الصحة النفسية في بيئة العمل: كُن عاقلاً وسط جنون المهام!
من الرّسائل المتدفّقة إلى الاجتماعات التي لا تنتهي، اكتشف كيف يُمكن أن تحافظَ على صحّتك النّفسيّة في بيئة العمل الحديثة
في عصر الاجتماعات الافتراضيَّة والشَّاشات الَّتي لا تُغلق، أصبحت الصحة النفسية في بيئة العمل تحدّيَّاً يُشبه محاولة العثور على زر "كتم الصَّوت" في اللَّحظة المناسبة، تبدو كمهمَّةٍ يوميَّةٍ شبه مستحيلةٍ، ومع ذلك علينا ألَّا ننسى صحتنا النَّفسيَّة تحت ضغوط العمل المتزايدة وسباقنا المستمرِّ لإنجاز المهامّ، فهي تبقى العامل الأساسيَّ الَّذي يساعدنا في الحفاظ على توازننا وسط كلِّ هذا الصَّخب، فكيف نستطيع الحفاظ عليها وسط هذه الضَّوضاء الصَّاخبة؟
تحسين الصحة النفسية في بيئة العمل عن بعد
تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل، خاصةً في العمل عن بعد، بات أمراً لا غنى عنه سواءً للشَّركات أو حتَّى للعامل نفسه، والَّذي يستطيع تعزيزها من خلال:
- حدّد حدوداً واضحةً بين العمل والحياة الشَّخصيَّة: أنشئ جدولاً يوميّاً يُحدِّد ساعات العمل وانتهِ من العمل في وقتٍ محدَّدٍ، وحاول أن تتجنَّبَ الانجراف في العمل خارج هذه السَّاعات.
- أنشئ مساحة عملٍ مريحةً: خصِّص مكاناً معيَّناً للعمل بعيداً عن مناطق الرَّاحة في المنزل، وتأكَّد من أن تكونَ مساحة العمل مريحةً ومُهيأةً للإنتاجيَّة.
- خذ فترات استراحةٍ منتظَّمةٍ: أخذ استراحاتٍ قصيرةٍ خلال اليوم يساعدكَ على تحريك جسمكَ والابتعاد عن الشَّاشة، كما أنَّ هذه الفترات تساعد في تقليل التَّوتُّر وتجديد النَّشاط.
- تواصل مع الزُّملاء: حافظ على التَّواصل المُنتظم مع فريق العمل من خلال الاجتماعات الافتراضيَّة أو المحادثات اليوميَّة، ذلك لأنَّ التَّواصل الاجتماعيَّ مهمٌّ لتجنُّب الشُّعور بالعزلة.
- مارس النَّشاط البدنيَّ: دمج التَّمارين الرّياضيَّة في روتينك اليوميّ يساعد على تحسين المزاج وتقليل التَّوتُّر، حتَّى المشي القصير يُمكن أن يكون مفيداً.
- احرص على التَّغذيَّة الجيّدة والنَّوم الكافي: تناول وجباتٍ غذائيَّةً متوازنةً، واحذر زيادة الوزن خلال العمل، واحرص أن تحصلَ على قسطٍ كافٍ من النَّوم لدعم صحَّتك النَّفسيَّة والجسديَّة.
- تعلَّم قول "لا" عند الضَّرورة: قد يكون من الصَّعب وضع حدودٍ عند العمل من المنزل، ولكن من المهمِّ أن تكونَ قادراً على قول "لا" عندما تكون مشغولاً جداً أو بحاجةٍ إلى وقتٍ للرَّاحة.
- احرص على تطوير مهاراتٍ جديدةٍ: استغلال الوقت في تعلُّم شيءٍ جديدٍ أو تحسين مهارةٍ ما يمكن أن يكون وسيلةً رائعةً للشُّعور بالإنجاز وزيادة الثّقة بالنَّفس.
- اطلب المساعدة عند الحاجة: إذا شعرت بأنَّ الضَّغطَ يتزايد أو أنَّ صحَّتك النَّفسيَّة تتأثَّر، لا تتردَّد في التَّحدُّث مع شخصٍ تثق به أو الاستعانة بمحترفٍ في مجال الصّحَّة النَّفسيَّة.
تذكَّر أنَّ اتِّباع هذه النَّصائح يُمكن أن يساعدكَ في الحفاظ على توازنٍ صحِّيٍّ بين حياتك الشَّخصيَّة والمهنيَّة أثناء العمل من المنزل.
