الرصاصة الذهبية: رهان مصر الأكبر على رواد الأعمال
تتأهّب مصر لتصبح المركز الرّياديّ الأبرز في منطقة الشّرق الأوسط وأفريقيا، لكنّ تحويل هذا الطّموح إلى واقعٍ يتطلّب خطواتٍ استراتيجيّةٍ حاسمةٍ.

تستيقظ، وتمسك بهاتفك وتبدأ بتصفّح الأخبار: "لقد تمّ اختيار مصر مرةً أخرى لتكون أفضل مركزٍ للشّركات النّاشئة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا". تُبرز العناوين إنجازاتٍ قياسيةً في عمليات الخروج التي حقّقتها الشّركات النّاشئة المصريّة، وقد أعلنت الحكومة للتّوّ عن مبادرةٍ بين القطاعين العامّ والخاصّ بقيمة عدة ملياراتٍ من الدّولارات في اقتصاد الفضاء الجديد. وتتابع قراءة الأخبار عن موجةٍ جديدةٍ من روّاد الأعمال الشّباب المبدعين الّذين يبرزون من أفضل المسرعات في القاهرة.
تدشّن البورصة المصريّة الطّرح العامّ الأوليّ لشركة ناوي (Nawy) – الأكبر منذ شركة "إم إن تي‑ حالاً" (MNT‑Halan) – ممهّدةً الطريق لارتفاعٍ كبيرٍ في الإدراجات من قبل الشّركات الأفريقية، بينما أغلق مؤشّر سوق التّكنولوجيا المصريّ عند أعلى مستوىً له على الإطلاق.
وفي الوقت نفسه، تطلق الجامعات والشّركات الخاصّة شراكاتٍ رائدةً في البحث والتطوير، وتضجّ شوارع المدينة بأحاديث عن الموسم التّاسع من "شارك تانك إيجبت" (Shark Tank Egypt).
لا، هذا ليس خيالاً علمياً – بل هو ما أؤمن أن مصر ستكون عليه في عام 2030. فعندما بدأت رحلتي الريادية قبل 25 عاماً، بعد تخرّجي من الولايات المتّحدة، كان مفهوم ريادة الأعمال أمراً غريباً في مصر؛ فلم تكن هناك شركات رأس مالٍ مغامرٍ، ولا أنظمة تنظيميّةٌ داعمةٌ، ولا أطرٌ ثقافيّةٌ تشجّع على المخاطرة.
واليوم، لم يكن تحوّل مصر في مجال ريادة الأعمال أقلّ من معجزةٍ؛ فقد ارتفع تمويل رأس مال المغامر إلى حوالي 500 مليون دولارٍ – أي أكثر من 25 ضعفاً؛ ممّا كان عليه في عام 2017. واليوم، يراهن أكثر من 20 شركةً لرأس مالٍ مغامرٍ محليّةٍ إلى جانب مستثمرين عالميّين على مصر. لم تعد ريادة الأعمال مجرّد شعارٍ، بل حركةٌ تعيد تشكيل الاقتصاد وتلهم الجيل القادم.
تقف مصر عند مفترق طرقٍ؛ على وشك أن تطلق الرّصاصة الذهبية الّتي قد تثبت مكانتها كمركزٍ رياديٍّ رائدٍ في منطقتي الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا.
لماذا الآن؟ مصر أمام لحظة التّوسع الحاسمة
تشبه منظومة ريادة الأعمال المصريّة اليوم تلك التي شهدتها أمريكا اللّاتينية في أوائل العقد الماضي؛ ففي ذلك الوقت، كانت شركاتٌ مثل ميركادو ليبري (Mercado Libre)، نوبانك (Nubank) وكريدتاس (Creditas) تقود موجةً من الابتكار، ممّا أطلق استثماراتٍ بمليارات الدّولارات، ووضع المنطقة في دائرة الضّوء العالميّ للتّكنولوجيا. واليوم، تستضيف أمريكا اللّاتينية شركاتٍ أحادية القرن مثل رابي (Rappi) ولوفت (Loft)، إلى جانب مراكز تقنيّةٍ مزدهرةٍ ودورات إعادة استثمارٍ للمواهب تدفع منظومتها إلى آفاقٍ جديدةٍ.
