لماذا قد يكون البحث عن السعادة خادعاً؟
التّفكير المستمرّ في السعادة يجعلنا نركّز على ما نفتقده، بينما الفرح هو حالةٌ ذهنيّةٌ غير مشروطةٍ يمكننا تنميتها بغضّ النّظر عن الظّروف

إذا سألت معظم روّاد الأعمال عن سبب اجتهادهم اليوميّ في العمل، فستكون الإجابة في جوهرها: السعادة. نعم، نحن نبني الشّركات لزيادة الثّروة وتحسين مجتمعاتنا، ولكن الهدف النّهائيّ لكثيرٍ من أصحاب الأعمال هو خلق حياةٍ سعيدةٍ. قد يبدو هذا منطقيّاً تماماً، ولكن هل هو حقّاً الطّريق الصّحيح؟ وفقاً لعلماء النّفس، قد يكون سعينا الحثيث وراء السّعادة هو ما يجعلنا نشعر بعدم الرّضا، وأنّه سيكون من الأفضل لنا لو سعينا وراء الفرح بدلاً من ذلك.
قبل أن نناقش الفرق بين السّعادة والفرح، يجب أن نطرح سؤالاً أساسيّاً: ما الخطأ في السّعي وراء السّعادة؟ ببساطةٍ، يبدو أنّ محاولتنا المستمرّة لتحقيقها تؤدّي إلى نتيجةٍ عكسيّةٍ. لننظر إلى الولايات المتّحدة اليوم، هل هي حقّاً أمّةٌ سعيدةٌ؟ رغم أنّها بلدٌ مزدهرٌ ومبتكرٌ ومتعدّد الثّقافات، إلّا أنّها لا تتصدّر قائمة الدّول الأكثر سعادةً. في الحقيقة، وفقاً لتصنيف السّعادة العالميّ لعام 2024، تراجعت أمريكا إلى المرتبة 23، وهو تصنيفٌ غير مبشّرٍ.
والأمر لا يقتصر على الإحصائيّات العالميّة، فحتّى البيانات المحلّيّة تؤكّد هذه الحقيقة. وفقاً لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية (Centers for Disease Control and Prevention)، تعاني الولايات المتّحدة من أزمةٍ حادّةٍ في الصّحّة النّفسيّة تشمل جميع الفئات العمريّة، حيث تشير الأرقام إلى زيادة معدّلات القلق والاكتئاب بشكلٍ ملحوظٍ.
الأسباب معقّدةٌ ومتعدّدةٌ، بدءاً من السّياسة والاقتصاد وحتّى تأثير التّكنولوجيا، ولكن هناك خطأٌ جوهريٌّ في طريقة تفكيرنا حول السّعادة وسعينا لتحقيقها، وهو ما قد يكون جزءاً من المشكلة.
لماذا قد يكون السعي وراء السعادة مضرّاً؟
يعرف النّاس عامةً، وخاصّةً روّاد الأعمال، بطموحهم الكبير. وقد أضاف الكثيرون "أن أكون سعيداً" إلى قائمة أهدافهم الشّخصيّة، لكن الأبحاث تشير إلى أنّ السّعادة تشبه كائناً خجولاً في الغابة؛ كلّما طاردته، ابتعد أكثر.
وفي دراسةٍ حديثةٍ أجرتها "جامعة كاليفورنيا" (University of California) في بركلي ونيورك وتورونتو، تابع الباحثون 1800 شخصٍ بانتظامٍ لرصد مزاجهم، وكانت النّتيجة مدهشةً: كلّما فكّر المشاركون في مدى سعادتهم، كانوا يشعرون بمستوياتٍ أقلّ من السّعادة.
لكن لماذا يحدث هذا؟ توصّل العلماء إلى أنّ التّفكير المستمرّ في السّعادة يدفعنا للتّركيز على ما نفتقده، ممّا يجعل أيّ مشاعر سلبيّةٍ عابرةٍ أو خيبات أملٍ صغيرةٍ تبدو أكبر ممّا هي عليه. وكما تقول الباحثة فيليشا زيراوس: "عندما نحلّل اللّحظات الإيجابيّة، ونتعلّق بجوانبها غير المثاليّة، فإنّنا نفسدها في النّهاية".
ليس هذا فقط، بل إنّ الانشغال بالسّعي وراء السّعادة يشتّت انتباهنا عن الأمور الّتي تجلب لنا الرّضا الحقيقيّ، مثل: الشّعور بالمعنى والهدف. وهذا ما أكّده خبراء، مثل: آرثر بروكس من "جامعة هارفارد" (Harvard University)، ودانيال كانيمان الحائز على جائزة نوبل، وعالم النّفس التّنظيميّ الشّهير آدم جرانت.