شاهد أيضاً: الصحة النفسية في العمل: استراتيجيات لبيئة عمل أكثر إنتاحية
كيفية تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل العادية
على الشَّركات أن تعملَ جاهدةً على تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل سواءً عن بُعدٍ، أو بيئة العمل العاديَّة في المكاتب، لحسن الحظِّ أنَّ تحقيق ذلك ليس صعباً بوجود الأبحاث النَّفسيَّة الَّتي تُشير إلى خمس استراتيجيَّاتٍ رئيسيَّةٍ لتعزيز صحَّة الموظَّفين النَّفسيَّة. [1]
- أولاً: تدريب المدراء على دعم الصِّحة النَّفسيَّة والعلاقات الإيجابيَّة أمرٌ أساسيٌّ، فالقادة الَّذين يحصلون على تدريبٍ في هذا المجال يحقِّقون تحسُّناً في مواقفهم ويصبحون أكثر قدرةً على خلق بيئة عملٍ داعمةٍ، كما أنَّ تدريبهم على احترام توازن العمل والحياة يُسهِم في تحسين أداء الموظَّفين وزيادة رضاهم.
- ثانياً: إعطاء الموظَّفين خياراتٍ مرنةً بشأن مكان وزمان وكيفيَّة العمل يعزِّز رضاهم ويزيدُ من الدَّافعيَّة، العمل عن بُعدٍ أو بنظامٍ هجينٍ يمنح الموظَّفين المرونة الَّتي يحتاجونها، لكن من الضَّروريّ أن تتناسبَ هذه الخيارات مع طبيعة عمل الموظَّف واحتياجاته الشَّخصيَّة.
- ثالثاً: إعادة النَّظر في سياسات التَّأمين الصّحّي؛ لتشمل تغطيةً شاملةً للخدمات النَّفسيَّة أصبح أمراً حيويّاً، حيث إنَّ الموظَّفين اليوم يبحثون عن وظائف تُقدِّم دعماً ملموساً لصحَّتهم النَّفسيَّة، كذلك يجب أن تتماشى فوائد التَّأمين مع المعايير القانونيَّة لضمان تغطيةٍ متساويةٍ للرّعاية النَّفسيَّة والجسديَّة.
- رابعاً: الاستماع إلى احتياجات الموظَّفين واستخدام ملاحظاتهم لتوجيه القرارات هو مفتاح الاحتفاظ بهم وزيادة ولائهم، ويمكن جمع الملاحظات عبر الاستبيانات والاجتماعات، ومشاركتها بشكلٍ شفافٍ مع اتّخاذ إجراءاتٍ بناءً على تلك الملاحظات ما يعزِّز الثِّقة والرِّضا الوظيفيَّ.
- خامساً: تعزيز سياسات الإنصاف والتَّنوُّع والشُّمول في بيئة العمل ضروريٌّ لدعم الصّحَّة النَّفسيَّة، حيث إنَّ الشَّركات الَّتي تتبنَّى سياسات تنوُّعٍ وشمولٍ تُحقِّق أداءً أفضل وتُسهِم في إبداع أفكارٍ جديدةٍ، ويُفضَّل إجراء تدقيقٍ دوريٍّ لهذه السِّياسات لضمان الشُّموليَّة والعدالة، مع مشاركة قادة الشَّركة لتعزيز الالتزام بهذه المبادرات.
باتِّباع هذه الاستراتيجيَّات، يُمكن للشَّركات خلق بيئة عملٍ تُعزِّز الصِّحَّة النَّفسيَّة للموظَّفين، ممَّا يُسهِم في تحسين الأداء العام ورفاهيَّة الجميع.
العوامل التي تؤثر على الصحة النفسية في بيئة العمل
تُعَدُّ الصّحة النَّفسيَّة في بيئة العمل عاملاً جوهريّاً يُؤثِّر بشكلٍ مباشرٍ على كفاءة وإنتاجيَّة المؤسَّسات، ففي ظلِّ بيئة عملٍ داعمةٍ، يُمكن للموظَّفين تحقيق أفضل أداءٍ لهم والشُّعور بالانتماء والرِّضا، فدعونا نتعرَّف على أبرز العوامل الَّتي تُؤثِّر على الصِّحَّة النَّفسيَّة للموظَّفين، لفهم كيف يمكن أن نحافظَ على بيئة عملٍ صحيَّةٍ: [2]
عبء العمل ومتطلّبات الدّور
عندما تكون متطلَّبات العمل عاليةً أو غير واقعيَّةً، مثل زيادة الأعباء الملقاة على عاتق الموظَّف مع مواعيد نهائيَّةٍ صارمةٍ، يُمكن أن يؤدِّي ذلك إلى إرهاقٍ نفسيٍّ، وضغطٍ مستمرٍّ، وزيادة مستويات القلق. وهنا يظهر دور الإدارة في ضمان توزيع الأعمال بطريقةٍ تضمن إمكانيَّة التَّعامل معها دون أن تُؤثِّر سلباً على الصِّحَّة النَّفسيَّة، إذ يجبُ على أصحاب العمل تعزيز ثقافة الاتّصال المفتوح بين الموظَّفين والإدارة، حيث يشعرُ الموظَّفون بالأمان في التَّعبير عن التَّحدّيات الَّتي يواجهونها فيما يتعلَّق بأعباء العمل.
