الذكاء الاصطناعي التوليدي يعيد تشكيل القطاع المالي الإماراتي
بينما يتّجه السّوق بسرعة نحو اقتصادٍ غير نقديّ، يفتح الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ آفاقاً جديدةً أمام البنوك لاستكشاف المجهول والتّغلّب على القيود القائمة

يمضي السّوق الماليّ في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة بخطىً ثابتةٍ نحو اقتصادٍ رقميٍّ لا يعتمد على العملات النّقديّة، وفي خضمّ هذا التّحوّل المتسارع، يبرز الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ بوصفه بوّابةً جديدةً تفتح أمام المصارف آفاقاً غير مسبوقةٍ، معيناً إيّاها على تجاوز التّحدّيات وتخطّي الحدود التّقليديّة.
وقد أدركت الإمارات منذ وقتٍ مبكّرٍ ما تحمله تقنيات الذّكاء الاصطناعيّ من إمكاناتٍ هائلةٍ لإحداث تحوّلٍ نوعيٍّ في شتّى القطاعات. وقد نصّت "استراتيجيّة الإمارات للذّكاء الاصطناعيّ 2031" على طموحاتٍ واسعةٍ في تسخير هذه التّقنيّات لتعزيز التّنوّع الاقتصاديّ ودفع عجلة التّقدّم التّكنولوجيّ. وليس أدلّ على ذلك من الخطّة الوطنيّة لعام 2025، الّتي أكّدت بوضوحٍ أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يعدّ أحد أبرز الأولويّات الثّلاث في المرحلة المقبلة، مع وضع خططٍ محكمةٍ لتعزيز الإبتكار في هذا المجال.
تُعزّز هذه الرّؤية الطّموحة باستثماراتٍ ضخمةٍ في البنى التّحتيّة الرّقميّة، يتجلّى أبرزها في مشاريع مثل "مدينة دبي الذكية"، الّتي تهيّئ بيئةً مواتيةً لاعتماد حلول الذّكاء الاصطناعيّ في مختلف القطاعات. وفي صميم هذا التّحوّل التّقنيّ، يتجلّى دور الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ بوصفه عاملاً حاسماً في إعادة صياغة مسارات الصّناعات وإعادة تعريف حدود الممكن.
وبحلول عام 2030، تتطلّع دول الشّرق الأوسط ذات الاقتصادات النّامية السّريعة، وفي مقدّمتها الإمارات، إلى بناء منظوماتٍ اقتصاديّةٍ ترتكز على الذّكاء الاصطناعيّ، مع تحقيق عوائد تقدّر بالتّريليونات. وخلال هذه السّنين، سيطاول الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك قطاع المصارف والخدمات الماليّة، الّذي يقف على أعتاب تحوّلٍ جذريٍّ بفعل هذه التّقنيّة المتقدّمة.
انتهاز الفرص الّتي يتيحها الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ
يعدّ قطاع الخدمات الماليّة والمصرفيّة من أكثر القطاعات استفادةً من ثورة الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ. ومع تسارع وتيرة الانتقال نحو اقتصادٍ رقميٍّ يعتمد على حلول الدّفع غير النّقديّ، يصبح الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ بمثابة بوّابةٍ تتيح للمصارف اكتشاف مساراتٍ مبتكرةٍ تتجاوز القيود التّقليديّة. وقد شرعت مؤسّساتٌ ماليّةٌ رائدةٌ بالفعل في تسخير هذه التّقنيّة الثّوريّة، مستفيدةً ممّا تقدّمه من إمكاناتٍ فائقةٍ، بدءاً من تعزيز الأمن السّيبرانيّ في قطاعٍ يواجه تحدّياتٍ أمنيّةً متزايدةً، وصولاً إلى تحقيق مستوياتٍ غير مسبوقةٍ من تخصيص الخدمات المصرفيّة وفقاً لاحتياجات العملاء الفرديّة.
تحصين القطاع الماليّ عبر الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ في مقدّمة هذه الإمكانات، فيبرز الدّور الحيويّ الّذي يؤدّيه الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ في تعزيز الأمن السّيبرانيّ، إذ يعمل باستمرارٍ على مراقبة السّجلّات والبيانات وتحليل سلوك المستخدمين ونمط استخدام الأنظمة المصرفيّة. وليس من المستغرب أن تتبنّى المصارف الإماراتيّة هذه التّقنيّة المتقدّمة، حيث تستمدّ قوّتها من التّعلّم المستمرّ بالزّمن الحقيقيّ، ما يتيح لها استباق المخاطر السّيبرانيّة والتّصدّي لأيّ تهديداتٍ أمنيّةٍ قد تطال البيانات الماليّة الحسّاسة.