الفرح مقابل السعادة: لماذا عليك السّعي وراء الفرح؟
هنا يكمن الفرق بين السّعادة والفرح. غالباً ما نلمّ أنفسنا لعدم شعورنا المستمرّ بالسّعادة، ولكن حتّى أكثر الأشخاص طموحاً لا يتوقّعون أن تكون حياتهم مليئةً بالفرح طوال الوقت. حيث تتعلّق السعادة بكيفيّة تقييمنا لحياتنا بشكلٍ عامٍّ، أمّا الفرح فهو إحساسٌ لحظيٌّ، اندفاعٌ مفاجئٌ من المتعة يحدث عندما يتلاقى التّحفيز المناسب مع عقلٍ متقبّلٍ ومسترخٍ. وهذا ما يجعل السّعي وراء الفرح خياراً أكثر صحّةً، وفقاً للدكتور أمير ليفين، الطّبيب النّفسيّ وأحد مؤسّسي "بهفا ثيرابي غروب" (Bhava Therapy Group) في نيويورك.
كما يقول ليفين في "سايكولوجي تودي" (Psychology Today): "تعتمد السّعادة على العوامل الخارجيّة، مثل: تحقيق هدفٍ معيّنٍ أو الحصول على مكافأةٍ، بينما الفرح هو حالةٌ ذهنيّةٌ غير مشروطةٍ، يمكننا تنميتها بغضّ النّظر عن الظّروف". وتضيف العالمة النّفسيّة الإيجابيّة أليسون بيشوب في "ذا كونفرسيشن" (The Conversation): "الفرح ليس شيئاً نجده خارج أنفسنا، بل هو مهمّةٌ داخليّةٌ".
كيف تهيّئ عقلك للفرح؟
إذا اقتنعت بأنّ السّعي وراء السّعادة قد يكون مضرّاً، وأنّ الانفتاح على الفرح هو خيارٌ أفضل، يبقى السّؤال: كيف يمكنك أن تصبح شخصاً أكثر ميلاً للفرح؟ في هذا السّياق يقدّم الخبراء بعض الطّرق العمليّة:
1. كن حاضراً في اللحظة
يمكن لأيّ شيءٍ أن يجلب الفرح -غروب الشّمس، وضحكة طفلٍ، ولحظة دفءٍ مع حيوانك الأليف- لكن لتشعر بهذه اللّحظات، عليك أن تكون حاضراً حقّاً، إذ يقول ليفين: "ركّز على اللّحظة الحاليّة، خذ جولة مشيٍ ولاحظ الأصوات والرّوائح من حولك". كما تنصح بيشوب: "اترك هاتفك جانباً أحياناً، وراقب العالم الحقيقيّ من حولك".
2. استمع إلى نفسك
نظراً لأنّ الفرح تجربةٌ شخصيّةٌ فريدةٌ، يجب أن تتعرّف على ما يجلب لك السّعادة الحقيقيّة، حيث تقول بيشوب: "تعلّم أن تصغي إلى ذاتك، فما يجلب الفرح لشخصٍ آخر قد لا يكون مناسباً لك".
3. ابحث عن التواصل الاجتماعي
لا تحتاج إلى أن تكون محاطاً بالنّاس طوال الوقت لتشعر بالفرح، ولكن التّواصل مع الآخرين غالباً ما يعزّز هذه المشاعر. كما تقول بيشوب: "عندما نكون مع أشخاصٍ يشبهوننا، يمكننا التّعبير عن أنفسنا بحرّيّةٍ". ويوصي ليفين بمشاركة الأنشطة المبهجة مع أحبّائك لتعزيز هذه المشاعر.
4. امنح نفسك وقتاً للعب
الحياة المزدحمة هي العدوّ الأوّل للفرح، إذ يشير ليفين إلى أنّ "إيجاد وقتٍ غير منظّمٍ، بعيداً عن الأجهزة الإلكترونيّة والمواعيد الصّارمة، يمكن أن يكون منعشاً"، فالإفساح المفتوح من اكتشاف ما يسعدنا دون ضغطٍ أو توقّعاتٍ.
قد يجعلك السّعي المستمرّ وراء السّعادة تشعر بالإحباط؛ لأنّه يركّز على ما تفتقده في حياتك، أمّا تنمية الفرح، فهي مسألة تقبّلٍ وانفتاحٍ، والاستمتاع بالحاضر دون أحكامٍ مسبقةٍ. فإذا كنت ترغب في تحسين صحّتك النّفسيّة ومواجهة التّحدّيات الحديثة، فربّما يكون الوقت قد حان لتتوقّف عن ملاحقة السّعادة، وبدلاً من ذلك، أن تفتح نفسك لمزيدٍ من الفرح.