الانحدار إلى الوسط (RTM): مصطلح إحصائي مهمّ في عالم الأعمال
كيفية تأثير RTM على صنع القرار وتقييم الأداء في مختلف المجالات
تُعلّمنا التَّجارب أنَّ النجاحَ في الأعمال التّجارية والعلوم والرَّياضة، وعمليّاً في كلِّ المساعي البشريّة الأخرى، يعتمد على الصُّدفة بقدر ما يعتمد على الموهبة والجهد، من المغري أن نعزو الفشل إلى الصُّدفة وبالمثل أن نعزِّي النّجاح إلى الموهبة، وعلى نحوٍ ما، فإنَّ التَّاريخ ما هو إلّا دراسة الصُّعود والهبوط لأيِّ دورةٍ مستمرَّة من الموت والبعث، والانحدار وإعادة الابتكار، ولكن كما يخبرنا المؤرِّخون، إنَّ السُّقوط نادراً ما يأتي من الخارج، فهو يأتي دائماً تقريباً من الدَّاخل، أي أنّهُ في الغالب نتيجة لقراراتنا التي اتّخذناها بإرادتنا الحرَّة، وبالتَّالي فإنَّ الانحدار نحو المتوسط يعدُّ مفهوماً مفيداً يجب أخذه في الاعتبار عند تصميم أيّ تجربةٍ علميَّةٍ أو تحليل بيانات أو اختبار.
تمَّ طرح فكرة الانحدار إلى المتوسّط RTM) Regrassion to the mean) لأوَّل مرّةٍ بواسطة عالم الإحصاء الإنجليزي السير فرانسيس جالتون Francis Galton، وهو ظاهرةٌ إحصائيَّةٌ تصف كيف تميل المتغيَّرات الأعلى أو الأقل بكثيرٍ من المتوسّط (أي المتطرّفة) إلى الاقتراب من المتوسّط عند قياسها مرَّةً أخرى، ويحدث RTM بسبب التَّغيُّر الطَّبيعي أو الصُّدفة، ويمكن ملاحظته في العديد من جوانب الحياة، خاصّةً في المواقف التي تنطوي على قياساتٍ أو مقارناتٍ متكرّرةٍ، ويمكن أن يؤثَّرَ الـ RTM على عمليَّة صنع القرار والنتائج في سياقاتٍ مختلفةٍ، مثل مقابلات العمل والشَّركات والاستثمار.
فإذا ما فكّرنا في السُّلوك البشريّ، والأداء التَّنظيميّ، ومصير الشَّركات التي يبدو أنَّها في مرحلة ما تحقُّق أداءً جيداً وتتمتَّع بالزَّخم يمكنّنا الانحدار إلى المتوسط من ملاحظة أنَّه إذا كان المتغيّر (العنصر المدروس) متطرِّفاً في قياسه الأول، فسوف يميل إلى أن يكونَ أقرب إلى المتوسّط في قياسه الثَّاني، وإذا كان متطرِّفاً في قياسه الثَّاني، فإنَّه يميل إلى أن يكونَ أقرب إلى المتوسط في قياسه الأوّل، وسنشرح في هذه المقالة عن أهميَّة فهم الانحدار إلى الوسط RTM، وكيفية التَّعامل معه في المواقف المختلفة.
شاهد أيضاً: العمل على أسئلة المقابلة فّعالة لتوظيفٍ جديدٍ
الانحدار إلى الوسط في مقابلات العمل
تعدُّ مقابلات العمل طريقةً شائعةً لاختيار المرشَّحين لوظيفةٍ ما، ولكنَّها أيضًا عرضة لـ RTM، وذلك لأنَّ مقابلات العمل غالباً ما تعتمد على قياسٍ واحدٍ أو عددٍ قليلٍ من قياسات أداء المرشَّح، والتي قد لا تعكس قدراته أو إمكاناته الحقيقيَّة، على سبيل المثال، قد يكون أداء المرشَّح جيداً أو سيئاً بشكلٍ استثنائيٍّ في المقابلة بسبب عوامل مثل الحظِّ أو الحالة المزاجيَّة أو التَّوتر أو الاستعداد، ولكن هذا قد لا يكون مؤشِّراً على أدائه المستقبليّ في الوظيفة.
وبالمثل، قد يحصل المرشَّح على درجاتٍ عاليَّة أو منخفضة في اختبار الشَّخصية أو مقياس آخر ذو موثوقيَّةٍ منخفضةٍ، ممّا يعني أنَّه لا يقيس نفس الشّيء باستمرار، ويمكن أن يؤدي هذا أيضاً إلى المبالغة في تقدير المرشَّح أو التَّقليل من شأنه بناءً على قياسٍ واحدٍ.
يمكن أن يؤدّي RTM إلى الوقوع في الأخطاء والتَّحيُّزات في التَّوظيف، مثل تأثير الهالة Halo effect، أو تأثير البوق Horn effect، أو تأثير التَّباين Contrast effect، ويحدث تأثير الهالة عندما يؤثِّر الانطباع الإيجابيّ عن المرشح في أحد الجوانب على تقييم الجوانب الأخرى، على سبيل المثال: قد يتمُّ تصنيف المرشح الذي يتمتَّع بالجاذبيَّة أو الشَّخصيَّة الكاريزميَّة بدرجةٍ أعلى ممّا هو عليه بالفعل في صفاتٍ أخرى، مثل الذكاء أو الكفاءة.