علاوةً على ذلك، يسهم الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ في مكافحة الاحتيال الماليّ بفاعليّةٍ غير مسبوقةٍ، إذ يرصد أيّ نشاطٍ مشبوهٍ على الفور، مطلقاً تحذيراتٍ آنيّةً عند الاشتباه بعمليّةٍ احتياليّةٍ، بل ويعالج التّهديد من جذوره قبل أن يتسبّب في أيّ ضررٍ يذكر. وفي هذا الإطار، بدأت كبرى المؤسّسات الماليّة في الاعتماد عليه لمراجعة الوثائق القانونيّة، ما يسهم في تقليص الزّمن اللّازم لإنجاز المعاملات، ويضاعف من كفاءة العمليّات المصرفيّة. وبالمثل، تستعين شبكات الدّفع العالميّة بهذه التّقنيّات لتعزيز قدراتها في كشف الاحتيال والتّصدّي للمعاملات المشبوهة بفاعليّةٍ أعلى.
كذلك، تجد تعزيز المصادقة البيومتريّة والتّصدّي للاحتيال الرّقميّ إلى جانب الأمن السّيبرانيّ، فيتيح الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ مستوياتٍ متقدّمةً من الدّقّة في التّعرّف على هويّة العملاء، وهو ما يسهم في تعزيز منظومة الأمن الماليّ. وتكتسب تقنيّات المصادقة البيومتريّة (Biometric Authentication) أهمّيّةً متزايدةً في هذا المجال، إذ تعتمد على التّعرّف المتطوّر على الوجوه لتحسين إجراءات التّحقّق من الهويّة. ووفقاً لدراسةٍ أجرتها شركة PwC، فإنّ الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ قادرٌ على تمكين المصارف من تحديد هويّة العملاء بسرعةٍ وكفاءةٍ عاليتين، ما يعزّز من موثوقيّة المعاملات المصرفيّة.
أضف إلى ذلك أنّ الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ بات يلعب دوراً حاسماً في مكافحة تقنيّات التّزييف العميق (Deepfakes)، إذ يتمكّن من تحليل ملامح المحتوى المزيّف، واكتشاف عناصر الخداع الكامنة فيه، ما يمكّنه من إحباط أيّ محاولاتٍ تزييفيّةٍ قبل أن تتسبّب في أضرارٍ حقيقيّةٍ. وبهذا، يسهم في تحصين النّظام المصرفيّ من مخاطر التّلاعب والتّزوير، ويوفّر حمايةً أكبر للعملاء والمؤسّسات الماليّة على حدٍّ سواءٍ.
التّخصيص الفائق: صياغة رحلة العميل
يتيح الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ لقطاع الخدمات الماليّة في دولة الإمارات فرصةً غير مسبوقةٍ لفهم احتياجات كلّ عميلٍ وتفضيلاته وسلوكه بدقّةٍ متناهيةٍ. ويسمح هذا التّعمّق بتقديم عروضٍ وخدماتٍ مفصّلةٍ خصوصاً لكلّ فردٍ، ما يسهم في تعزيز معدّلات تحويل العملاء وزيادة مستوى رضاهم.
وإذا نظرنا إلى التّطبيقات العمليّة لهذه التّقنيّة، نجد أنّ الدّردشة الآليّة (Chatbots) والمساعدات الافتراضيّة المتطوّرة ليست سوى نماذج حيّةً لقدرات الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ في الاستجابة الفوريّة والدّقيقة لاستفسارات العملاء. إذ تستفيد هذه الأنظمة من التّعلّم المستمرّ النّاتج عن تفاعلاتها المتواصلة، ما يتيح للمصارف تقديم خدماتٍ أكثر كفاءةً ودقّةً، والارتقاء بجودة الخدمة إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ، مع تقليل التّكاليف وتبسيط إجراءات الدّعم الفنّيّ. وهكذا تصبح التّجربة المصرفيّة أكثر التصاقاً بالعملاء، وأقدر على تلبية احتياجاتهم الفرديّة بمرونةٍ غير معهودةٍ.
أمّا على الصّعيد الماليّ، فقد بات من الواضح أنّ القطاع المصرفيّ يستفيد بشكلٍ مباشرٍ من هذه التّحوّلات، إذ تترجم هذه التّقنيّة إلى نموٍّ متزايدٍ في الأرباح. وقد أعرب كبار الرّؤساء التّنفيذيّين في منطقة الشّرق الأوسط عن تفاؤلهم إزاء قدرة الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ على تعزيز الإيرادات، حيث أظهرت الدّراسات أنّ 63% منهم يرون في هذه التّقنيّة وسيلةً لزيادة الدّخل، في حين يعتقد 62% منهم أنّها تحسّن مستويات الرّبحيّة. ووفقاً لتقديرات شركة McKinsey، قد يؤدّي الذّكاء الاصطناعيّ إلى خفض النّفقات التّشغيليّة للمصارف بنسبةٍ تتراوح بين 20% و30%، ما يمهّد لحقبةٍ جديدةٍ من الكفاءة التّشغيليّة والتّركيز المتزايد على احتياجات العملاء.
