كيف يغير التسويق العصبي قواعد اللعبة لفهم سلوك المستهلك؟
التّسويق العصبيّ يعيد تعريف العلاقة مع المستهلك، بتحفيز العقل ومخاطبة اللّاوعي باستخدام تقنيّات علم الأعصاب المتقدّمة
يحظى التّسويق العصبيّ الآن بشعبيّةٍ كبيرةٍ ومتزايدةٍ بين المسوّقين، فهو استراتيجية تجمع بين خبرات التّسويق وعلم الأعصاب. ومن خلال استخدام تقنياتٍ تراقب نشاط الدّماغ عند التّعرّض لتجارب محدّدةٍ، تمكّن الباحثون من تحديد مجموعةٍ من العناصر الّتي تؤثّر فعلاً في الجمهور الخاضع للتّجربة.
بعبارةٍ أخرى، فإنّ التّسويق العصبيّ يستهدف تحفيز أجزاء الدّماغ الّتي تجذب النّاس تلقائياً إلى الخدمات والمنتجات أو المحتوى، وغيرها من حملاتٍ تخاطب الجمهور باختلاف أنواعه وتفضيلاته. [1]
التّقنيات المستخدمة لمعرفة التّفضيلات الحقيقيّة للمستهلكين
ظهر مصطلح التّسويق العصبيّ منذ تسعينات القرن العشرين، وكانت التّجارب تهدف لاستكشاف تعبيرات النّاس التّلقائيّة، والّتي قد تكون مخفيّةً عنهم أنفسهم. وظهر مصطلح "Neuromarketing" للمرّة الأولى عام 2002 في بحثٍ مفصّلٍ للباحث آلي سميدتس، والّذي بيّن أنّ دراسة المشاعر البشريّة وأنماط السّلوك تساعد الشّركات ومنشئي المحتوى على معرفة ما يريده الجمهور، سواءٌ كان يدرك هذه الاحتياجات أم لا، ومن أهمّ التّقنيات الّتي استخدمت في دراسة ردود فعل الأشخاص عند التّعرّض لنماذج معيّنةٍ: [2]
- تتبّع العين: فيرتبط اتّساع حدقة العين بالإثارة، ويفيد في فهم طريقة معالجة الأشخاص للمعلومات المرئيّة. ويهتمّ الباحثون هنا بالوقت المستغرق حتّى التّثبيت الكامل ومدّة الثّبات، وغيرها.
- قياس التّخطيط الكهربائيّ للدّماغ: وتحلّل الاتّصال بين مناطق محدّدةٍ في الدّماغ، سواءً المسؤولة عن الجوانب العاطفيّة أو العقليّة، وبين التّعرّض لحدثٍ محدّدٍ.
- ترميز الوجه: لتحليل التّعبيرات المختلفة وفهم مشاعر الانحياز أو الموافقة والرّفض.
- التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ: لفهم أيّ المناطق في الدّماغ هي الّتي تنشط عند أنواعٍ معيّنةٍ من الاستجابات وتوجيه سلوك المستهلك.
- المقاييس الفسيولوجيّة: وتشمل نبضات القلب، ومعدّل التّنفّس، واتّساع حدقة العين.
نصائح أساسيّةٌ لاستخدام التّسويق العصبيّ بفاعليّةٍ
مهما كان نوع النّشاط الّذي تمارسه، بدءاً من إنشاء المحتوى المرئيّ والمكتوب والمسموع، إلى إطلاق المنتجات والخدمات، أو الأنشطة الاجتماعيّة والسّياسيّة، فإنّ التّجارب الفعليّة بيّنت أهمّيّة بعض الإستراتيجيّات في التّسويق العصبيّ، ومن أهمّها:
الاهتمام باللّمسة الإنسانيّة
يؤدّي عرض وجوه الأشخاص في المحتوى إلى زيادة ثقة العملاء مقارنةً بالحملات الّتي لا تستخدم العنصر البشريّ. فقد بيّنت التّجارب أنّ دمج لمسةٍ إنسانيّةٍ يزيد من سهولة وصول الفكرة إلى المستهلكين، وينشئ ارتباطاً أكثر قوّةً معهم.
