الصراحة الجذرية: التوازن المثالي بين الصدق واللطف في العمل
استراتيجيات فعّالة لتقديم الملاحظات للآخرين بالشّكل الصّحيح، ممّا يُعزّز بناء بيئات عمل إيجابيّةٍ تعتمد على التّواصل المفتوح والصّادق
يُمكن أن يكونَ تقديم ملاحظاتٍ بنّاءةٍ وفعّالةٍ من التّحديّات الكبيرة في بيئات العمل، خاصّةً إذا كُنتَ تسعى للحفاظ على العلاقات الجيّدة مع الآخرين، وفي هذه الحالة يُعتبر نهج "الصّراحة الجذريّة" الحلّ المثاليّ، إذ يُساعدكَ على تحقيق التّوازن المثاليّ بين الصّراحة واللّطف، ممّا يُمكّنك من تقديم ملاحظاتٍ صادقةٍ دون التّأثير سلباً على العلاقات.
قد تجدُ نفسكَ في بعض المواقف متردّداً في تقديم ملاحظاتٍ نقديّةٍ، خاصّةً إذا كُنت في دورٍ إشرافيٍّ، ربّما تشعر بالخوف من جرح مشاعر الآخرين أو من تعريض العلاقة للخطر؛ لذا تميلُ إلى التّركيز على الإيجابيّات فقط، متجنّباً الانتقادات، هذا النّهج الّذي يُمكن وصفهُ بأنّه "اللّطافة المفرطة"، قد يبدو جيّداً في بادئ الأمر، ولكنّه قد يكون ضارّاً على المدى الطّويل.
فالنّاس عادةً يرغبون في الحصول على مُلاحظاتٍ مباشرةٍ تساعدهم على النّموّ والتّطوّر، لكنّهم يريدون أن تكونَ هذه الملاحظات نابعةً من نيّةٍ حسنةٍ ورغبةٍ حقيقيةٍ في مساعدتهم، فعندما تحجب ملاحظاتٍ -يُمكن أن تكونَ مفيدةً لشخصٍ ما- فإنّك في الواقع لا تُساعده، بل تحمي غروركَ الشّخصي؛ لذلك من المهمّ أن تكونَ قادراً على تقديم ملاحظاتٍ مباشرةٍ، وفي نفس الوقت تُبدي اهتماماً حقيقيّاً بالشّخص الذي تتحدّث معهُ.
مفهوم الصراحة الجذرية
أصبحَ هذا المفهوم واضحاً بالنّسبة لي بعد أن اطّلعتُ على أفكار Kim Scott، الّتي طوّرت نهج الصراحة الجذرية، ففي محاضرتها الّتي كانت بعنوان "كيفيّة القيادة بصراحة جذرية"، شرحت كيف قادتها تجربتها الخاصّة إلى إدراك أهمّية هذا النّهج، إذ تحدّدت ملامح هذا المفهوم عندما تجنّبت كيم مواجهة موظّفيها بشكلٍ مباشرٍ، خوفاً من ردود فعلهم السّلبيّة، ولكن هذه الطّريقة لم تؤدِّ إلّا إلى استياء الموظّفين وخيبة أملهم، بل وأدّى في إحدى الحالات إلى فصل موظّفٍ؛ بسبب أدائه الضّعيف قبل أن تُتاحَ له فرصة التّحسين، فهذا الموقف جعلها تُدرك أنّ الحذرَ المفرط في التّواصل يُمكن أن يكونَ له نتائجٌ سلبيّةٌ.
أنماط التواصل في العمل
تُوضّح كيم أنّ هناك 4 أنماطٍ مختلفةٍ للتّواصل في مكان العمل، وهي ليست سماتٍ شخصيّةً، بل سلوكيّاتٍ يُمكن تصنيفها بناءً على بُعدين: الرّعاية الشّخصيّة والتّحدّي المباشر.
- النّفاق التلاعُبي: يتميّز هذا النّمط بانخفاضٍ في كلّ من الرّعاية الشّخصيّة والتّحدّي المباشر، ويتجلّى في النّميمة والسّلوكيّات السّلبيّة العدوانيّة الّتي لا تواجه المشاكل بشكلٍ مباشرٍ.
- العدوان البغيض: يتميّز بارتفاعٍ في التّحدّي المباشر مع انعدام الرّعاية الشّخصيّة، ويشمل الانتقادات العلنيّة والصّراخ، ممّا يخلق بيئةً عدوانيّةٍ وغير مشجّعةٍ.
- التّعاطف المدمّر: ويتميّز هذا النّمط برعايةٍ شخصيّةٍ عاليةٍ، وبالمقابل تحدٍّ مباشرٍ منخفضٍ، حيث يعبّر الشّخص عن تعاطفه، ولكنّه يمتنع عن تقديم الملاحظات النّقديّة الضّروريّة للنّموّ.
- الصراحة الجذرية: وهو النّمط المثاليّ الّذي يجمع بين الرّعاية الشّخصيّة العالية والتّحدّي المباشر المرتفع، وهنا يُمكنكَ أن تكونَ صريحاً بشكلٍ يُعزّز من استقبال الآخرين للملاحظات بطريقةٍ إيجابيّةٍ.
كيفية تطبيق الصراحة الجذرية
إذا كُنت تتساءل عن كيفيّة تطبيق هذا النّهج في حياتك المهنيّة، فإليك بعض النّصائح العمليّة:
- فكّر في أهدافكَ: قبل أن تبدأ أيّ محادثةٍ صعبةٍ، حدّد هدفك الأساسيّ، هل تسعى حقّاً لمساعدة الشّخص الآخر على النّموّ؟ تذكّر نواياك الإيجابيّة قبل البدء، فهذا سيُساعدك في إيصال رسالتكَ بوضوحٍ.
- بناء علاقةٍ طيّبةٍ من خلال الفضول: اعرف المزيد عن الشّخص الآخر، واهتمّ بما يُحفّزه وما يواجهه من تحديّاتٍ، فعندما تُظهر اهتماماً حقيقيّاً بالشّخص وأهدافه، ستتمكّن من تقديم ملاحظاتك بطريقةٍ تخدم تطلُّعاته.
- اشرح نواياك صراحةً: إذا كُنت قلقاً من أنّ الشّخصَ الآخر قد لا يفهم تعاطفكَ، كن واضحاً في شرح نواياك، على سبيل المثال، يُمكنك أن تقول: أودّ أن أقدّمَ لك بعض الملاحظات التي أعتقد أنّها ستُساعدك على أن تكونَ أكثر فعاليّةً في عملكَ، أنا مهتمٌّ حقّاً برؤيتك تتألّق، فهل أنت مستعدٌّ لتلقّي هذه الملاحظات؟
بتطبيق هذه النّصائح، يُمكنك تعزيز بيئة عملٍ إيجابيّةٍ تعتمد على التّواصل المفتوح والصّادق، ممّا يُسهم في نموّ الجميع، ومن خلال الصراحة الجذرية، يُمكن للمؤسّسات أن تزدهرَ وتُحقّق نتائج مميّزةٍ بفضل القدرة على تقديم وتلقّي الملاحظات بطريقةٍ بنّاءةٍ.