصول والخدمات غير المستغلة أو استخدامها بشكلٍ مشتركٍ.
- يعتمد الاقتصاد التّشاركيّ في العصر الحديث بشكلٍ كبيرٍ على منصات الإنترنت التّي تتيح التّواصل بين البائعين والمشترين.
- ينمو الاقتصاد التّشاركيّ بوتيرةٍ سريعةٍ ويتطور باستمرارٍ، لكنه يواجه تحدياتٍ كبيرةً تتعلق بعدم وضوح القوانين والتّنظيمات، إضافةً إلى مخاوف من إساءة الاستخدام.
كيف ساهم الإنترنت في تسهيل عمليات التّشارك؟
على مدى آلاف السّنين، اعتادت المجتمعات البشريّة على مشاركة الأصول فيما بينها، لكن مع ظهور الإنترنت واعتماد البيانات الضّخمة، أصبح من السّهل على مالكي الأصول والباحثين عن استخدامها أن يتواصلوا بشكلٍ مباشرٍ وفعالٍ، يعرف هذا النّظام أيضاً بأسماء أخرى، مثل "اقتصاد المشاركة"، و"الاقتصاد الجماعيّ"، و"الاستهلاك التّشاركيّ"، و"اقتصاد الأقران".
ويتيح هذا النّموذج للأفراد والمجموعات تحقيق أرباحٍ من أصولهم غير المستخدمة، سواءً من أوقات فراغهم أو مواردهم الخاصة، ففي الاقتصاد التّشاركيّ، يمكن تأجير الأصول غير المستغلة، مثل السّيارات المركونة أو الغرف الفارغة، لفتراتٍ قصيرةٍ، وبهذه الطّريقة، تحوّل الأصول الماديّة إلى خدماتٍ متاحةٍ للآخرين.
من الأمثلة على خدمات الاقتصاد التّشاركيّ خدمة "زيب كار" لتأجير السّيارات، حيث يمكن للمشتركين استئجار السّيارات لساعاتٍ أو أيامٍ، مع وجود المركبات بالقرب من منازلهم بدلاً من اللجوء إلى وكالات تأجير السّيارات التّقليديّة، مما يغني عن الحاجة لامتلاك سيارةٍ خاصةٍ، ووفقاً لدراسةٍ أجراها معهد بروكينغز، تبقى السّيارات الخاصة غير مستخدمةٍ بنسبةٍ تصل إلى 95% من عمرها الافتراضيّ.
كما أظهرت الدّراسة ذاتها ميزة التّكلفة التّي يقدمها "إير بي إن بي" مقارنةً بتكلفة الإقامة في الفنادق، حيث تمكن مالكو المنازل من تأجير الغرف الفارغة بأسعارٍ تقلّ بنسبةٍ تتراوح بين 30% إلى 60% عن أسعار الفنادق حول العالم [1].
وقد شهد الاقتصاد التّشاركيّ تطوراً كبيراً في السّنوات الأخيرة، وأصبح يشمل مجموعةً واسعةً من التّبادلات التّجاريّة عبر الإنترنت، بما في ذلك معاملاتٍ بين الشركات (B2B)، ما يجعله نموذجاً شاملاً يدمج مختلف أشكال التّفاعل الاقتصاديّ الرّقميّ.
ويتوقع المنتدى الاقتصاديّ العالميّ، أن تقفز العائدات الماليّة للاقتصاد التّشاركيّ، من 15 مليار دولارٍ عام 2015، إلى أكثر من 335 مليار دولارٍ بحلول العام 2025 القادم، مشيراً في تقريرٍ سابقٍ له أنّ هذا النّوع من الاقتصاد، أدى إلى تغيير الطّريقة التّي يتمّ من خلالها إدارة النّشاط الاقتصاديّ وجعله أكثر كفاءةً عن ذي قبل.
