الطّريق إلى الغد: تأمّلات في مستقبل وسائل النقل
نور سويد، المؤسّسة والشّريكة الإدارية لشركة جلوبال فنتشرز في الإمارات، تشاركنا رؤيتها لمستقبل حلول التّنقّل
كتبت نور سويد المقال الأصلي بالإنجليزية هنا وما يلي ترجمتنا له.
نتنقّل أكثرَ ممّا ندرك أو نعترف؛ نقضي ما يعادل عطلةً لمدّة أسبوعين سنويّاً على الطّرقات، إضافةً إلى السّفر الجويّ، وفي كثيرٍ من الأحيان نمضي في حياتنا اليوميّة، دون أن نتوقّف للحظةٍ للتّفكير في هذا الرّوتين المستمرّ. فسواءً كنّا نقود السّيارة من المنزل إلى العمل، أو نستخدم تطبيقاتِ طلب السّيارات، أو نستقلّ وسائل النّقل العامّ، أصبح التنقّلُ جزءاً لا يتجزّأ من حياتنا اليومية.
لكنّ الحال لم يكن دائماً كذلك؛ وقد وصفت صحيفة نيويورك تايمز القيادة بأنّها "ظاهرةٌ ثقافيةٌ شاذّةٌ في لحظتنا الحاليّة". فقبل أن يأتي الإنتاج الضّخم لمحرّك الاحتراق الداخليّ، ويجعل السّيارات في متناول الجميع، كان السّفر مهمّةً شاقةً. وكانت مغادرة الشّخص لمدينته أو قريته تحدّياً كبيراً، حيث كان يتعيّن عليه التّفكير ملياً في التّكلفة، الوقت، السّلامة، والتّرتيبات اللوجستية.
وقبل أن يظهر محرك الاحتراق الدّاخليّ، لم تتطلّب الحياة اليوميّة التّنقّل الذي نعتبره اليوم أمراً "طبيعيّاً". وكان كلٌّ من العمل، التّسوق، والزّيارات الاجتماعيّة تقع ضمن مسافة نستطيع بلوغها سيراً على الأقدام، ممّا يعني أنّ "التنقل عبر وسائل المواصلات الصّغيرة والخفيفة" لم يكن رفاهيةً، بل هو جزءٌ من نمط الحياة ذاته. واليوم، عندما نفكر فيه، نفكر في حجز السّكوترات عبر التّطبيقات أو فتح الدّراجات بلمسةٍ على هواتفنا الذكية. لكن قبل قرونٍ، كان هذا هو الواقع اليوميّ.
غالباً ما يسوّق لفكرة "المدينة ذات الخمس عشرة دقيقةٍ"، حيث تتوفّر جميع المرافق الأساسيّة على بُعد خطواتٍ سيراً على الأقدام أو ركوب دراجةٍ لا تزيد عن خمس عشرة دقيقةً، على أنّها ابتكارٌ حديثٌ. لكنّ في الحقيقة، هذا هو النّمط الذي عاش به أسلافنا منذ زمنٍ بعيدٍ. ومع تحرّك العالم نحو رقمنةٍ متزايدةٍ حيث يمكن إجراء كلّ التّفاعلات اليومية عبر الإنترنت، السّؤال الذي يطرح نفسه: هل سيستمرّ تطوّر التّنقّل في نفس المسار الذي رسمته الثّورة الصناعية، أم أنّنا قد نعود إلى أنماط الحياة التي عاشها البشر لآلاف السنين؟
قبل بضع سنواتٍ فقط، بدا الجواب واضحاً. لكنّ جائحةً عالميّةً غيّرت كلّ شيءٍ، وأجبرتنا على إعادة التّفكير في حاجتنا إلى التنقّل المستمرّ. فقلّل أكثر من ثلاثة مليارات شخصٍ حول العالم من تنقلاتهم اليوميّة بسبب حظر التّجوال، وصعود نماذج العمل الهجين، الذي أتاحته التّكنولوجيا المتطوّرة، جعلنا نتساءل لأوّل مرةٍ: هل التنقل اليوميّ ضروريٌّ حقاً؟
حتى السّفر لأغراض العمل، الذي كان يُعتبر جزءاً أساسياً من الحياة المهنيّة، أصبح موضع تساؤلٍ أيضاً. فبدأت الشّركات في فرض قواعد سفرٍ أكثر صرامةً، وحوّلت النّقاش من "هل نستمتع برحلات العمل؟" إلى "هل هذه الرّحلة ضروريّةٌ حقاً؟".
