انسحاب الشركات من مصر.. لماذا تهرب الاستثمارات للخارج؟
خرجت عشرات الشركات من البورصة المصرية خلال سنواتٍ قليلةٍ مع خسائر بالمليارات في الاستثمارات الأجنبيّة، فما سبب ظاهرة انسحاب الشركات من مصر وهل هناك حلولٌ واقعيّةٌ لها؟
مع استمرارِ تراجع تدفُّق الاستثمار الأجنبيّ المُباشر في مصر خلال العام الماليّ 2023-2024 بنسبة 30.3% وفقاً لبيانات ميزان المدفوعات الصَّادر من البنك المركزيّ ليكون 2.3 مليار دولارٍ مقارنةً بـ3.3 مليار دولارٍ العام السَّابق له، فإنَّ ملفَّ انسحاب الشَّركات من مصر -والَّذي بدأ تقريباً منذ عام 2016- يبدو أنَّه لم يُغلق بعد بل في تزايدٍ، فقد كان التَّراجعُ عام 2019 بنسبة 23% فقط ليستمرَّ في التّراجع عاماً بعد آخر، رغمَ ما تحاولُ الحكومةُ المصريّةُ بذلهُ للتّقليل من حجم هذه الخسائر.
فما أسبابُ انسحاب الشَّركاتِ من مصر الذي يتراوحُ عددهم بين 10-15 شركةً سنويّاً تقريباً، وما أهمُّ التَّحدّيات التي تواجهها وهل يُمكن إيجاد حلولٍ لهذه الأزمة على المدى القريب، وما تداعيّاتها المُباشرة على الاقتصاد والمواطن العادي؟ كلُّ هذا وأكثر سنتعرَّفُ عليه الآن.
الأزمة الاقتصادية المصرية
أكَّد صندوق النَّقد الدُّوليّ أنَّ إجمالي الدَّيْن الحكوميّ في مصر وصل إلى 92.9% من النَّاتج المحليّ في عام 2023، وهو الأعلى على الإطلاق بين الأسواق النَّاشئة ومتوسّطة الدَّخل، والَّتي لا تزيد النَّسبة لها عن 88.5%، وقد تعرَّضت مصر لعدَّة ضرباتٍ متتاليةٍ منها ما هو سياسيٌّ -مثل ثورة يناير 2011- وما تبعها من عدم استقرارٍ ومشاحناتٍ وعمليَّاتِ عنفٍ لعدَّة سنواتٍ، وعندما بدأت في التَّعافي حلَّت أزمة كوفيد، والَّتي أثَّرت على العالم بأكمله، إلَّا أنَّ الاقتصادَ المصريَّ صمد بشكلٍ جيدٍ وقتها على عكس الكثير من التَّوقُّعات.
لتأتي حرب أوكرانيا وروسيا، وتكشف الخللَ الكبيرَ في مصر من الاعتماد الزَّائد على استيراد السّلع الأساسيَّة من الخارج وخاصَّةً القمح، ومع التَّراجع الحادِّ في العملة الأجنبيَّة مع انخفاضٍ كبيرٍ في السِّياحة؛ بسبب كوفيد وحرب روسيا، فإنَّ هذه الضَّربة بدا أنَّها القاضية تماماً ليتوقَّعَ الكثيرون إفلاس الدَّولة خصوصاً مع مشروعات البنية التَّحتيَّة العملاقة الَّتي أطلقتها الحكومة مع قروضٍ شديدة الضَّخامة وغيابٍ كبيرٍ للمشروعات الإنتاجيَّة سريعة الأرباح.
لكن مع التَّدخُّل غير المسبوق من حكومة الإمارات وتقديم مساعداتٍ استثماريَّةٍ مباشرةً بقيمة 35 مليار دولارٍ في مشروع رأس الحكمة، فإنَّ البلاد بدأت في التَّعافي إلى حدٍّ كبيرٍ بعد أن كان يُمكن أن تدخلَ في نفقٍ مظلمٍ، كما أشار السَّيد رئيس الجمهوريَّة عبد الفتَّاح السّيسي في خطابٍ له بعد الصَّفقة.