يدعم مستشار الاتحاد الأوروبيّ، جيريمي ريفكين، فكرة أنّ هذا النّوع من الاقتصاد قد أدى إلى تحوّلٍ كبيرٍ على مستوى العالم، ويقول إنّه في الاقتصاد التّشاركيّ وعوضاً من البائعين والمشترين، هناك مزودون ومستخدمون، وعوضاً عن الأسواق لدينا شبكاتٌ، وعوضاً عن الملكيّة لدينا إمكانيّة الوصول، وعوضاً عن الاستهلاك لدينا استدامةٌ، وهذا هو التّحوّل الحقيقيّ [2].
تأثيرات الاقتصاد التّشاركيّ
لطالما كان للاقتصاد التّشاركيّ تأثيراتٌ عميقةٌ على القطاعات التّقليديّة، حيث أحدث تغييراتٍ جذريّةً في طرق تقديم الخدمات والمنتجات، ويعتمد هذا الاقتصاد على خفض التّكاليف التّشغيليّة وعدم الاعتماد على المخزون الكبير، مما يسمح للشركات التّشاركيّة بالعمل بأسلوبٍ أكثر رشاقةً، مع نقل قيمةٍ مضافةٍ إلى شركاء سلسلة التّوريد والعملاء عبر تحسين الكفاءة [3].
قطاع النّقل
يعدّ صعود شركة "أوبر" في قطاع النّقل من أبرز الأمثلة على التّأثير التّحويليّ للاقتصاد التّشاركيّ، فقد قدمت "أوبر" وغيرها من خدمات مشاركة الرّكوب بديلاً مريحاً وفعالاً واقتصادياً لوسائل النّقل التّقليديّة مثل الحافلات أو سيارات الأجرة، من خلال تطبيقٍ جوالٍ متطورٍ وشبكةٍ من السّائقين المعتمدين، تمكنت "أوبر" من تلبيّة احتياجات النّقل للمستهلكين بتجربةٍ أفضل من وسائل النّقل التّقليديّة.
السّلع الاستهلاكيّة
تعتبر الرّاحة والتّكلفة المعقولة والكفاءة من أهمّ العوامل التّي تؤثر على قرارات شراء السّلع الاستهلاكيّة، لذا ليس من المستغرب أن تهيمن العلامات التّجاريّة التّشاركيّة على هذا القطاع أيضاً، كان موقع "إي باي" من أوائل المبتكرين في سوق المستهلكين المباشر بين الأفراد (P2P)، حيث أتاح للمستخدمين شراء وبيع المنتجات الجديدة والمستعملة عبر واجهةٍ سهلة الاستخدام، مع إمكانيّة شحن السّلع مباشرةً إلى المنازل، يمنح "إي باي" المستهلكين طريقةً أكثر مرونةً وفعاليّةً من حيث التّكلفة والكفاءة لشراء السّلع، وذلك عبر توفير خياراتٍ متعددةٍ من حيث الأسعار والحالات والعروض الضّمانيّة.
الخدمات الشخصيّة والمهنيّة
يظهر تأثير الاقتصاد التّشاركيّ بوضوحٍ في مجال الخدمات التّقنيّة والشخصيّة، تتطلب الخدمات المهنيّة والشخصيّة مهاراتٍ ومعرفةً متخصصةً، مثل المحاسبين أو الكتّاب أو السّباكين، وفي سياق الاقتصاد التّشاركيّ، يعرف هذا العمل غالباً بمصطلحاتٍ مثل "العمل الحرّ" و"الوظائف قصيرة الأجل"، وقد انتشرت هذه الأنماط من العمل، ما يعزز من دور المهنيين في توفير خدماتٍ مرنةٍ على نطاقٍ واسعٍ.
