الشركات في المنطقة تتبنّى برامج الصحة العقلية
كيفية تقليل وصمة العار المرتبطة بالمرض العقلي في مكان العمل
المؤلّف: سلمى الشرفاء
لتطويرِ ثقافةِ عملٍ تُولي اهتماماً خاصّاً بالصحة النفسية، من الضّروريّ توافرُ عدّةِ عناصرَ أساسيّة. أوّل هذه العناصرِ هو التزامُ القيادةِ، حيثُ ينبغي على القادةِ والمسؤولين التّنفيذيّين أن يدعمُوا ويُشجّعُوا مُبادراتِ الصحة النفسية بشكلٍ علنيٍّ، وأن يكُونوا نموذجاً إيجابيّاً يُحتذى به في جميعِ أقسامِ وأروقةِ المُنظّمةِ.
من الضّروريّ أيضاً التّركيزُ على التّعليمِ ورفعُ مُستوى الوعي، مع تقديمِ برامجَ تدريبيّة في مجالِ الصحة النفسية لجميع الموظّفين على مختلفِ مُستوياتهم، بهدف تقليلِ الوصمةِ المرتبطةِ بالمشاكلِ النّفسيّةِ وتمكينِ الموظّفين من دعمِ زملائهم الّذين قد يواجهون تحدّياتٍ نفسيّةٍ. ويعدُّ توفيرُ سياساتٍ واضحةٍ بشأنِ الصّحةِ النّفسيّةِ وتقديمُ المواردَ الّتي يسهُل الوصُولُ إليها، مثل: برامجِ مُساعدةِ الموظّفين، أمراً حاسماً في توفيرِ الدّعمِ والاستشارةِ للمخاوفِ النّفسيّةِ، سواء كانت شخصيّةً أو مُتعلّقةً بالعملِ. كما ينبغي على الشّركاتِ ضمانُ تغطيةِ خدماتِ الصحة النفسيةِ بشكلٍ كافٍ في التّأمينِ الصّحيّ الخاصّ بها والتّواصلُ بشكلٍ فعّالٍ مع الموظّفين حول هذه المزايا.
تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحولاتٍ ملموسة
لفتَ انتباهي مؤخّراً تزايدُ اهتمامِ المؤسّساتِ في منطقةِ الشّرقِ الأوسط وشمالِ أفريقيا بالصحة النفسية. هناك تنامٍ ملحوظٌ في الوعي بأهميّةِ الصّحةِ العقليّةِ، وباتت الشّركاتُ تدركُ أنّ منافعَ تهيئةِ بيئةِ عملٍ تحافظُ على الصحة النفسية للموظّفين لا تقتصر على رفاهيتهم فحسبُ، بل على الأداءِ العامِّ للمؤسّسةِ. ومن خلال تجربتي مع عدّةِ منظّماتٍ في منطقتنا، لاحظتُ جهوداً فعّالةً لتفعيلِ برامجِ العنايةِ بالصّحةِ النّفسيّةِ، ما يعبّرُ عن التزامها بخلقِ بيئاتِ عملٍ داعمةٍ تمكّن الموظّفين من النّموّ والتّطوّرِ على الصّعيدين الشّخصيّ والمهنيّ. يمثّلُ هذا التحوّلُ خطوةً إيجابيّةً بارزةً في توجهِ منطقتنا نحو تحسينِ رفاهيةِ الموظّفين، متواكباً مع الإدراكِ المجتمعيّ المتزايدِ لأهميّةِ الصّحةِ النّفسيّةِ.
اعتناق الحوارات المفتوحة
من الضّروري تنميةُ قنواتٍ تواصلٍ مفتوحةٍ وغير متحيّزة لتهيئةِ بيئةِ عملٍ تمنحُ الموظّفين الشّعورَ بالأمانِ عند طرحِ قضاياهم النّفسيّةِ مع المشرفين، قسمُ المواردِ البشريةِ، أو زملائهم. إذ يسهمُ تعيينُ أو تأهيلُ أفرادٍ مختصين بالصحة النفسية في تعزيزِ الوعي وتقديمِ الدّعم بين الأقرانِ، كما أنّ اللّقاءاتِ الفرديّة المنتظمة بين المدراءِ وأعضاءِ الفريقِ، الّتي تتناول جوانبَ العملِ والرّفاهيةِ معاً، تساهمُ في بناءِ جسورِ الثّقةِ وتعزيزِ روحِ الانفتاحِ.