أمَّا تأثير القرن فهو عكس ذلك، عندما يؤثِّر الانطباع السَّلبي عن المرشَّح في أحد الجوانب على تقييم الجوانب الأخرى، مثلًا: قد يؤثِّر تقييم المرشَّح غير الجذَّاب أو الوقح على بعض صفاته الأخرى مثل الإبداع أو الصِّدق، بدرجةً أقلَّ ممّا هو عليها بالفعل، ويحدث تأثير التَّباين عند مقارنة المرشَّح بالمرشحين الآخرين، وليس بمعيارٍ موضوعيٍّ، فقد يبدو المرشَّح المتوسط أفضل أو أسوأ اعتماداً على جودة المرشَّحين الآخرين.[1]
وللحدِّ من تأثير RTM في مقابلات العمل، إليك بعض الاستراتيجيَّات الممكنة هي:
- استخدم مصادر متعدّدة للمعلومات، مثل السّيرة الذَّاتية أو المراجع أو عيّنات العمل أو الاختبارات، لتقييم مؤهّلات المرشَّح ومدى ملاءمته للوظيفة.
- توحيد عمليَّة المقابلة، مثل استخدام نفس الأسئلة والمعايير ومقاييس التَّقييم لجميع المرشَّحين، لضمان العدالة والاتِّساق.
- تجنَّب الأحكام المتطرِّفة، مثل تصنيف المرشَّح على أنَّه جيد جداً أو سيئ جداً، بناءً على مقابلةٍ أو مقياسٍ واحدٍ، وبدلاً من ذلك استخدم مجموعة من التَّقييمات، مثل جيد أو متوسط أو ضعيف، لمراعاة التَّباين وعدم اليقين.
كيف يؤثر الانحدار إلى الوسط على أداء الشَّركات؟
تخضع الشَّركات أيضاً لـ RTM، حيث يمكن أن يختلف أداؤها وتقييمها بمرور الوقت بسبب عوامل مثل ظروف السَّوق أو المنافسة أو الابتكار أو رضا العملاء، وعلى سبيل المثال، فإنَّ الشَّركة التي يكون أداؤها جيداً أو سيئاً بشكلٍ استثنائيٍّ في فترةٍ معيّنةٍ قد تتراجع إلى المتوسط في الفترة التَّالية، ممّا يعني أن أداءها سيكون أقرب إلى متوسط صناعتها أو قطاعها.
ويمكن أن يحدثَ هذا بسبب صعوبة الحفاظ على الأداء الاستثنائيِّ بمرور الوقت؛ لأنَّه قد يعتمد على عوامل غير مستدامة أو قابلة للتَّكرار، مثل الحظِّ الجيّد، أو الميِّزة المؤقَّتة، أو حدث لمرَّةٍ واحدةٍ، وبالمثل، قد لا يستمرُّ الأداء الضعيف بمرور الوقت؛ لأنَّه قد يعتمد على عوامل ليست دائمةً أو لا رجعةً فيها، مثل اتِّخاذ قرارٍ سيّئٍ، أو انتكاسةٍ مؤقتةٍ، أو صدمةٍ عشوائيّةٍ.
يمكن أن تؤثِّر RTM على أداء وتقييم الشَّركات، حيث يمكن أن تخلقَ توقُّعاتٍ أو أحكامٍ غير واقعيَّةٍ بناءً على الأداء السَّابق، وعلى سبيل المثال، قد لا ترقَّى الشَّركة التي تمَّ تصنيفها بدرجةٍ عاليَّةٍ أو منخفضةٍ من قبل المحلِّلين أو العملاء إلى مستوى توقُّعاتهم، حيث قد يتراجع أداؤها إلى المتوسط في المستقبل، ويمكن أن يؤدّي هذا إلى المبالغة في تقدير سعر سهم الشَّركة أو التَّقليل من قيمته، بالإضافة إلى الثِّقة المفرطة أو عدم الثَّقة في إدارة الشَّركة واستراتيجيَّتها.
شاهد أيضاً: قليلٌ من نجاح شركة ناشئة قد يكون معضلةً جمّةً
ولتجنب الوقوع كفريسةٍ لـ RTM في الشركات، إليك بعض النَّصائح الممكنة: [2]
- انظر إلى الاتِّجاهات طويلة المدى بدلاً من التَّقلبات قصيرة المدى لتقييم أداء الشَّركة وإمكاناتها، ومثلًا، انظر إلى معدَّل نموِّ الشَّركة أو ربحيتها أو حصتها في السَّوق أو الابتكار على مدار عدَّة سنواتٍ، بدلاً من ربع سنةٍ واحدٍ أو عامٍ واحدٍ.