استغلال تأثير النّدرة
تزيد رغبة البشر في الشّيء كلّما أدركوا أنّ المعروض منه قليلٌ، فهم يخافون من الخسارة. وكلّما كان المنتج أو الخدمة محدودةً، كلّما كان أكثر إغراءً للمشتري. فهذا ما يسمّى تأثير النّدرة، وهو لا ينتهي بمجرّد الشّراء، بل التّرويج الدّائم لفكرة امتلاك سلعةٍ "نادرةٍ" يجعل المستهلك يقدّرها أكثر، وتكون دائماً في مكانةٍ خاصّةٍ بالذّهن. لذا تستخدم بعض الحملات عبارة "العرض لفترةٍ محدودةٍ" أو "حتّى انتهاء الكمّيّة".
الضّغط على مناطق الألم
كشف خبراء التّسويق العصبيّ أنّ استجابة الدّماغ عندما يتعلّق الأمر بتجنّب الألم أقوى بثلاث مرّاتٍ من ردّ فعله عند البحث عن المتعة. وهذا يعني أهمّيّة التّركيز على فاعليّة المنتج في تخفيف الألم بدلاً من التّركيز على دوره في رفع درجة المتعة.
فهم تأثير الألوان
يعتبر استخدام الألوان من الوسائل المتميّزة في توجيه مشاعر الجمهور. وينقل كلّ لونٍ مشاعر محدّدةً. فمثلاً، ينظر إلى اللّون الأرجوانيّ كمرادفٍ للتّميّز، والأحمر جريءٌ ومغامرٌ، بينما الأزرق يوحي بالصّدق والإخلاص، أمّا التّعرّض للّون الأخضر يوحي عادةً بالنّضارة والأصالة. وهكذا، فإنّ اختيار اللّون المناسب لرسالتك يزيد من إطلاق التّفاعل الصّحيح معها.
التّركيز على تحفيز الاستجابة العاطفيّة
لا يمكن فصل المشاعر عن السّلوك الفرديّ. فإذا كانت الأرقام والإحصائيّات تؤثّر على الجزء العقلانيّ من الدّماغ، فإنّ أشكالاً أخرى من التّسويق مثل الصّور والقصص تثير استجاباتٍ عاطفيّةً أقوى في الدّماغ، ويستمرّ تأثيرها لفتراتٍ أطول بكثيرٍ من التّحفيز العقلانيّ.
التّأثير على أكبر قدرٍ من الحواسّ
كلّما كانت التّجربة الحسّيّة للحملة الإعلانيّة أو المحتوى أقوى، كلّما ارتفع تأثيرها الإجماليّ على الفرد. فإذا تمكّنت من إشراك العينين والأذنين واللّمس وحاسّة السّمع، فإنّ هذا يزيد من مشاعر الرّاحة والارتباط بما تقدّمه. [3]
استخدام السّعر التّقريبيّ
وهي حيلةٌ عصبيّةٌ مستخدمةٌ منذ سنواتٍ ربّما لم تكن تدرك سببها. إنّ الرّقم الثّابت مثل 5 جنيهاتٍ أو 500 دينارٍ أو غيرها لا تستهلك الكثير من طاقة المستهلك، وربّما يكون هذا جيّداً عاطفيّاً، ولكن عندما يعمل الدّماغ بجهدٍ أكبر، فإنّه يقنع المستهلك بأنّ السّعر المعقّد مثل 4.99 جنيهاتٍ هو القرار الأكثر منطقيّةً فيقبل عليه. لذا، إذا كنت ترغب في مخاطبة عواطف العميل فاستخدم السّعر الثّابت، أمّا إذا رغبت في إشراك عقله، فاستخدم الشّكل المعقّد.
التّخطيط الرّأسيّ للصّفحات
الاهتمام بالتّخطيط جزءٌ أساسيٌّ من الإقبال على التّعرّض للمحتوى. وبيّنت التّجارب أنّ التّخطيط الأفقيّ للمواقع الإلكترونيّة أقلّ فاعليّةً من التّخطيط الرّأسيّ، حيث يؤدّي التّنسيق من أعلى إلى أسفل إلى إشراك الدّماغ وتحفيز المستهلكين على الاستمرار في التّمرير، وخصوصاً من الهواتف الذّكيّة.
استخدام عناوين تحفّز الحصين
الحصين هو جزءٌ مهمٌّ من المخّ، ويطلق عليه "الفصّ الصّدغيّ"، وهو مسؤولٌ عن التّعلّم والذّاكرة. وعندما تستخدم عباراتٍ وعناوين تنبّه هذا الجزء، فإنّ الارتباط برسالتك يكون أقوى. وهو عادةً ما يتأثّر أكثر بالمفاجأة والتّورية والاستخدام غير المألوف للعبارات.