تقف مصر اليوم عند مفترق طرقٍ مشابهٍ؛ إذ تعمل الشّركات الناشئة المصريّة في أكثر من 15 دولةً، وأصبحت شركاتٌ رائدةٌ مثل فوري (Fawry) تتداول أسهمها في البورصة، وجمعت شركة "إم إن تي‑حالاً" حوالي 160 مليون دولارٍ العام الماضي وحده لتوسيع نشاطها الدّوليّ. كما أصبحت بايموب (Paymob) المزوّد الرائد للخدمات الماليّة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، بينما يبرز روّاد أعمالٍ مثل تاجر (Taager) و"ماكس أي بي" (MaxAB) كلاعبين إقليميّين رئيسيّين. إنّ الأساس الذي بُني – من عقدٍ تقريباً من التّمويل المنظّم لرأس مالٍ المغامرٍ – يؤتي ثماره.
ومع ذلك، لا تزال منظومة مصر في مراحلها الأولى من النّمو؛ إذ تسود جولات التّمويل الأوّليّ والتّمهيديّ، بينما تظلّ عمليّات التخارج الكبيرة قليلةً. فما هو التالي؟ طرحٌ عامٌّ أوليٌّ ضخمٌ واستحواذاتٌ بقيمةٍ عاليةٍ ستدفع عمليّات إعادة الاستثمار والإرشاد، ممّا يخلق تأثيراً مضاعفاً رياديّاً كبيراً عبر المنظومة.
نظرةٌ مستقبلية: مصر ومستقبل الشّركات الناشئة
على المدى البعيد، تستعدّ منظومة الشّركات الناشئة في مصر لنموٍّ كبيرٍ؛ حيث سيعيد المؤسّسون السّابقون استثمار خبراتهم، وسيدفع الموظّفون لإطلاق مشاريعهم الخاصة – وهي سمةٌ مشتركةٌ بين مؤسّسي الشّركات النّاشئة النّاجحة كما أظهرت أبحاث "مسارات مؤسّسي اليونيكورن" (Unicorn Founder Pathways) التي أجرتها إنديفور (Endeavor)، المجتمع العالميّ لروّاد الأعمال ذوي النموّ المرتفع. ستثمر هذه الدّورة من إعادة الاستثمار والإرشاد والخبرة المتراكمة عن جيلٍ جديدٍ من المؤسّسين المهرة وشركاتٍ أقوى، مما يؤهل مصر للتّنافس على الصّعيدين الإقليميّ والعالميّ.
وبحلول عام 2030، سيكون لدى مصر القدرة على جمع أكثر من 5 مليارات دولارٍ من رأس مالٍ المغامر، مما سيحفّز خلق فرص عملٍ، ويجذب المواهب العالميّة، ويساهم بشكلٍ كبيرٍ في النّموّ الاقتصاديّ. لكن، ما الذي يجعل مصر قادرةً بشكلٍ فريدٍ على قيادة هذه المسيّرة؟
الميزة الذّهبيّة لمصر: شعبها
يكمن أعظم أصول مصر في صلابة شعبها. فمن خلال عملي كمديرٍ إقليميٍّ لمنطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا في إنديفور، التقيت وعملت مع روّاد أعمالٍ من كلّ أنحاء العالم، ويمكنني القول بثقةٍ إنّ روّاد الأعمال المصريّين يمتلكون عزيمةً فريدةً لا مثيل لها محفورةً في جيناتهم. رغم عقود الاضطرابات السّياسيّة والاقتصاديّة، بنوا شركاتٍ مزدهرةً ومنظومةً لا تقبل الاستسلام.
وبفضل هذه الصّلابة ووفرة الشّباب المطّلعين على التّكنولوجيا، أصبحت مصر في موقعٍ فريدٍ لتكون بوابةً لمنطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل وللعالم بأسره. تختار شركاتٌ مثل اليونيكورن الجزائريّ يسير (Yassir)، والعملاق السّعوديّ في التّكنولوجيا الماليّة تابي (Tabby) مصر كمركزٍ رئيسيٍّ للتّوظيف، مستفيدةً من تجمّع المواهب المتزايدة. كما توسّع عمالقةٌ إقليميّون مثل كريم (Careem)، فودكس (Foodics) وطلبات (Talabat) عملياتهم بنجاحٍ داخل مصر. لكن هذه ليست سوى البداية؛ إذ تمتلك مصر القدرة على أن تتحوّل إلى قوةٍ إقليميّةٍ – منصّة انطلاقٍ لشركات البرمجيّات العالميّة والمبتكرين في مجال التّكنولوجيا.
