الرئيسية التنمية البقاء للأذكى: التكيف الثقافي طريق العلامات التجارية للنجاح

البقاء للأذكى: التكيف الثقافي طريق العلامات التجارية للنجاح

لم تعد المنافسة تقتصر على التّفوّق على الخصوم فحسب، بل امتدّت إلى بُعد جديد تُقاس فيه قدرة العلامات التّجاريّة على مواكبة هذا التغيير والتكيّف معه بمرونة

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

هذا المقال متوفر أيضاً باللغة الإنجليزية هنا

كثيراً ما يكرّس المسؤولون التّنفيذيون في قطاع الأعمال وفرق التّسويق مواردهم للاستحواذ على حصّةٍ في السّوق، وتحسين صورة العلامة التّجاريّة، وإتقان استراتيجيّات التّسعير.

ولكن ينبغي ألّا ننسى أنّنا نعيش في عصرٍ سريع التّغيّر اجتماعيّاً وثقافيّاً، حيث لا تقتصر المنافسة على مجرّد التّفوّق على الخصوم، بل تتعدّى ذلك إلى بعدٍ جديدٍ، تتحدّد فيه قدرة العلامات التّجاريّة على مواكبة هذا التّغيير.

الاختبار الحقيقيّ للعلامات التّجاريّة

إنّ التّحدّي الأكبر أمام العلامات التّجاريّة اليوم لا يكمن في مجرّد التّفوّق على المنافسين، بل في التّكيّف مع التّحوّلات الثّقافيّة السّريعة والمتلاحقة.

بصفتي خبيرةً في استراتيجيّات التّسويق، لاحظت أنّ التّهديد الأكبر لاستمراريّة العلامات التّجاريّة ليس مجرّد وجود منافسين أقوياء، بل يتمثّل في فقدان الصّلة بالثقافة السّائدة (cultural irrelevance).

لقد جعل التّغيّر السّريع في سلوك المستهلك، المتأثّر بالسّياقات الاجتماعيّة والسّياسيّة والتّكنولوجيّة المتقلّبة، كثيراً من الاستراتيجيات التّسويقيّة الطّموحة عديمة الفعاليّة إن لم تأخذ في الحسبان هذه التّحوّلات الثّقافيّة. فالتّوقّعات الاستهلاكيّة تتطوّر بالتّوازي مع الحركات المجتمعيّة الأوسع نطاقاً، والعلامات التّجاريّة التّي تفشل في مواءمة أساليبها مع هذه التّحوّلات، قد تخسر حصّتها في السّوق لصالح منافسين آخرين، أو – والأسوأ من ذلك – تتعرّض لخطر الاندثار التّامّ.

"نتفليكس": كيف تبنّت التّغيير واستبقت المستقبل؟

مثالٌ بارزٌ لعلامةٍ تجاريّةٍ استطاعت الاستباق في مواجهة التّحوّلات الثّقافيّة والتّكنولوجيّة هو "نتفليكس" (Netflix). كثيرون لا يعلمون أنّ نتفليكس بدأت عام 1997 كمقدّمةٍ لخدمة تأجير أقراص DVD بنظام الدّفع عند الاستئجار. ولكنّ الشركة أدركت مبكّراً أنّ المستقبل يتّجه نحو المشاهدة الرّقميّة، فتبنّت هذا التّغيير الجذريّ، وانتقلت إلى نموذج البثّ عبر الإنترنت.

لم يكن هذا القرار مجرّد استجابةٍ للتّطوّر التّكنولوجيّ، بل كان أيضاً تلبيةً للطّلب المتزايد على المحتوى عند الطّلب (on-demand content). هذه الخطوة الجريئة لم تضمن بقاء نتفليكس في السّوق فحسب، بل حوّلتها إلى واحدةٍ من أكبر الشّركات في صناعة التّرفيه، حيث أعادت تعريف الطّريقة التّي يستهلك بها النّاس المحتوى عالميّاً.

مخاطر تجاهل التّحوّلات الثّقافيّة

إنّ إدراك أنّ الثّقافة ترسم معالم قرارات الشّراء أمرٌ أساسيٌّ؛ ومع ذلك، لا تزال كثيرٌ من الشّركات تنظر إلى المنافسين باعتبارهم التّهديد الأوحد للعلامة التّجاريّة. هذا النّهج القاصر أدّى إلى عددٍ من أكبر حالات الفشل التّجاريّ في العقود الأخيرة. ومثالٌ مهمٌّ هو ما حدث مع علامة "تروبيكانا" (Tropicana) التّابعة لشركة "بيبسيكو" (PepsiCo) في عام 2009.