ورغم أنّ الكثيرين عادوا إلى نمط حياتهم السّابق بعد الجائحة، إلا أنّ الأجيال الشّابة احتضنت البيئات الافتراضيّة، حيث يحدث التّفاعل والتّواصل بكلّ سلاسةٍ وهم في منازلهم. وساعدت تقنيّات الواقع الافتراضيّ والواقع المعزّز، والّتي شهدت تطوّراً سريعاً بفضل أجهزةٍ مثل "ميتا كويست" (Meta Quest) و"آبل فيجن برو" (Apple Vision Pro)، في خلق نموذجٍ جديدٍ من التّفاعل البشريّ عن بعدٍ، نموذجٍ لا يتطلّب السّفر أو التّنقل الماديّ على الإطلاق. وفي استطلاعٍ حديثٍ، أشار 46% من أفراد جيل زد إلى أنّهم يعتقدون أنّ الميتافيرس (Metaverse) سيكون جزءاً من مستقبل أعمالهم.
ومع تقدم هذه الاتّجاهات، وتسارع التّكنولوجيا في تقليص المسافات، لنصبح أقرب ما نكون إلى "قريةٍ عالميّةٍ"، نسأل أنفسنا: كيف سيكون شكل التنقّل في العقد القادم؟
من المتوقّع أن يشهد قطاع التّنقّل تغييراتٍ جذريّة، مدفوعاً بعدة عوامل. تشمل هذه العوامل الطّلب المتزايد على وسائل نقلٍ أكثر فعاليّة، والتوسّع السّريع في التّحضّر، والضّغوط التّنظيمية والاستهلاكية المتزايدة لتحقيق الاستدامة، والتّركيز المتنامي على التّكامل التّكنولوجي والاتّصال بين الأنظمة.
وتستجيب الشّركات النّاشئة في مجال تكنولوجيا التّنقل لهذه التّحديات بطرقٍ مبتكرةٍ. على سبيل المثال، بدأت تقنيّاتٌ مثل الواقع المعزّز، الواقع الافتراضيّ، والتوائم الرّقميّة، في إحداث ثورةٍ في عمليات الإنتاج والمبيعات. في الوقت نفسه، يستخدم الذّكاء الاصطناعيّ لتحسين عمليات التّصنيع، حيث يعمل الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ على اكتشاف موادٍ أخفّ وأقوى وأكثر استدامةً لصناعة المركبات. وتعيد الابتكارات في علوم المواد، بالإضافة إلى التّصنيع الإضافيّ والتّكنولوجيا الرّقميّة، تعريف صناعة المركبات، ممّا يجعل إنتاجها أسرع وأكثر كفاءةً وأماناً.
وعلى الطّرق، يفتح الذّكاء الاصطناعيّ آفاقاً جديدةً للكفاءة من خلال الصّيانة التّنبؤيّة وتنظيم السّير، ممّا يؤدي إلى زيادةٍ في توفّر المعدات بأكثر من 20% وتقليل تكاليف الفحص بنسبةٍ تصل إلى 25%. كما يساهم الذّكاء الاصطناعيّ في ابتكار حلولٍ لتحديد المسارات وتحسين تجارب التّنقّل. ومع رقمنة المركبات، تأتي تقنيّاتٌ مثل الحوسبة الطّرفيّة، الكشف بالضوء وأجهزة الاستشعار بالليزر (LiDAR)، وأنظمة تتبع المركبات لتدخل حقبةً جديدةً من التنقّل المتصّل، الآمن، الفعّال من حيث التكلفة، والمستدام.
تدفع أنظمة مساعدة السّائق المتقدّمة (ADAS) بحدود التّكنولوجيا إلى الأمام، وتقرّبنا من عالم القيادة الذّاتيّة الّذي كان يبدو في الماضي ضرباً من ضروب الخيال. وقريباً، ستحوّل السّيّارات الذّاتيّة القيادة تجربة التّنقّل، ممّا يتيح للرّكّاب الفرصة للاسترخاء، أو العمل، أو التّرفيه أثناء الرّحلة. ومن المتوقّع أيضاً أن يحصل مشغّلو الأسطول على مساعدةٍ كبيرةٍ في إدارة المركبات، والتّنبّؤ بأعطالها، والإشراف على تطبيق برامج السّلامة.
ولأنّ قطاع النّقل يعتبر مسؤولاً عن 24% من إجماليّ انبعاثات غازات الدّفيئة على المستوى العالميّ، حيث ترتبط 56% من هذه الانبعاثات بتنقّل الرّكّاب، فإنّ التّحوّل نحو تحقيق "صفر إنبعاثاتٍ" يعيد تشكيل كلّ جانبٍ من جوانب التّنقّل. على سبيل المثال، يتزايد الاعتماد على المركبات الكهربائيّة في جميع وسائل النّقل، بدءاً من سيّارات الرّكّاب وصولاً إلى الحافلات، وحتّى الطّائرات الكهربائيّة ذات الإقلاع والهبوط العموديّ (eVTOL) في مجال التّنقّل الجوّيّ المتقدّم.