cottonbro تصوير استوديو
الموازنة بين العمل والصحة النفسية
وفي الختامِ، يجدرُ بأصحابِ العملِ أن يقلّلوا من تشجيعِ العملِ الإضافيّ الزّائدِ وينادوا بضرورةِ التّوازنِ الصّحيّ بين الحياةِ المهنيّةِ والشّخصيّةِ، مع تشجيعِ استغلالِ أيّامِ الإجازاتِ. يؤدّي تطبيقُ برامجٍ لتقليلِ التّوترِ وجلساتِ التّأملِ، أو مبادراتِ العافيةِ داخلَ مكانِ العملِ، إلى ترسيخِ منهجٍ شاملٍ للعنايةِ بالصحة النفسيةِ، ما يضمنُ للموظّفين الشّعورُ بأنّهم محلُ تقديرٍ ودعمٍ، ويمنحهم القدرةَ على إعطاءِ الأولويةِ لصّحتهم النّفسيّةِ بما يوازي مسؤولياتهم المهنيّة.
برامج اليقظة الذهنية
لبرامجِ العافيةِ النّفسيّةِ قدرةٌ تحويليّةٌ فريدةٌ على ثقافةِ المؤسّسةِ، إذ تُرسي أجواءً مفعمةً بالدّعمِ والرّفاه وارتفاعٍ في مستوياتِ الإنتاجيّةِ. تلك المبادراتُ تعملُ على تفكيكِ الصّورةِ النّمطيّةِ المرتبطةِ بمسائلِ الصحة النفسية، وتنشئ ثقافةً مبنيةً على الانفتاحِ والتقبّلِ، بحيث ينعمُ الموظّفون بالأمانِ النّفسيّ عند بحثهم عن رفاهيتهم العقليّةِ. وهذه البرامجُ تمكّنُ الأفرادَ من الحصولِ على المعرفةِ والأدواتِ اللّازمةِ لدعمِ أنفسهم وزملائهم، معزّزةً بذلك الشّعور بالمسؤوليّةِ المشتركةِ.
بالإضافةِ إلى ذلك، تسهمُ هذه البرامجُ في تعزيزِ روحِ المعنوياتِ لدى الموظّفين وزيادةِ مشاركتهم، ممّا يؤدّي إلى تعزيزِ الولاء والرّضا الوظيفيّ، ويكون له تأثيرٌ إيجابيّ ملموسٌ على ثقافةِ العملِ. كما أنّ تحسّنَ الصحة النفسية يقودُ إلى ارتفاعٍ في الإنتاجيّة وانخفاضٍ في معدّلاتِ الغيابِ، مساهماً في خلقِ ثقافةٍ تقومُ على الكفاءةِ والفعاليّةِ. وباختصارٍ، تُضفي برامجُ العافيةِ النّفسيةِ على ثقافةِ المؤسّسةِ طابعَ التّعاطفِ، والشّموليّةِ، والمرونةِ، محقّقةً منافعَ جمّةً لكلٍّ من الموظّفين والمؤسّسةِ على حدٍّ سواءٍ.
شاهد أيضاً: التعاطف مع الذات دواء عجيب للصحة النفسية يمكن أن يساعدك في أمور كثيرة
ثقافة الشمولية تُحفّز الإنتاجية المرتفعة
تُساهم العافيةُ النّفسيّةُ بشكلٍ مؤثّرٍ في تعزيزِ إنتاجيّةِ الفرقِ العمليّةِ. فالأفرادُ، عندما يتمتّعون بصحّةٍ نفسيّةٍ سليمةٍ، يصبحون أكثرَ قدرةً على التّحكّمِ في الضّغوطاتِ، وعلى التّركيزِ بصورةٍ أفضل، والتّعاون بكفاءةٍ. يتيحُ تطبيقُ البرامجِ الفعّالةِ لأعضاءِ الفريقِ فرصةً لبناءِ المرونةِ النّفسيةِ والتّعاملِ الأمثلِ مع تحديّاتِ أدوارهم.
كما تحثّ الثّقافةُ التي تولي اهتماماً للعافيةِ النّفسيّةِ على تواصلٍ مفتوحٍ وداعمٍ بين أعضاءِ الفريقِ. فالزّملاءُ الذين يجدون الرّاحةَ في مناقشةِ قضاياهم النّفسيّةِ يتمكّنون من الحصولِ على الدّعم والتّفهمِ من زملائهم، ممّا يخلقُ جوّاً من الألفةِ والثّقةِ داخلَ الفريقِ. ويؤدّي هذا التّحسينُ في التّواصلِ إلى تعزيزِ العملِ الجماعي، ومهاراتُ حلّ المشاكلِ، والتغلّبُ على الخلافاتِ، ممّا يعزّزُ من إنتاجيّةِ الفريقِ بشكلٍ ملحوظٍ.
وبالإضافةِ إلى ذلك، يميلُ الأفرادُ الذين يتمتّعون بصحّةٍ نفسيّةٍ متوازنةٍ إلى الشّعورِ برضا أكبر في عملهم، ويكون لديهم دافعيّةٌ أعلى، مما يعزّزُ من تفاعلهم والتزامهم بمهامهم. وهم كذلك أقلّ عرضةً للإصابةِ بالإرهاقِ، وهو ما قد يؤثّرُ سلباً على تناغمِ الفريقِ وإنتاجيتهِ.
الصورة بواسطة fauxels
القيادة بالمثال
يلعبُ القادةُ دوراً محوريّاً في حمايةِ صحّتهم النّفسيّة وصحّةِ فرقهم. فالرّيادةُ بالمثالِ تُعدّ عنصراً جوهرياً، حيث يؤكّدُ القادةُ التزامهم بالصحة النفسية من خلالِ ممارساتٍ مثل: أخذِ الاستراحاتِ، تدبير الضّغوطاتِ، والمحافظة على التّوازنِ بين الحياةِ العمليّةِ والشّخصيّةِ. إذ يمثّلُ هذا مصدرَ إلهامٍ للموظّفين لتقديمِ الأولوية لصّحتهم النّفسيةِ، ويشملُ خلقَ بيئةِ عملٍ داعمةٍ تعزّز التّعاطفَ والأمانَ النّفسيّ، حيث يقوم القادةُ بالاستماعِ الفعّالِ لمخاوفِ الموظّفين وتقديمِ الدّعمِ.
نظراً لكون القيادةِ قد تكوّن موقفاً منعزلاً، فإنّ السّعي وراءَ الدّعمِ من الأقرانِ والإرشادِ يعتبرُ أساسيّاً. إذ يسمحُ الارتباطُ بأولئك، الذين يدركون التّحدّياتِ الفريدة للقيادةِ، للقادةِ بتبادلِ الخبراتِ، ومناقشةِ إدارة الضّغوط، والحصولِ على المشورةِ. فتوفّر هذه الشّبكةُ الدّاعمةُ مكاناً آمناً للقادةِ لإعطاءِ الأولوية لصحّتهم النّفسية أثناء قيادتهم الفعّالةِ لفرقهم.
التنبّه لعلامات الإنهاك
يتجاوزُ التّعرفُ على علاماتِ الإنهاكِ أو الأمراضِ النّفسيّةِ لدى الموظّفين أو أصحابِ العملِ التّغيّراتِ السّلوكيّة الملحوظة. فالتّغيّراتُ العاطفيّةُ، كالانفعالِ المفرطِ، التقلّباتُ المزاجيّةُ، الحزنُ المستمرّ، أو الانفجاراتُ المفاجئةُ للغضبِ، قد تكون دلائلَ مهمّةً على مشاكلَ صحيّةً نفسيّةًٍ خفيّةً.
كذلك، قد يشيرُ الانخفاضُ الملحوظُ في الأداءِ الوظيفيّ، المتمثّلُ في الأخطاءِ المتزايدةِ، وعدمُ الالتزامِ بالمواعيدِ النّهائيّةِ، أو تراجعُ الإنتاجيّةِ، إلى تأثيرِ الإنهاكِ أو المرضِ النّفسيّ. الانعزالُ الاجتماعيّ، الذي ينطوي على عزلِ النّفسِ عن الزّملاءِ وتجنّبُ التّفاعلاتِ الاجتماعيّةِ، قد يشيرُ أيضاً إلى صراعاتٍ مع الصحة النفسية.
بالإضافةِ إلى ذلك، قد يدلّ الغيابُ المتكرّرُ أو غيرُ المبرّرِ، بما في ذلك أخذُ أيامٍ مرضيّةٍ أكثرَ من المعتادِ، على أنّ الموظّفَ يعاني من الإنهاكِ أو مشكلاتٍ صحيّةٍ. لذلك لا بد من التّعرّف على هذه العلاماتِ ومواجهتها بشكلٍ استباقيٍّ، باعتبار هذا خطوة مهمّة نحو تحسينِ الصحة النفسية في بيئة العمل، ممّا يساهمُ في خلقِ جوٍّ من الدّعمِ والتّفهمِ داخل المؤسّسةِ.