قرّرت الشركة إعادة تصميم عبوات العصير البرتقاليّة الشّهيرة، متجاهلةً ارتباط المستهلكين العاطفيّ بالهويّة البصريّة للعلامة وتاريخها. فجاءت ردود الفعل سريعةً وغاضبةً، إذ عبّر المستهلكون المخلصون عن سخطهم عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ما أدّى إلى تراجعٍ حادٍّ في المبيعات واضطرّت الشركة للعودة إلى التّصميم السّابق.

لقد أظهرت هذه الزّلّة الثّقافيّة، التّي جاءت نتيجة التّقليل من قيمة الرّابط البصريّ مع المستهلكين والتّراث الذي بنته العلامة، أنّ الاستهانة بالجانب الثّقافيّ قد يكون ضربةً موجعةً يستحيل تجاهلها.

العصر الرّقميّ وتأثيره الثّقافيّ

فاقمت الحقبة الرّقميّة هذه التّحدّيات، إذ تعاد صياغة المشهد الثّقافيّ اليوم بوتيرةٍ أسرع من أيّ وقتٍ مضى. وقد منحت وسائل التّواصل الاجتماعيّ المستهلكين قدرةً غير مسبوقةٍ على تشكيل سرديّة العلامة التّجاريّة، وخلقت قناة تفاعلٍ مباشرةً بين العلامات التّجاريّة والقضايا الثّقافيّة التّي تهمّ الجمهور.

فيما مضى، كانت القصّة التّي تحكيها العلامة التّجاريّة تروى أساساً عبر الإعلانات ووسائل الإعلام التّقليديّة؛ أمّا اليوم، فتتشكّل تلك القصّة لحظةً بلحظةٍ، وكثيراً ما يكون الرّاوي هو المستهلك نفسه.

نموذجٌ بارزٌ على استغلال العلامات التّجاريّة لهذه الظّاهرة هو شركة "نايكي" (Nike) ودعمها لحركة "حياة السّود مهمّة" (Black Lives Matter) عام 2018 من خلال حملتها مع لاعب كرة القدم الأمريكيّة السّابق "كولن كايبرنيك".

على الجانب الآخر، هناك علاماتٌ تجاريّةٌ لم توفّق في قراءة المشهد الثّقافيّ بدقّةٍ. مثال ذلك، الحملة الإعلانيّة المثيرة للجدل التّي أطلقتها "جيليت" (Gillette) عام 2019 حول مفهوم الذّكورة. ورغم أنّ الهدف كان إشعال نقاشٍ إيجابيٍّ حول الرّجولة المسؤولة، إلا أنّ الإعلان أثار استياء بعض العملاء الذين اعتبروه محاولةً لتلقينهم دروساً أخلاقيّةً.

والدّرس الأهمّ هنا هو أنّ الفهم الدّقيق للتيّارات الثّقافيّة ليس مجرّد إضافةٍ، بل هو ضرورةٌ لا غنى عنها، لأنّ الخطأ في هذا السّياق قد يكون أشدّ ضرراً من عدم اتّخاذ أيّ موقفٍ من الأساس.

تحوّلات القيم الاستهلاكيّة في الشّرق الأوسط

يتميّز الشّرق الأوسط بمشهدٍ ثقافيٍّ فريدٍ ومعقّدٍ، يفرض على العلامات التّجاريّة أن تتعامل معه بحذرٍ ودقّةٍ. ففي هذه المنطقة، قد تؤدّي محاولة فرض نماذجٍ تسويقيّةٍ غربيّةٍ دون إدراكٍ للحساسيّات الثّقافيّة والاجتماعيّة إلى فقدان شريحةٍ كبيرةٍ من المستهلكين، بل وربّما إلى ردود فعلٍ عكسيّةٍ تضرّ بالعلامة التّجاريّة.

وفي الوقت نفسه، فإنّ الشّباب يمثّلون نسبةً كبيرةً من التّركيبة السّكّانيّة في المنطقة، إلى جانب تصاعد الاهتمام بالقضايا الاجتماعيّة، والاستدامة، والهويّة المحليّة. وبالتّالي، باتت الأصالة والرّؤية التّقدّميّة عنصرين رئيسيّين يحدّدان مدى قدرة العلامات التّجاريّة على النّجاح في السّوق العربيّة.

