الصمت المهني: كيف يؤثر غياب الملاحظات الصادقة على العمل؟
الخوف من العواقب وضعف الثّقة بالقيادة يدفعان الموظفين إلى إخفاء آرائهم، ممّا يؤدّي إلى قراراتٍ غير دقيقةٍ قد تؤثّر سلباً على بيئة العمل وثقافة المؤسّسة

تعدّ الملاحظات الصّريحة والشّفّافة من أقوى الأدوات الّتي يمكن أن يمتلكها القائد؛ فهي تكشف بوضوحٍ ما يسير على ما يرام، وما يحتاج إلى تحسينٍ، وأين تكمن فرص التّطوير. ولكن، ماذا لو لم تكن هذه الملاحظات الّتي تصلك تعبّر عن الصّورة الحقيقيّة بالكامل؟
بحسب دراسةٍ جديدةٍ من شركة "فيزيير" (Visier)، فإنّ ما يقرب من نصف الموظفين (46%) لا يقدّمون ملاحظاتٍ صادقةً في بيئة العمل. إذ يخشى بعضهم من العواقب، بينما يعتقد آخرون أنّ القيادة لن تفعل شيئاً بملاحظاتهم؛ لذا لا يرون جدوى من الحديث. وفي الحالتين، تؤدّي هذه الفجوة إلى قراراتٍ تُبنى على معلوماتٍ ناقصةٍ وربّما مضلّلةٍ، ما يضعف فاعليّة القيادة، ويهدّد ثقافة الشّركة.
وهنا تبدأ المشكلة: عندما يفتقر القادة إلى فهمٍ واقعيٍّ ودقيقٍ لمزاج الموظّفين ومشاعرهم تجاه العمل، فإنّهم يعرّضون مؤسّساتهم لخطر تجاهل علاماتٍ مبكّرةٍ على الانفصال العاطفيّ، أو مشكلات الأداء، أو حتّى تدهور بيئة العمل؛ فمن دون ملاحظاتٍ صادقةٍ، يصبح بناء بيئة عملٍ صحّيّةٍ ومنتجةٍ مهمّةً شبه مستحيلةٍ.
غياب الأمان الوظيفي يدفع الموظفين لإخفاء الحقيقة
في الدّراسة الاستقصائيّةٍ الّتي أجرتها فيزيير على 1000 موظّفٍ أمريكيٍّ بدوامٍ كاملٍ، تمّ الكشف عن الأسباب الكامنة وراء تردّد الموظّفين في التّعبير عن آرائهم، وكيف يؤثّر ذلك سلباً على أماكن العمل، وما الّذي يمكن للقادة فعله لتشجيع حواراتٍ أكثر انفتاحاً وصدقاً.
عادةً ما يعدّل الموظّفون إجاباتهم على استبيانات التّفاعل السّنويّة أو استمارات الملاحظات الرّسميّة بناءً على مدى شعورهم بالأمان في العمل. فقد يتجنّبون ذكر إحباطاتهم، أو يختارون كلماتهم بعنايةٍ خوفاً من التّعرّض لأيّ ضررٍ أو انتقامٍ.
وهنا توضّح الدّكتورة أندريا ديرلر، كبيرة الباحثين في فيزيير، قائلةً: "لا يقول الموظّفون الحقيقة دائماً، إذ توضّح أبحاثنا أنّهم غالباً ما يقدّمون إجاباتٍ تتماشى مع ما هو مقبولٌ اجتماعيّاً، أو يتجاهلون إحباطاتهم، بل أحياناً يضلّلون فيما يتعلّق بمستويات التّفاعل، خصوصاً عندما يشعرون بأنّ وظائفهم مهدّدةٌ".
وتزداد هذه الظّاهرة بشكلٍ أكبر خلال فترات عدم الاستقرار، مثل حالات التّسريح أو إعادة الهيكلة. في مثل هذه الأوقات، يفضّل الموظّفون الصّمت بدلاً من الحديث عمّا يدور في أذهانهم. والنّتيجة؟ يعتقد القادة أنّ الأمور تسير على ما يرام، فيما يضيع هناك رؤى ثمينةٌ حول القوى العاملة، دون أن يلتفت إليها.
الحل يبدأ من الداخل
ولحلّ هذه المشكلة، لا يكفي الاعتماد فقط على الاستبيانات المجهولة، بل يجب أن يتحوّل القادة إلى قدوةٍ في الانفتاح والشّفافيّة، ويشجّعوا المحادثات الصّريحة، ويوفّروا قنواتٍ واضحةً لملاحظاتٍ تؤدّي فعليّاً إلى تغييراتٍ ملموسةٍ، إذ إنّ بناء ثقافة عملٍ آمنةٍ للتّعبير عن الرّأي هو حجر الأساس لأيّ تحسينٍ حقيقيٍّ ومستدامٍ.