- التَّكيُّف مع العوامل الخارجيَّة مثل الاقتصاد أو الصِّناعة أو المنافسة، التي قد تؤثِّر على أداء الشَّركة وتجعلها تبدو أفضل أو أسوأ، ممّا هي عليه في الواقع، على سبيل المثال، قارن أداء الشَّركة مع أقرانها أو معاييرها، وليس مع أدائها السَّابق، لمراعاة السِّياق والبيئة.
- كن متشكّكاً في القيم المتطرِّفة، مثل الأداء أو التَّقييمات العالية أو المنخفضة للغاية، والتي قد لا تعكس الجودة أو القيمة الحقيقيَّة للشَّركة، وعلى سبيل المثال، لا تفترض أنَّ الشَّركةَ التي كانت في القمة يوماً في فترةٍ ما ستظلُّ كذلك في الفترةِ التّالية، وبدلاً من ذلك ابحث عن الأدلة أو الأسباب التي تدعم أو تتحدَّى الوضع الشَّاذَّ.
الارتداد إلى الوسط في الاستثمار
يعدُّ الاستثمار مجالاً آخر، حيث يمكن أن يكون لـ RTM تأثيراتٍ كبيرةٍ على عوائد ومخاطر الاستثمار، وذلك لأنَّ الاستثمار ينطوي على اتِّخاذ قراراتٍ بناءً على الأداء الماضي والحاضر والمستقبل للأسهم أو الأموال أو الأصول الأخرى، والتي تخضع للتَّغيُّر وعدم اليقين، وعلى سبيل المثال، قد يتراجع الأصل الذي له عائدٌ مرتفعٌ أو منخفضٌ في فترة ما إلى المتوسط في الفترة التَّالية، ممّا يعني أنَّ عائده سيكون أقرب إلى متوسّط فئةٍ أو فئة الأصول الخاصَّة به، ويمكن أن يحدثَ هذا لأنَّ العوائد المرتفعة أو المنخفضة غالباً ما تتأثَّر بعوامل لا يمكن التَّنبؤ بها أو السّيطرة عليها، مثل تحرُّكات السُّوق أو الأحداث الإخباريَّة أو معنويَّات المستثمرين.
شاهد أيضاً: غداً للخليج العربي.. أبرز الشركات الاستثمارية العالمية
يمكن أن يؤثِّرَ RTM على عوائد ومخاطر الاستثمار، حيث يمكن أن يؤدِّي إلى سلوكٍ غير عقلانيٍّ أو عاطفيٍّ من قبل المستثمرين، مثلًا قد يستنسخ المستثمرون الفائزين أو الخاسرين السَّابقين لهم، ممّا يعني أنَّهم يشترون أو يبيعون الأصول بناءً على أدائها الأخير، بدلاً من قيمتها الجوهريّة أو أدائها المتوقَّع. ويمكن أن يؤدّي هذا إلى الشَّراء بسعرٍ مرتفعٍ والبيع بسعرٍ منخفضٍ، وهو عكس ما يجب على المستثمرين فعله لتعظيم عوائدهم.
وعلى نحوٍ مماثلٍ، قد يبالغ المستثمرون في تقدير الأداء المستقبليِ للأصول أو يقلِّلون من شأنه استناداً إلى أدائها الأخير، وهذا يعني أنَّهم يتوقَّعون الماضي في المستقبل، بدلاً من التَّكيُّف مع احتمالات الانحدار إلى المتوسط، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى الثِّقة المفرطة أو نقص الثِّقة، ممّا قد يؤدّي إلى الإفراط في المخاطرة أو تجنُّب المخاطر، ممّا قد يقلّل من العوائد أو يزيد من خسائر الاستثمار.
وللتَّغلب على RTM في الاستثمار، إليك بعض الاستراتيجيَّات الممكنة:[3]
- تنويع المحفظة، أي الاستثمار في مجموعةٍ متنوعةٍ من الأصول التي لها خصائصٌ مختلفةٌ، مثل المخاطرة أو العائد أو الارتباط، لتقليل تأثير التَّباين وعدم اليقين على الأداء العام للمحفظة.
- إعادة التَّوازن في تخصيص الأصول، أيِّ ضبط نسبة كلِ أصلٍ في المحفظة وفقاً لهدفٍ أو استراتيجيَّةً محدّدةٍ مسبقاً، للحفاظ على المستوى المرغوب من المخاطر والعائد، ولتجنُّب التَّعرُّض المفرط أو التَّعرُّض النَّاقص لأيِّ أصلٍ قد يكون انحرف عن المتوسط.
- اتَّبع منهجاً منضبطاً، أي الالتزام بخطةٍ أو قاعدةٍ توجِّه قرارات الاستثمار، مثل استراتيجيَّة الشِّراء والاحتفاظ، أو إستراتيجيَّة متوسط التَّكلفة بالدُّولار، أو استراتيجيَّة صندوق المؤشِّرات؛ لتجنُّب التَّأثر بالعواطف أو التَّحيزات التي قد تنجم عن RTM.
لمزيدٍ من المصطلحات في عالم المال والأعمال، تابع قناتنا على واتساب.