بين السّرعة والبقاء: تحدّيات الشّركات النّاشئة
الشّركات النّاشئة لا تسقط فجأةً، بل تخسر ببطءٍ بسبب بطء السّرعة وغياب الزّخم، حتى تأتي لحظة الانهيار الحتمية
تنهار الشّركات النّاشئة بطريقتين: تدريجيّاً، ثمّ فجأةً. تجسد هذه العبارة، المستوحاة من رواية "الشّمس تشرق أيضاً" لهمنغواي، الطّريقة الّتي تنهار بها معظم الشّركات النّاشئة. يبدأ سقوطها بخطواتٍ صغيرةٍ وغير ملحوظةٍ، مثل: تفوّيت الفرص، تأجّيل القرارات، أو تعثّر التّنفيذ. ثمّ تأتي لحظةٌ فاصلةٌ، ويتسارع الانهيار كأنّه حدثٌ بين عشيّةٍ وضحاها.
كثيراً ما يسألني الأصدقاء، والعائلة، وخصوصاً زوجتي: لماذا أرهق نفسي بهذا الشّكل؟ لماذا أعمل لساعاتٍ مجنونةٍ؟ لماذا أواصل السّهر ليالٍ طويلةٍ؟ ولماذا أضع العمل في مقدّمة أولويّاتي؟ وفي هذا المقال سأقدم لكم إجابتي.
تنهار الشّركات النّاشئة، أو تنمو بناءً على سرعتها. إذ تسعى لتحقيق إنجازٍ هائلٍ وهو: بناء شركةٍ بملياراتٍ من الدّولارات خلال سنواتٍ قليلةٍ بدلاً من عقودٍ طويلةٍ. حيث يتحتّم أن يتحرّك كلّ شيءٍ بسرعةٍ تفوق العالم الخارجيّ بنحو سبع مرّاتٍ.
ما تأثير السّرعة على نموّ الشّركة؟
تتضاعف تأثيرات السّرعة بشكلٍ كبيرٍ. حيث من الممكن أن يتحوّل يومٌ واحدٌ من التّأخير إلى أسبوعٍ من العثرات عندما تعتمد الفِرق على بعضها البعض. كما يظهر هذا التّأثير المضاعف بشكلٍ أوضح لدى القادة، وخصوصاً المؤسّسين المشاركين والرّؤساء التنفيذيّين، إذ يكونون الأساس في تحديد وتيرة العمل للمنظّمة بأكملها.
ومؤخّراً، التقيت بالرّئيس التّنفيذيّ المؤسّس لشركةٍ قيمتها الآن 80 مليار دولارٍ، ويتمّ تداولها علناً في البورصة. أوضح لي كيف قضى عقوداً كأوّل من يصل إلى المكتب وآخر من يغادر. في ذاك الوقت، وقبل انتشار العمل عن بعدٍ، كان التّواجد في المكتب يمثّل مقياساً واضحاً للالتزام والعمل الجادّ. فلم يكن تفانيّه فقط لتحسين إنتاجيّته الشّخصيّة، بل كان هدفه أيضاً أن يلهم الفريق بأكمله، ويضع مثالاً يحتذى به في الالتزام.
فأنا مؤمنٌ بشدّةٍ بأهمّيّة العمل الجادّ، ليس كقيمةٍ مجرّدةٍ، بل كشرطٍ أساسيٍّ للنجاح. رغم أن الموهبة أمرٌ حاسمٌ، وأنّ الأشخاص الاستثنائيّين لا يقدّرون بثمنٍ، إلّا أنّك ببساطةٍ لن تفوز إلّا إذا تفوّقت على منافسيك بالعمل المتواصل. وهذا صحيحٌ حتّى إذا لم يكن منافسك شركةً حقيقيّةً، بل كان الوضع الرّاهن بحدّ ذاته.
ومن جهةٍ أخرى. هناك حقيقةٌ عليك معرفتها جيّداً "كلّ يومٍ لا تجري فيه نحو الأمام، يمضي العالم قُدماً من دونك". حيث تؤدّي كلّ لحظةٍ من التّردّد إلى فقدان الزّخم، وتفويت الفرص في السّوق، وتراجع الثّقة من العملاء والمستثمرين. نادراً ما تسقط الشّركات النّاشئة بسبب أحداثٍ كارثيّةٍ، بل تختفي تدريجياً؛ لأنّها تفتقر إلى السّرعة اللّازمة لاستعادة الزّخم، ثمّ تدرك فجأةً أنّها أصبحت غير قادرةٍ على ذلك.
ومع ذلك، لا يجب أن يعني العمل الجادّ تدمير الذّات وإرهاقها. في شركتي، نحرص على تحقيق التّوازن بين الشّعور بالعجلة وبين قيمتين أساسيّتين أخريين: رفاهية الفريق والنّزاهة في العمل. رغم أنّني أضع شركتي في مقدّمة أولويّاتي بعد الأسرة، فإنّني أؤمن بشدّةٍ بأهمّيّة الحفاظ على الصّحّة العقليّة والنّفسيّة والجسديّة. فالإرهاق لا يعود بالنّفع على أحدٍ.
لا يغيّر التّوازن بين العمل الجادّ والرّفاهية الحقيقة الأساسيّة: تعتمد الشّركات النّاشئة بشكلٍ رئيسيٍّ على السّرعة في اتخاذ القرارات واغتنام الفرص. فعندما تفشل شركةٌ ناشئةٌ في التّحرّك بسرعةٍ، تستمرّ في فقدان الزَّخم تدريجيّاً، وتُفوّت الفرص واحدةً تلو الأخرى، ويبدأ التأثير السلبيّ في التراكم. ومع مرور الوقت، يصل هذا التّأثير إلى نقطةٍ حرجةٍ تجعل الشّركة تتراجع فجأةً، وتخرج من المنافسة، لأنّ الآخرين سبقوها في السّوق. ما تعلّمته من هذه الحقيقة هو أن السّرعة والإلحاح ليسا مجرّد أدواتٍ للنّجاح، بل هما ضرورةٌ للبقاء في عالم الشّركات النّاشئة.