وللاستفادة القصوى من هذه الإمكانات، يسعى مزوّدو التّكنولوجيا إلى تقديم حلولٍ معدّةٍ خصوصاً لتمكين المصارف والشّركات الماليّة في المنطقة من تبنّي الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ على نطاقٍ واسعٍ. وتتميّز هذه الحلول بمرونتها، إذ تسهّل عمليّة الدّمج السّلس للذّكاء الاصطناعيّ في الأنظمة القائمة، مع توفير بنيةٍ قابلةٍ للتّعديل بما يتناسب مع متطلّبات كلّ قطاعٍ ومشكلاته الخاصّة. ومع دخول هذه التّقنيّات حيّز التّنفيذ، ستتحرّر المؤسّسات من الأعباء التّشغيليّة الرّوتينيّة، ما يتيح لها تركيز مواردها على الابتكار والاستعداد للمستقبل، وتعزيز مكانتها في سوقٍ يشهد تحوّلاتٍ متسارعةٍ.
تخطّي العقبات واستكشاف الآفاق لا شكّ في أنّ مستقبل الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ في المنطقة يحمل وعوداً كبيرةً، إلّا أنّه لا يخلو من تحدّياتٍ ومحاذير أخلاقيّةٍ ينبغي أخذها بعين الاعتبار. وتأتي خصوصيّة البيانات على رأس هذه التّحدّيات، حيث تعتمد الأنظمة التّوليديّة على معالجة كمّيّاتٍ هائلةٍ من المعلومات الحسّاسة عن العملاء، ما يستوجب على المصارف وضع تدابير صارمةٍ لحمايتها من أيّ اختراقٍ أو استغلالٍ غير مشروعٍ.
ومن المخاطر المحتملة أيضاً انحياز القرارات الخوارزميّة، إذ قد تنشأ مغالطاتٌ في مخرجات الذّكاء الاصطناعيّ نتيجةً لتحيّز البيانات المستخدمة في تدريبه، ممّا قد يؤدّي إلى قراراتٍ غير عادلةٍ تلحق الضّرر ببعض فئات العملاء. وإلى جانب ذلك، تلتزم المصارف بتطبيق معايير صارمةٍ للأمن السّيبرانيّ والامتثال للوائح الرّقابيّة، لضمان حماية أنظمتها من أيّ تهديداتٍ سيبرانيّةٍ.
أضف إلى ذلك أنّ الذّكاء الاصطناعيّ قد يقع أحياناً في فخّ الإيجابيّات أو السّلبيّات الزّائفة، لا سيّما في مجالاتٍ مثل اكتشاف الاحتيال أو تقييم الجدارة الائتمانيّة، ممّا قد يؤثّر سلباً على مصداقيّة القرارات الّتي يتّخذها. ولهذا السّبب، تبرز الحاجة الماسّة إلى وضع آليّاتٍ دقيقةٍ للتّحقّق من صحّة المخرجات، مع تعزيز الشّفافيّة في كيفيّة بناء النّماذج وضوابط استخدامها. ويعدّ الالتزام بالمبادئ الأخلاقيّة عاملاً جوهريّاً في طمأنة العملاء وتعزيز الثّقة بالنّظم المصرفيّة، لضمان تقديم خدماتٍ ماليّةٍ عادلةٍ وموثوقةٍ.
مستقبلٌ تصوغه تقنيّات الذّكاء الاصطناعيّ لا تقتصر رؤية دولة الإمارات على تبنّي الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ فحسب، بل تسعى إلى جعله ركيزةً أساسيّةً في مستقبلها الاقتصاديّ والتّكنولوجيّ. وتشير التّوقّعات إلى أنّ الذّكاء الاصطناعيّ، بحلول عام 2030، سيسهم بنحو 135 مليار دولارٍ في اقتصاد الإمارات، وهو رقمٌ يعكس العوائد الهائلة للاستثمار المستمرّ في البنى التّحتيّة الخاصّة بالذّكاء الاصطناعيّ.
وتدرك الإمارات أنّ تحقيق هذه الأهداف يتطلّب أكثر من مجرّد تبنّي التّكنولوجيا، إذ يتطلّب أيضاً تطوير المهارات البشريّة، والاستثمار في الكفاءات المحلّيّة، ودعم نموّ الشّركات النّاشئة المتخصّصة في هذا المجال. فمن خلال خلق بيئةٍ داعمةٍ للابتكار، ترسّخ الإمارات مكانتها كوجهةٍ عالميّةٍ رائدةٍ في قطاع الذّكاء الاصطناعيّ، وتسعى إلى توظيف هذه التّقنيّات لتوفير حلولٍ مستدامةٍ تعزّز من جودة الحياة وتفتح آفاقاً جديدةً للنّموّ.
عن الكاتب
أنبوكّاراسو أنامالاي هو رئيس قطاع التّقنيّات الرّقميّة والنّاشئة عالميّاً في مجالات المصارف والخدمات الماليّة والتّأمين لدى شركة "تاتا للخدمات الاستشاريّة" (Tata Consultancy Services)، الّتي تعدّ من أبرز مزوّدي خدمات تكنولوجيا المعلومات والاستشارات والحلول التّجاريّة، وتتمتّع بخبرةٍ تزيد على 56 عاماً في مواكبة أكبر المؤسّسات العالميّة في تنفيذ استراتيجيّاتها التّحوّليّة.