في بعض الأحيان، قد تتزايدُ أعباء العمل بشكلٍ مفاجئٍ، وفي مثل هذه الحالات، يكون من المفيد توفير الموارد اللَّازمة للموظَّفين لمساعدتهم في إدارة هذه الأعباء، ويُمكن أن تشملَ هذه الموارد أدواتٍ لإدارة الوقت وتخفيف التَّوتُّر، وخياراتٍ لساعات العمل المرنة، بهذه الخطوات البسيطة قد تُسهم الإدارة بشكلٍ كبيرٍ في تقليل مخاطر الاحتراق الوظيفي ومعدَّل ترك الموظَّفين لوظائفهم.
التّوازن بين الحياة والعمل
بيئة العمل الَّتي تفتقرُ إلى التَّوازن بين الحياة الشَّخصيَّة والعمليَّة للموظَّفين قد تكون لها نتائجٌ سلبيَّةُ كبيرةُ، وإذا لم يتمكَّن الموظَّفون من فصل حياتهم المهنيَّة عن حياتهم الشَّخصيَّة والاستراحة لتجديد طاقتهم، فإنَّ ذلك قد يؤدِّي إلى استنزاف طاقتهم، ممَّا ينعكس سلباً على إنتاجيَّتهم وأدائهم الوظيفيّ. ويُمكن للشَّركات دعم هذا التَّوازن من خلال توفير مزايا مثل العمل عن بعد، أو جداول عملٍ مرنةٍ، بالإضافة إلى إعطاء الموظَّفين الفرصة لأخذ فترات راحةٍ عندما يحتاجون إليها.
ومن المهمِّ أيضاً أن يكونَ قادة الشَّركات قدوةً في هذا الجانب، عبر أخذ فترات راحةٍ وإجازاتٍ عندما يحتاجون لذلك بدلاً من العمل لساعاتٍ طويلةٍ دون انقطاعٍ، فهذه الإجراءات تُشعر الموظَّفين بالارتياح وتشجِّعهم على القيام بالمثل.
التّواصل المفتوح
يُعدُّ التَّواصل المفتوح حجر الزَّاوية في بناء بيئة عملٍ صحيَّةٍ وداعمةٍ، ذلك لأنَّه عندما يشعر الموظَّفون بأنَّهم قادرون على التَّعبير عن آرائهم ومشاركة ملاحظاتهم دون خوفٍ من الانتقاد أو التَّجاهل، فإنَّ ذلك يُعزِّز من شعورهم بالتَّحكُّم والمشاركة في مكان العمل، وعلى النَّقيض، قد يؤدِّي غياب هذا النَّوع من التَّواصل إلى شعور بالانعزال والتَّوتُّر، ممَّا يُؤثِّر سلباً على الصّحَّة النَّفسيَّة في بيئة العمل والأداء الوظيفيّ.
لتحقيق هذا المستوى من التَّواصل، يجب على أصحاب العمل تشجيع ثقافة الحوار المفتوح من خلال طلب الملاحظات بانتظامٍ وتقديم نقدٍ بنَّاءٍ يُساعد الموظَّفين على النُّموّ والتَّطوُّر، بالإضافة إلى ذلك، تُسهِم الشَّفافيَّة من قِبَل الإدارة العُليا في تعزيز الثّقة بين جميع أعضاء الفريق، حيث يشعر الموظَّفون بأنَّهم مطّلعون ومشاركون في اتّخاذ القرارات المهمَّة.
يمكن أيضاً تنظيم اجتماعاتٍ دوريَّةٍ وورش عملٍ تُركِّز على تطوير مهارات التَّواصل والاستماع الفعَّال، ممَّا يُعزِّز من قدرة الفرق على التَّعامل مع التَّحدّيات وحلِّ المشكلات بشكلٍ تعاونيٍّ، عندما يُدرك الموظَّفون أنَّ أفكارهم ومخاوفهم مسموعةٌ ومُقدَّرةٌ، فإنَّ ذلك يزيد من ولائهم للشَّركة ويُحفِّزهم على تقديم أفضل ما لديهم.