شاهد أيضاً: كيف غيّرت "التكتكة" قواعد التّسويق الرّقمي؟
حملاتٌ حقيقيّةٌ استخدمت التّسويق العصبيّ
نجحت مجموعةٌ كبيرةٌ من الشّركات الكبيرة والصّغيرة في استخدام تقنيّة التّسويق العصبيّ بفاعليّةٍ، بدلاً من الاعتماد فقط على استطلاعات الرّأي الّتي قد لا تعبّر حقيقةً عن اتّجاهات الجمهور وتفضيلاته غير الواعية، ومن أهمّ النّماذج الواقعيّة:
- شركة ميتا: فحصت الاستجابات المعرفيّة والعاطفيّة للمشاركين خلال محادثةٍ افتراضيّةٍ بسماعة Oculus، بهدف تحسين التّجارب البشريّة للإعلانات.
- تيك توك: راقب الاستجابة العصبيّة عند اقتران محتواه بقنواتٍ أخرى مثل التّليفزيون وخدمات البثّ، ليؤكّد زيادة النّجاح عبر الدّمج بين قنواتٍ متعدّدةٍ.
- شركة غوغل: أجرت سلسلة تجارب من علم النّفس العصبيّ لاختبار قيمة الألوان، ودرست فاعليّة 50 درجةً من اللّون الأزرق، لتربح 200 مليون دولارٍ إضافيّةٍ فقط من تغيير اللّون.
- شركة كوكاكولا: ركّزت على لمس الحواسّ في إعلاناتها، وكانت النّتيجة في صالحها عند المقارنة مع بيبسي. كما درست الشّركة طريقة تتبّع العين داخل المتجر للتّعرّف على سلوك العملاء.
- شركة مونوتايب Monotype: باعتبارها أكبر شركةٍ للخطوط في العالم، أثبتت قيمة الخطّ والطّباعة في جذب العملاء، مع زيادة تذكّرها بنسبة 10%، ورفع الثّقة بنسبة 9% عند اختيار الخطّ الملائم للرّسالة الإعلانيّة.
شاهد أيضاً: إدارة الأزمات: كيف تحول العقبات إلى فرص تسويقية
هل التّسويق العصبيّ أخلاقيٌّ؟
يقلّل التّسويق العصبيّ من إرهاق العملاء وتوتّرهم عند اتّخاذ القرارات، ويوفّر الكثير من الوقت الّذي يمضي في هذه العمليّة، فمن المعروف أنّ كثرة الخيارات تربك من يتعرّض لها، فعندما توجّه للمستخدم لما يحتاج إليه تحديداً، فأنت تساعده على توفير مجهودٍ كبيرٍ. ولكن، من ناحيةٍ أخرى، يتخوّف البعض من الاستخدامات غير الأخلاقيّة للتّسويق العصبيّ، والّتي قد تشمل: [4]
- انتهاك الخصوصيّة، من خلال إخضاع المستهلكين لتجارب تحدّد سلوكيّاتهم دون علمٍ أو موافقةٍ منهم.
- التّلاعب بعقول المستهلكين، وإجبارهم على شراء المزيد أو التّعرّض لمحتوًى غير ملائمٍ، ممّا قد يصل بهم إلى حالة الإدمان.
وهذه المخاوف لها مشروعيّتها بالطّبع، خصوصاً أنّ البحوث في هذا الأمر لا تزال في مراحلها الأولى، ولم تتمتّع بعد بالموثوقيّة الفائقة.
إلّا أنّ الكثير من التّوقّعات تشير إلى نموّ هذه الاستراتيجيّة بنسبة 15.6% حتّى عام 2026، فهي توفّر نفقاتٍ ضخمةٍ تهدر في محاولة توقّع ما يرغب به المستهلك وتغييره باستمرارٍ، وتساعد على تقسيم الجمهور بفاعليّةٍ أكبر، مع استهداف التّركيبة السّكانيّة أو فئةٍ عمريّةٍ محدّدةٍ.
لذا يمكن استخدامها بحذرٍ شديدٍ ومراقبة نتائجها وتأثيرها على الجمهور، وعلى صورة الشّركة، حتّى لا يكون الأمر مجرّد خداعٍ سوف يؤدّي بالتّأكيد لانهيار السّمعة التّجاريّة والأدبيّة على المدى الطّويل.