لماذا لا تكفي الاستبيانات وحدها؟ حتّى عندما يقدّم الموظّفون ملاحظاتٍ تبدو صادقةً، فإنّها قد لا تعكس الواقع بدقّةٍ؛ لأنّ هذه البيانات تُجمَع من خلال تقارير ذاتيّةٍ، وهنا تعلّق ديرلر قائلةً: "تدّعي الاستبيانات المصمّمة باحترافٍ أنّها تقدّم رؤىً حول رضا الموظّفين، وإنتاجيّتهم، والمزاج العامّ، ولكن هناك مشكلةٌ جوهريّةٌ: تعطي هذه الاستبيانات فقط إشاراتٍ عامّةً عن الاتّجاهات، ويجب على القادة أن يدركوا أنّ هذه الرّؤى ذاتيّةٌ ونوعيّةٌ، يمكنها دعم القرارات، ولكنّها لا تغني أبداً عن البيانات الصّلبة".
فقد يُظهر أحد الاستبيانات أنّ نسبة التّفاعل مرتفعةٌ، ولكن على أرض الواقع، ترتفع معدّلات استقالة الموظّفين وتنخفض الإنتاجيّة. وهنا، تظهر الفجوة؛ فالقادة بحاجةٍ إلى التّحقّق من مشاعر الموظّفين من خلال بياناتٍ حقيقيّةٍ تشمل اتّجاهات الاحتفاظ بالموظّفين، وقياسات إنتاجيّة الفرق، وغيرها من المؤشّرات العمليّة الّتي تفضح المشاكل قبل أن تتفاقم.
وتؤكّد ديرلر: "يكمن الحلّ في استخدام بياناتٍ مباشرةٍ وواقعيّةٍ من بيئة العمل والأفراد، للوصول إلى فهمٍ أكثر دقّةً وموضوعيّةً؛ فمن المثاليّ أن تعتمد هذه التّحليلات على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوفير رؤىً دقيقةٍ وسريعةٍ، تُتيح للقادة اتّخاذ قراراتٍ مستندةٍ إلى حقائق مدروسةٍ بعمقٍ".
عندما تدمج الملاحظات الشّخصيّة مع تحليلات القوى العاملة المدعومة بالبيانات، تصبح الرّؤية أوضح وأكثر دقّةً، ممّا يمكّن القادة من اتّخاذ قراراتٍ واثقةٍ وفعّالةٍ تدفع بالمنظّمة إلى الأمام.
حين يغيب الأثر، يصمت الموظف
لا تنتهي المشكلة عند الإدلاء بالملاحظات؛ فحتّى عندما يتحدّث الموظّفون، إنّهم في كثيرٍ من الأحيان لا يثقون بأنّ القيادة ستتّخذ إجراءاتٍ فعليّةً بناءً على ما سمعته.
وبحسب الدّراسة، فإنّ %36 من الموظّفين يعتقدون أنّ ملاحظاتهم لن تؤدّي إلى تغييراتٍ حقيقيّةٍ. ومع مرور الوقت، إذا لاحظ الموظّفون أنّ ملاحظاتهم تهمل باستمرارٍ، فإنّهم سيفقدون الحافز للمشاركة في أيّ استبيانٍ أو نقاشٍ مستقبليٍّ. يمكن للقادة سدّ هذه الفجوة من خلال الشّفافيّة الكاملة بشأن كيف تستخدم الملاحظات في صناعة القرار داخل الشّركة. وحتّى لو لم يكن بالإمكان تنفيذ بعض الاقتراحات، فإنّ شرح الأسباب بوضوحٍ يبني الثّقة، ويشجّع على التّفاعل مستقبلاً.
الشركات التي تنصت تنجح
بدون ملاحظاتٍ صادقةٍ، تتحوّل المشاكل الصّغيرة إلى أزماتٍ كبيرةٍ؛ فالقادة الّذين يكتفون بما يقال على السّطح، دون التّعمّق في الأسباب الحقيقيّة، يخاطرون بتجاهل رؤى أساسيّةٍ تؤثّر على الأداء والتّفاعل والاحتفاظ بالموظّفين.
لا تقتصر الملاحظات الجيّدة على جمع الآراء، بل هي وسيلةٌ لبناء الثّقة، واكتشاف الأفكار المهمّة، وإحداث تغييراتٍ فعليّةٍ؛ فعندما تجمع الشّركات بين آراء الموظّفين والبيانات الواقعيّة، وتشجّع الحوار المفتوح، وتظهر بوضوحٍ أنّ ملاحظات الموظّفين تؤدّي إلى نتائج حقيقيّةٍ، ستبني فريقاً أقوى وأكثر التزاماً.
الموظّفون يريدون التّعبير عمّا يشعرون به، ويبقى الدّور الأهمّ على القادة: أن يصغوا بإخلاصٍ، ويحوّلوا تلك الكلمات إلى تغييرٍ حقيقيٍّ يحسّن من بيئة العمل.