شاهد أيضاً: كيفية إنشاء مساحات آمنة لمحادثات الصّحة النّفسية في العمل
العلاقات الإيجابيّة في مكان العمل
تُشكِّل العلاقات القويَّة والوديَّة بين الزُّملاء والمديرين وأعضاء الفرق المختلفة أساساً لبيئة عملٍ مُحفّزةٍ ومُريحةٍ نفسيَّاً، فوجود علاقات عملٍ إيجابيَّةٍ يُعزِّز من روح التَّعاون والدَّعم المتبادل، ممَّا يؤدِّي إلى زيادة الرّضا الوظيفيّ والإنتاجيَّة، على الجانب الآخر، يمكن للعلاقات السَّلبيَّة أو المتوتِّرة أن تخلقَ بيئة عملٍ عدائيَّةً، تُسهِم في زيادة مستويات التَّوتُّر والقلق بين الموظَّفين.
لمواجهة هذه التَّحدّيات، يجب على المؤسَّسات اتِّخاذ خطواتٍ فعَّالةٍ لتعزيز العلاقات الإيجابيَّة، مثل التَّصدِّي الفوريّ لأيِّ شكلٍ من أشكال التَّنمُّر أو التَّحرُّش داخل بيئة العمل، كذلك يجب وضع سياساتٍ واضحةٍ وصارمةٍ تُعالج هذه السُّلوكيَّات، وتضمن معاملة الجميع باحترامٍ وتقديرٍ.
علاوةً على ذلك، يُمكن لأصحاب العمل تعزيز الرَّوابط بين الموظَّفين من خلال تنظيم فعاليَّاتٍ اجتماعيَّةٍ وفرصٍ للتَّعاون والعمل الجماعي، وتقديم برامج تقديرٍ ومكافآتٍ تعترف بإنجازات الموظَّفين ومساهماتهم، ما يؤدِّي إلى بناء شعورٍ بالانتماء والتَّقدير، كذلك فإنَّ توفير مساحاتٍ مشتركةٍ ومريحةٍ للتَّفاعل اليوميّ يمكن أن يُساعدَ في تعزيز التَّواصل والتَّفاهم بين أعضاء الفريق.
تأثيرات البيئة المادّية على الصّحة النّفسيّة في بيئة العمل
تلعب البيئة الماديَّة في مكان العمل دوراً حاسماً في التَّأثير على الصِّحَّة النَّفسيَّة للموظَّفين، أحياناً قد تكون بيئة العمل غير المصمَّمة بشكلٍ جيِّدٍ سبباً في زيادة التَّوتُّر وانخفاض الإنتاجيَّة، حيث يمكن أن تشملَ هذه البيئة المزعجة عناصر مثل الضَّوضاء العالية، وغياب الخصوصيَّة والرَّاحة، بالإضافة إلى مشاكل في التَّصميمات الهندسيَّة الَّتي تُؤثِّر على راحة الموظَّفين أثناء العمل.
لذلك ينبغي على أصحاب العمل النَّظر في تحسين هذه العوامل لضمان راحة الموظَّفين وتوفير بيئة عملٍ مثاليَّةٍ، ومن بين الإجراءات الَّتي يُمكن اتِّخاذها في هذا السّياق توفير محطَّات عملٍ هندسيَّةٍ مريحةٍ تضمن جلوس الموظَّفين بشكلٍ صحيٍّ، وتحسين الإضاءة في أماكن العمل لتكون كافيةً ولكن غير مزعجةٍ، بالإضافة إلى تخصيص أماكن هادئةٍ للاجتماعات أو للعمل الَّذي يتطلَّب التَّركيز العالي.
إذاً، تتحمَّل الشَّركات المسؤوليَّة الكاملة في خلق بيئة عملٍ إيجابيَّةٍ، تدعم الموظَّفين، ليس فقط من أجل مصلحة العمال فحسب، بل كذلك بهدف تحقيق النَّجاح المنشود للشَّركة بشكلٍ عامٍّ.
في النّهاية، وسط تحدّيات العمل اليوميَّة وضغوطه الَّتي لا تنتهي، تظلُّ الصِّحَّة النَّفسيَّة هي الرَّكيزة الأساسيَّة الَّتي تدعم قدرتنا على الاستمرار والإبداع، بالاعتناء بها، نضمن ليس فقط تحسين أدائنا المهنيَّ، بل أيضاً تحقيق توازنٍ حقيقيٍّ بين حياتنا الشَّخصيَّة والمهنيَّة، فتذكَّر دائماً أنَّ الاهتمام بصحَّتك النَّفسيَّة ليس رفاهيّةً، بل ضرورةً تضمن لك النَّجاح والاستمراريَّة في عالم العمل الحديث.