قطاع الرّعايّة الصّحيّة
رغم أنّ الاقتصاد التّشاركيّ لم يحقق بعد تأثيراً كبيراً في قطاع الرّعايّة الصّحيّة، إلا أنّ العديد من المحللين يتوقعون أنّه سيكون القطاع المستهدف التّالي، إذ إنّ العيوب والتّكاليف العاليّة للرعايّة الصّحيّة التّقليديّة تعدّ قضايا قد يتمّ التّغلب عليها باستخدام الأساليب التّشاركيّة، بدءاً من الاستشارات الجماعيّة وصولاً إلى الطّبّ عن بعدٍ، يتوقع أن يحدث الاقتصاد التّشاركيّ تحوّلاً كبيراً في قطاع الرّعايّة الصّحيّة، بحيث يتيح للمرضى خياراتٍ أكثر سهولةً وفعاليّةً في الحصول على الرّعايّة.
أسهمت التّكنولوجيا في دفع عجلة الاقتصاد التّشاركيّ إلى ما هي عليه الآن، ومع تزايد التّرابط الرّقميّ بين الأفراد والمنظمات، من المتوقع أن تتسارع وتيرة هذا التّحول، ورغم أنّ الطّلب الجماعيّ يظهر تأثيره بشكلٍ واضحٍ في بعض القطاعات مثل الشحن والسّلع الاستهلاكيّة والخدمات، فمن المرجح أن تواجه العديد من القطاعات التّقليديّة تغييراتٍ جذريّةٍ مستقبليّةٍ بفعل هذا الاقتصاد.
الاقتصاد التّشاركيّ في المنطقة العربيّة
تساهم برامج ريادة الأعمال بشكلٍ كبيرٍ في جذب العمالة واستقطاب الاستثمارات الخاصة نحو قطاعات الاقتصاد التّشاركيّ المتناميّة، مما قد يساعد في تقليل اعتماد المواطنين على وظائف القطاع العام. على سبيل المثال في عام 2013، أصدرت الإمارات القانون رقم 41، الذي يلزم الأفراد والشركات المرخصة بتأجير منازل العطلات بالحصول على تصريحٍ من دائرة السّياحة والتّسويق التّجاريّ في دبي، ويعتبر هذا التّرخيص مثالاً على كيفيّة تفاعل السّياسات العامة مع الطّلب المتزايد على نماذج الاقتصاد التّشاركيّ.
تتنوّع سياسات الدّول العربيّة في كيفيّة تعاملها مع شركات الاقتصاد التّشاركيّ، على سبيل المثال، اختارت سلطنة عمان منع شركة "أوبر" من العمل، حفاظاً على مصالح شركة النّقل المحليّة "تاكسي عمان" (OTaxi). في المقابل، سمحت كلٌّ من البحرين والإمارات بعمل "أوبر" ولكن ضمن إطارٍ تنظيميٍّ يهدف إلى حمايّة سائقي الأجرة المحليين؛ إذ يسمح فقط لسيارات الأجرة الفاخرة بالعمل عبر المنصة في الإمارات، ربما نتيجةً للضغوط التّي يمارسها قطاع سيارات الأجرة التّقليديّ.
من جانبها، دعمت السّعوديّة "أوبر" لدعم التّوظيف وإتاحة خدمات نقلٍ آمنةٍ للنساء، مما يسهم في تعزيز مشاركتهنّ في الاقتصاد، أما المغرب، فقد اتخذ مساراً متوازناً بين تبني أنظمةٍ سياحيّةٍ حديثةٍ والحفاظ على التّنافسيّة العادلة، عبر تطوير إطارٍ ضريبيٍّ رسميٍّ لتنظيم الإيجارات القصيرة الأجل.
في النّهايّة، يبدو أنّ الاقتصاد التّشاركيّ ليس مجرد توجهٍ اقتصاديٍّ، بل أسلوب حياةٍ جديدٌ يعيد تعريف مفهوم الملكيّة والاستهلاك، وبينما يقدم حلولاً مبتكرةً لاستغلال الموارد بشكلٍ أفضل، يبقى نجاحه مرهوناً بقدرتنا على التّوازن بين الفوائد والمخاطر، فهل نحن مستعدون حقاً للتخلي عن التّملك لصالح المشاركة؟ الأيام وحدها كفيلةٌ بالإجابة.