سرُّ ستيف جوبز الغريب: كيف يقود الفراغ العشوائي إلى الإبداع؟
كشفت التّجربة أنّ لحظات الملل ليست عديمة الفائدة، بل تمثّل وقتاً نوعيّاً يسمح للعقل بإعادة بناء التّصورات وصياغة حلولٍ نابعةٍ من التّأمل الهادئ

لم أستطع القراءة؛ فقد نفدت بطاريّة الآيباد. لم تكن لديّ رغبةٌ في الدّخول إلى المنزل، ولا حتّى في النّهوض من مكاني. جلست هناك فقط، بلا حركةٍ. وبينما أنا على حالي هذا، وقعت عيناي على ذلك الجزء من الكثيب الرّمليّ، حيث اقترحت زوجتي سابقاً أن نضع طاولةً للنّزهات. وقتها، رفضت فكرتها تماماً؛ فقلت: "لا يوجد مكانٌ مستوٍّ لوضع الطّاولة، والأرض مليئةٌ بالشّجيرات، كما أنّها غير ثابتةٍ". لم أستغرق سوى لحظاتٍ حتّى أعدّت قائمةً طويلةً من الأسباب الّتي تجعل من فكرتها غير مجديةٍ. لطالما كُنتُ بارعاً في الرّفض.
لكن، وبما أنّني كنت أشعر بالملل، بدأت أعيد التّفكير في الموضوع. حيث قلت لنفسي: سأحتاج إلى تمهيد طريقٍ صغيرٍ، وتسوية الأرض، وتثبيت أعمدةٍ عميقةٍ في التّربة. كما أنّني سأبني جداراً بثلاثة جوانب مزوّداً بمصرفٍ فرنسيٍّ ليمنع انجراف الرّمال، ويصرّف مياه الأمطار. ومن الأفضل أن أستخدم ألواح تزيينٍ مركّبةً، نظراً لقساوة المناخ السّاحليّ.
بل ربّما أفكّر أيضاً في توصيل الكهرباء، ولكن هل تكفي 110 فولت؟ أم سأحتاج إلى 220؟ وخلال عشر دقائق فقط، كانت الخطّة كلّها مرسومةً في ذهني. واليوم، أصبح لدينا منصّةٌ أنيقةٌ في المكان ذاته. صحيحٌ أنّنا لا نستخدمها كثيراً، لكن لا بأس... لأنّ متعة الإنجاز بحدّ ذاتها كانت هي المكافأة الحقيقيّة.
لو كان ستيف جوبز مكاني، لما استغرب ممّا حدث لي، إذ يقول الكاتب آدم غرانت عن جوبز: "الفترات الّتي كان يقضيها جوبز في التّأجيل والتّفكير في احتمالاتٍ متعدّدةٍ، كانت في الواقع وقتاً ثميناً؛ لأنّها سمحت بظهور أفكارٍ متنوّعةٍ". أمّا جوبز نفسه، فقد قال في عام 1991:" أنا من المؤمنين الكبار بالملل. إذ يفتح الملل الباب أمام الفضول، ومن الفضول تتولّد كلّ الأشياء. كلّ هذه التّكنولوجيا رائعةٌ، لكن في بعض الأحيان، عدم وجود شيءٍ تفعله يكون أجمل ما في الأمر". في الحقيقة يبدو أنّ العلم يقف في صفّه.
علم الأعصاب والملل
في دراسةٍ نشرت عام 2011 في مجلّة "منز سانا مونوغرافس" (Mens Sana Monographs)، تحدّثت عالمة الأعصاب نانسي أندرياسن عن أوّل دراسةٍ أجرتها حول نشاط الدّماغ خلال ما وصفته بفترات "التّفكير العائم الحرّ"، وهو تماماً ما أسمّيه أنا "جلوسي على المنصّة، وأنا أشعر بالملل". وفي تلك اللّحظات، لا يكون الدّماغ خاملاً كما نظنّ، بل ينخرط فيما يعرف بـ"التّفكير الصّامت العرضيّ العشوائيّ" (REST).
وفي كتابها الصّادر عام 2005 بعنوان "الدّماغ المُبدع: علم الأعصاب وراء العبقريّة" (The Creating Brain: The Neuroscience of Genius)، كتبت أندرياسن أنّ الدّماغ خلال "التّفكير الصّامت العرضيّ العشوائيّ" يربط الأفكار والتّجارب ببعضها بنشاطٍ، ويستخدم أكثر أجزائه إنسانيّةً وتعقيداً لجمع المعلومات وتنظيمها في شبكةٍ مترابطةٍ.
وبصيغةٍ مبسّطةٍ: الملل شعورٌ غير مريحٍ، لذلك يحاول دماغك تلقائيّاً الهروب منه. فإن لم تلجأ إلى الهاتف، أو تشغل التّلفاز، أو تبحث عن أيّ وسيلةٍ خارجيّةٍ لتشتيت ذهنك -وإن اكتفيت فقط بالجلوس والشّعور بالملل- فإنّ دماغك سيتكفّل بالباقي.
سيبدأ بطرح أفكارٍ لا تخطر ببالك عادةً، وسيفتح أمامك آفاقاً جديدةً. كما سيشغلك بأفكارٍ ربّما تقودك إلى فعل شيءٍ لم تكن لتفكّر فيه أصلاً. وقد حدث لي هذا أكثر من مرّةٍ. كنت جالساً على الشّرفة أحدّق في الغابة أمامي، وفجأةً راودتني فكرة بناء منزلٍ للإيجار هناك ليساعد على تغطية مصاريف العقار. ومرّةً أخرى، وبينما كنت عالقاً في ازدحامٍ مروريٍّ، خطرت لي فكرةٌ لأسلوب استثماريٍّ جديدٍ. ومرّةً ثالثةً، كنت في المطار أشاهد المارّة، فخطرت لي فكرةٌ لكتابٍ جديدٍ.
لم أكن أبحث عن الإبداع، ولم أخصّص وقتاً للتّفكير أو التّأمّل. كنتُ فقط أشعر بالملل، وسمحت لنفسي أن أعيش الشّعور. وهنا تولّى عقلي المهمّة، وملأ الفراغات؛ فجرّب ذلك بنفسك. في المرّة القادمة الّتي تشعر فيها بالملل، قاوم الرّغبة في قتل الوقت بأيّ وسيلةٍ؛ فلا تمسك بهاتفك، ولا تشغّل شيئاً. فقط اجلس، واترك لنفسك المجال لتشعر بالملل.
بحسب أندرياسن، عقلك لن يتوقّف عن العمل، بل العكس تماماً، سيبدأ بالوميض في مناطق مختلفةٍ من دماغك، وتحديداً في شبكة الوضع الافتراضيّ (Default Mode Network)، والّتي تشمل:
• القشرة الجبهيّة الإنسانيّة.
• القشرة الحزاميّة الخلفيّة.
• التّلافيف داخل الفصّ الجداريّ.
• والحصين.
وحين تنشط هذه المناطق، يحدث تفاعلٌ مدهشٌ بين التّأمّل الذّاتيّ، والخيال، والذّاكرة الشّخصيّة، والتفكير الإبداعي. وهذا ما يفتح الباب أمام حلولٍ غير متوقّعةٍ، وأفكارٍ جديدةٍ، ولمحاتٍ من الإبداع الحقيقيّ. وهنا يصبح الملل ليس عيباً أو شعوراً يجب الهروب منه، بل أداةٌ ثمينةٌ تستحقّ أن نحتفي بها.
شاهد أيضاً: ستيف جوبز يكشف سرّ نجاح الأشخاص المتميزين