نموذجٌ يجسّد هذا التّكيّف النّاجح مع تغيّرات المجتمع العربيّ يتمثّل في نجاح "المسعود" في الإمارات، حيث أشغل منصب رئيس قسم التّسويق والاتّصال المؤسّسيّ للمجموعة.

فعلى مدى أكثر من خمسين عاماً، نجحت الشّركة في قراءة المتغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتكيّفت معها ببراعةٍ. من خلال التّركيز على الابتكار والاستدامة والمشاركة المجتمعيّة، تمكّنت "المسعود" من أن تظلّ علامةً بارزةً في المشهد التّجاريّ الإماراتيّ، ولا سيّما في مجالات الطّاقة المتجدّدة، والمسؤوليّة الاجتماعيّة، والحلول المتمحورة حول العميل.

وبفضل هذا الاندماج الذّكيّ مع توجّهات المجتمع، لم تقتصر "المسعود" على تعزيز موقعها في سوقٍ مزدحمةٍ بالمنافسة، بل أصبحت أيضاً نموذجاً لعلامةٍ تجاريّةٍ تستشرف المستقبل، وتجسّد في استراتيجيّاتها احتراماً عميقاً للقيم الثّقافيّة العربيّة.

وبالمثل، شهد قطاع التّجزئة الفاخر في الشّرق الأوسط تحوّلاً لافتاً يشير إلى أنّ الفخامة لم تعد مجرّد استعراضٍ للثّراء، بل أصبحت مرتبطةً بالمسؤوليّة الاجتماعيّة والبيئيّة.

فعلى سبيل المثال، قدّمت دار الأزياء العالميّة "لوي فويتون" (Louis Vuitton) في الأعوام الأخيرة مجموعاتٍ تسلّط الضّوء على الاستدامة البيئيّة والإنتاج الأخلاقيّ، بما يلبّي المتطلّبات المتنامية للمستهلك العربيّ الذي يريد رفاهيّةً مسؤولةً. في هذا العصر الجديد، لم تعد الفخامة تقاس بمقدار البذخ، بل بمدى التّزام العلامة التّجاريّة بالقيم الأخلاقيّة والوعي الثّقافيّ.

عصرٌ جديدٌ من المرونة الثّقافيّة

لكي تزدهر العلامات التّجاريّة في عالم اليوم، لا بدّ أن تتبنّى عقلية المرونة والقدرة على التّكيّف مع التّحوّلات الثّقافيّة. فلم يعد الأمر يتعلّق فقط بمتابعة التّوجّهات الرّائجة، بل أصبح يتطلّب استماعاً واعياً إلى نبض المجتمع، وفهماً عميقاً لاحتياجات المستهلكين، والاستجابة لهذه المتغيّرات بتعاطفٍ وصدقٍ.

كما أوضحت في كتابي "التّسويق والاتّصال المؤسّسيّ في الميدان: كيف تؤسّس قسم تسويقٍ واتّصالٍ من الصّفر" (Marketing & Communications On The Job: How to Establish a Marketing and Communications Department from Scratch)، فإنّ بناء إدارة تسويقٍ قادرةٍ على الاستجابة للتحوّلات الثّقافيّة يبدأ من تأسيس هياكل قويّةٍ ومرنةٍ.

الأمر مرتبطٌ بإنشاء فرق عملٍ تجمع بين الاستراتيجيّة والمرونة، بحيث يمكنها التّحرّك بسرعةٍ لمواكبة البيئة المتغيّرة لسلوك المستهلك والحركات الثّقافيّة.

إنّ التّيّارات الثّقافيّة التّي تشكّل السّوق اليوم ليست عابرةً، بل هي النّبض الحقيقيّ للمجتمع. والعلامات التّجاريّة التّي تجرؤ على إعادة تعريف هويّتها، وفقاً لهذه المتغيّرات، هي التّي ستكسب ولاء المستهلكين، وستحقّق نجاحاً مستداماً.

على النّقيض من ذلك، فإنّ العلامات التّجاريّة التّي تصرّ على التّمسّك بالقوالب القديمة، وترفض الاعتراف بهذه التّحوّلات، ستجد نفسها خارج المعادلة التّجاريّة عاجلاً أم آجلاً.

عن الكاتبة: مروة قعبور
تشغل منصب رئيسة قسم التّسويق والاتّصال المؤسّسيّ في مجموعة "المسعود" (Al Masaood ).

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
آخر تحديث:
تاريخ النشر: