الصحة النفسية في العمل: استراتيجيات لبيئة عمل أكثر إنتاحية
كيف تتبنى الشركات مبادرات الصحة النفسية لتعزيز بيئات العمل، جذب المواهب المتميزة، وتعزيز الولاء والإنتاجية بين الموظفين
أكدت الدراسات وجود علاقة مباشرة بين صحة الموظفين النفسية وبين الإبداع والابتكار في محيط العمل. إذ إن توفير مزايا الرعاية النفسية والرفاهية الشاملة للموظفين يسهم في تعزيز الإنتاجية والأداء، ويخفض التكاليف المترتبة على خسارة المواهب والقدرات.
كما أظهر استطلاعٌ أجراه موقع Bayt.com، الرائد في مجال البحث عن العمل بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في العام 2022 أن نسبة 52% من الموظفين بالمنطقة قد فكروا مرة واحدة على الأقل خلال الاثني عشر شهراً السابقة للاستطلاع في ترك وظائفهم الحالية بحثاً عن توازن أفضل بين العمل والحياة الشخصية.
وقد كشف التقرير أنّ حوالي 23% من المشاركين في الاستطلاع أهملوا التزاماتهم الشخصية والعائلية بسبب العمل، وأن 47% من الموظفين يعملون ما بين 40 و60 ساعة أسبوعياً، في حين أن 86% منهم غالباً ما يضطرون إلى العمل لساعات إضافية أو العمل من المنزل. بالإضافة إلى ذلك، ذكر 19% من المستطلعين أنه من الصعب أخذ إجازات (مدفوعة الأجر أو غير مدفوعة الأجر) في وظائفهم الحالية.
لقد ألقت جائحة كوفيد-19 الضوء بقوة على أهمية العناية بالصحة النفسية وحمايتها، سواء داخل الأطر الوظيفية أو خارجها. ولحسن الحظ، تلاشت النظرة السلبية التي كانت تحيط بمناقشة قضايا الصحة النفسية في بيئة العمل. أصبح أرباب العمل الآن يدركون ضرورة اعتماد تغييرات جوهرية تؤيد مفهوم أن يكون الفرد على طبيعته أثناء أداء مهامه الوظيفية.
تُظهر الشركات التي تقدم مزايا صحية نفسية تحسناً ملموساً في نسب العودة إلى العمل، التي تتجاوز 50% بعد فترات الغياب بسبب المشكلات النفسية، وهذا ليس بالأمر الهين. إذ تُعد الإجازات المرتبطة بالصحة النفسية مسؤولة عن ما يقارب 70% من إجمالي تكاليف الإعاقات في مكان العمل.
"القيادة الملتزمة تشكل الأساس، حيث يقوم كبار المديرين بدعم وإعطاء الأولوية لمبادرات الصحة النفسية بشكل علني، مما يرسي مثالاً إيجابياً يُحتذى به في جميع أرجاء المنظمة"، كما تقول سلمى الشرفاء، الميسرة القيادية والمدربة التنفيذية لمجلة عربية .Inc.
الاهتمام بالصحة النفسية استثمارٌ رابحٌ للشركات
في ظل تنافسية سوق العمل، من المتوقع أن يستقطب أرباب العمل الذين يعطون الأولوية لمبادرات الرفاهية النفسية الكفاءات البارزة ويحتفظون بها. وقد كشفت دراسة أجرتها مؤسسة ماكنزي أن 60% من المشاركين من جيل الألفية يرون أن توافر الموارد النفسية يُعد عاملاً حاسماً عند اختيارهم لمكان العمل.
هذه النسبة ذاتها تقريباً أعلنت أنها تأخذ في الاعتبار مبادرات الصحة النفسية عند القرار بالاستمرار أو الرحيل عن العمل. وأفاد 91% من المستطلعين في استبيان نُشر بمراجعة هارفارد للأعمال في العام 2021 بأنهم يعتقدون أن من الضروري أن تدعم ثقافة العمل الصحة النفسية.
ورشة عمل للمستجيبين الأوائل للصحة النفسية
يشكل التعليم والتوعية بالصحة النفسية محوراً أساسياً في بناء بيئة عمل داعمة، حيث يُعنى التدريب المستمر بإزالة الوصمة عن الاضطرابات النفسية وتزويد الموظفين بالأدوات اللازمة لمساندة زملائهم. "من الجوهري أن نهيئ أرباب العمل والعاملين على حد سواء ليكونوا المستجيبين الأوائل في مواجهة الأزمات النفسية. يجب أن نكون يقظين لأدنى التغييرات في سلوكيات الأفراد؛ فالانعزال المفاجئ أو الحزن الذي يظهر على شخص كان معهوداً بالانبساط قد ينذر بمعضلة نفسية، ومن الضروري معالجتها بسرعة قبل أن تتفاقم"، هذا ما تشدد عليه يمنى خليل، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لـFirstAid Responders، في حديثها لمجلة عربية .Inc.
إن السياسات الصريحة والموارد المتاحة للرعاية النفسية، كبرامج المساعدة للموظفين، تعتبر ركيزة أساسية في تقديم الدعم والمشورة للتحديات النفسية التي قد تواجه الأفراد في الحياة الشخصية أو المهنية. من المهم أن تحرص الشركات على تغطية خدمات الصحة النفسية بشكل شامل ضمن برامج التأمين الصحي، وأن تضمن تواصل هذه الفوائد بفعالية مع الموظفين.
يجب علينا تعزيز بناء قنوات تواصل مفتوحة وخالية من التحيز، لتكوين بيئة يشعر فيها الموظفون بالأمان الكافي لطرح قضاياهم النفسية مع المشرفين أو زملاء العمل أو أعضاء قسم الموارد البشرية. تدريب أو تعيين ما يُسمى بـ"أبطال الصحة النفسية" يساهم في رفع الوعي وتقديم الدعم النفسي النظيري، في حين أن تنظيم جلسات التقييم الفردية المنتظمة بين المديرين والموظفين، التي تغطي الجوانب المهنية والشخصية، يعزز الثقة والانفتاح.
"على الأرباب أن يفسحوا المجال أمام التوازن الصحي بين الحياة المهنية والشخصية، وأن يشجعوا على استغلال أيام الراحة. تطبيق برامج لتخفيف الضغط، وجلسات التأمل، ومبادرات الرفاهية داخل المؤسسة ينمي نهجاً شمولياً للعناية بالصحة النفسية، مما يكفل للموظفين شعوراً بالتقدير والدعم، ويمكّنهم من إعطاء الأولوية لرفاهيتهم النفسية جنباً إلى جنب مع التزاماتهم الوظيفية"، كما أضافت الشرفاء.