علاوةً على ذلك، يشهد مفهوم ملكيّة السّيّارات تحوّلاً جذريّاً كجزءٍ من هذا التّغيير الشّامل، خاصّةً في ظلّ التّحضّر المتزايد. فتبنّي مفهوم التّنقّل المشترك يمكن أن يسهم بشكلٍ كبيرٍ في تخفيف الضّغط على البنية التّحتيّة للمدن، وتقليل الازدحام المروريّ، وخفض الانبعاثات الضّارّة. وهنا، تلعب حلول التّنقّل كخدمةٍ (MaaS) دوراً أساسيّاً، إذ تعزّز الاستخدام الأمثل للمركبات من خلال تقديم بدائل مرنةٍ وفعّالةٍ، ممّا يقلّل الحاجة إلى حيازة السّيّارات الخاصّة. يمهّد هذا التّطوّر الطّريق لأنظمة تنقّلٍ حضريّةٍ أكثر ذكاءً واستدامةً، قادرةٍ على التّعامل مع النّموّ السّكّانيّ المستقبليّ.
في سياقٍ متّصلٍ، تواجه مناطق مثل أفريقيا جنوب الصّحراء تحدّياتٍ خاصّةً، أبرزها عدم قدرة الكثيرين على تحمّل تكلفة شراء المركبات. وللتّغلّب على هذا العائق، ابتكر روّاد الأعمال حلولاً تمويليّةً جديدةً، تجمع بين التّنقّل والتّكنولوجيا الماليّة. ومن بين هذه الحلول نماذج "استأجر الآن وادفع لاحقاً" وخيارات تمويلٍ مرنةٍ، ممّا يجعل امتلاك أو استخدام المركبات أكثر سهولةً للكثير من الأشخاص.
أمّا في مناطق الشّرق الأوسط وأفريقيا، حيث يعيش 55% من السّكّان في المدن، فمن المتوقّع أن يرتفع عدد السّكّان ليصل إلى 3.4 مليار نسمةٍ بحلول عام 2050. هذا الازدياد السّكّانيّ سيزيد الضّغط على المدن وأنظمة النّقل. وللتّصدّي لهذا التّحدّي، تعمل الشّركات النّاشئة في مجال تكنولوجيا التّنقّل على تطوير حلولٍ مبتكرةٍ تشمل التّنقّل الجوّيّ المتقدّم، ووسائل التّنقّل الصّغيرة مثل السّكوترات والدّرّاجات الكهربائيّة، إضافةً إلى خدمات التّنقّل كخدمةٍ (MaaS) في جميع أنحاء المنطقة. بفضل بيئتها المتنوّعة وتحدّياتها الفريدة وفرصها الاستثماريّة، تتمتّع مناطق الشّرق الأوسط وأفريقيا بقدرةٍ فريدةٍ على إحداث تأثيرٍ كبيرٍ في مستقبل التّنقّل على المستوى العالميّ.
وفي ظلّ اهتمامٍ عالميٍّ كبيرٍ بقطاع التّنقّل، الّذي استقطب استثماراتٍ قيمتها 273.6 مليار دولارٍ أمريكيٍّ خلال السّنوات الخمس الماضية، تبرز الأسواق النّاشئة كمراكز هامّةٍ لتطوير الحلول التّقنيّة. لا يكتفي هؤلاء المبتكرون بتقديم حلولٍ حيويّةٍ، بل يسهمون أيضاً في تعزيز التّرابط بين أنظمة النّقل، وتحسين إمكانيّة الوصول إليها، ممّا يسهم في توفير وسائل التّنقّل لمليار شخصٍ يفتقرون إلى بنيةٍ تحتيّةٍ ملائمةٍ للنّقل حول العالم.
وأخيراً، ومع تأمّلنا لهذه التّحوّلات الكبرى، يطرح السّؤال: هل سينجح الشّرق الأوسط وأفريقيا في تحقيق إمكاناتهما لتشكيل مستقبل التّنقّل العالميّ؟ وما هو المسار الّذي سيتّبعه العالم؟ هل سنعود إلى أنظمة التّنقّل التّقليديّة الّتي كانت قبل الجائحة، أم سنبتكر مستقبلاً جديداً يناسب التّحدّيات الحاليّة؟
الزّمن وحده كفيلٌ بالإجابة على هذه التّساؤلات.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في عدد أكتوبر من مجلة "عربية .Inc". لقراءة العدد كاملًا عبر الإنترنت، يُرجى النقر هنا.