ومع ذلك، فإنّ الإمكانات الرّياديّة وحدها لا تكفي للنّجاح؛ إذ يجب على مصر اتّخاذ خطواتٍ استراتيجيّةٍ حاسمةٍ لإطلاق هذا الإمكان وتحويلها إلى محورٍ للابتكار.
الطّريق إلى الأمام: ما تحتاجه مصر الآن
لن يتحقّق النّجاح بالصّدفة؛ فكما اختارت الشّركات النّاشئة مدناً مثل دُبلن (Dublin) وبرلين (Berlin) بفضل سياساتٍ ضريبيّةٍ مشجعّةٍ وقوى عاملةٍ ماهرةٍ، يجب على مصر خلق منظومةٍ داعمةٍ مماثلةٍ. وهناك حاجةٌ ملحّةٌ للعمل في ثلاثة محاور رئيسيةٍ لتمكين مصر من إطلاق الرّصاصة الذّهبية بفعاليةٍ:
تنظيماتٌ واضحةٌ ومبسّطةٌ
يحتاج روّاد الأعمال إلى إطارٍ تنظيميٍّ شفافٍ وفعّالٍ؛ تبسيط إجراءات التّرخيص والامتثال، وإنشاء أنظمةٍ فعّالةٍ سيزيل العوائق ويسرّع الابتكار. الإفراط في التّنظيم يعيق الابتكار.
تطوير المواهب
يجب على مصر الاستثمار في رأس مالها البشريّ؛ فتحفيز روّاد الأعمال الأجانب وتسهيل تصاريح العمل سيجذب المواهب العالميّة. وفي الوقت ذاته، ستجهّز برامج تنمية المهارات في الذّكاء الاصطناعيّ والتّقنيّات النّاشئة القوى العاملة المحليّة لمستقبلٍ يرتكز على الابتكار.
الشّراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ
إنّ التّعاون الوثيق بين الحكومة والقطاع الخاصّ أساسيٌّ لبناء منظومةٍ مزدهرةٍ وتحريك رؤوس الأموال الّتي تحتاجها مصر للنّموّ. فبتوفير الاستقرار، تعزّز هذه الشّراكات الثّقة والمصداقيّة، ممّا يجذب رؤوس الأموال المحليّة والأجنبيّة. كما أنّ الاستثمارات الاستراتيجيّة في التّكنولوجيا والبنية التّحتيّة ستخلق مساراً واضحاً لتدفّق رأس المال نحو الشّركات النّاشئة المبتكرة، وتوسيع الأعمال، ودفع عجلة التّنمية الاقتصاديّة.
يجب أن تقرن هذه الجهود بسردٍ وطنيٍّ قويٍّ يرفع مستوى الوعي بالقوّة التّحويليّة لريادة الأعمال، ويبرزها كركيزةٍ أساسيّةٍ للتّنمية الاقتصاديّة. فالتّصور العامّ له أهميّةٌ بالغةٌ؛ إذ عندما تتكاتف الحكومات والمستثمرون والمجتمع حول ريادة الأعمال، تزدهر المنظومات.
في دوري الجديد كمستشارٍ لرئيس الوزراء لشؤون ريادة الأعمال، أسعى لتحقيق ذلك ضمن إطارٍ وطنيٍّ موحّدٍ يجمع جميع الأطراف الرّئيسية حول رؤيةٍ مشتركةٍ لريادة الأعمال ومستقبل مصر.
عندما بدأت رحلتي الرّياديّة منذ سنواتٍ طويلةٍ، لم أكن لأتخيّل مدى جمال هذا التّحوّل. واليوم، تقف ريادة الأعمال في مصر عند مفترق طرقٍ حاسمٍ؛ فقد تمّ تحميل الرّصاصة الذّهبيّة – لكنّ الطّلقة يجب أن تكون دقيقةً واستراتيجيّةً ومدروسةً.
هذا هو المستقبل الذي أؤمن أنّ مصر ستحقّقه في عام 2030؛ مستقبلٌ ينبض بالإبداع والابتكار، ويعيد تشكيل اقتصاد البلاد ليصبح منارةً للتّقدّم في المنطقة والعالم.
نبذة عن المؤلف
عمرو العبد العضو المنتدب لشركة Endeavor، ومستشار رئيس الوزراء لشؤون ريادة الأعمال في مصر.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في عدد يناير/فبراير من مجلة "عربية .Inc". لقراءة العدد كاملاً عبر الإنترنت، يُرجى النقر هنا.