فقد أدَّت هذه الاستثماراتُ إلى استقرارٍ ملحوظٍ في سعر صرف العملة، ليدور حول 46 إلى 48 جنيهاً بعد أن كان مُهدَّداً بالوصول إلى 100 جنيهٍ، وتراجعَ مُعدَّل التَّضخُّم إلى حدٍّ كبيرٍ، إلَّا أنَّ المصاعب الاقتصاديَّة على المواطن المصريّ ما تزالُ في زيادةٍ خصوصاً مع ارتفاع تكلفة الطَّاقة من كهرباءٍ وغازٍ وغيرها، ممّا يتطلَّبُ المزيد من الإجراءات العاجلة لاستعادة ثقة وكالات التَّصنيف العالميَّة والشَّركات المتنوِّعة. [1]
أسباب خروج الشركات من مصر
يرى البعضُ أنَّ عدم الاستقرار السّياسيّ واحدٌ من أسباب انسحاب الشَّركات من مصر، خصوصاً أنَّه بدأ تقريباً منذ عام 2016، فخرجت شركة جنرال موتورز للسَّيَّارات من مصر، وقبل سنواتٍ من وباء كوفيد ومن حرب روسيا وأوكرانيا اللَّذين يعدّان من العوامل الَّتي زادت من الأزمة الاقتصاديَّة المصريَّة بالطبع، ولكنَّهما لم يتسبَّبا بمفردهما مُطلقاً في هذه الأزمةِ الخانقةِ، والَّتي تزدادُ باطرادٍ، على الرَّغم من محاولات الإصلاح والمساعدات التي لا تنقطعُ من دول الخليجِ، ومن أهمِّ أسباب انسحابِ الشَّركات من مصر وفقاً لرأي من خرجوا بالفعل والمحلِّلين الاقتصاديّين:
عدم استقرار العملة المحليَّة
كان وجود أكثر من سعرِ صرفٍ للدُّولار أمام العملة المحليَّة من أهمّ أسباب انسحاب الشَّركات في مصر منذ عام 2019 وحتَّى 2024، فقد كان الدُّولار عالميّاً بـ42 جنيهاً مصريّاً، وفي داخل البلاد بـ60 و70 جنيهاً مصريّاً، أمّا السِّعر الرَّسمي فاستقرّ على 31 جنيهاً مصريّاً لعدَّة سنواتٍ مع رفضٍ مُطلقٍ لتحريك سعر العملة باعتبار أنَّ له عواقب سياسيَّةً مباشرةً، بالإضافة لتأثيراته على أرباح الشَّركات التي تُسيطرُ عليها الحكومة، وكان تقييدُ الوصول للعملة الأجنبيَّة ووضع حدٍّ أقصى للسَّحب من الأرصدة وعدم السَّماح بصرف العملات الأجنبيَّة والمطاردات المستمرَّة لمن يملكُ عملةً أجنبيّةً ومصادرة أموالهِ وإخضاعه لعقوباتٍ متنوِّعةٍ من أهمّ أسباب ارتفاع تكلفة الإنتاج على الشَّركات، وبالتَّالي خروجها من مصر. [2]
انخفاض القدرة الشّرائية للمواطنين
يتَّفقُ جميع المُستثمرين أنَّ السُّوقَ المصريَّ أكبر سوقٍ استهلاكيٍّ في الشَّرق الأوسط، ولكنَّ الانخفاض الحادَّ والسَّريع في القدرة الشّرائيَّة للمواطنين أدَّى إلى تراجعٍ كبيرٍ في أرباح تلك الشَّركات، مع ارتفاعِ تكلفة الخدمات الحكوميَّة المُقدَّمة وزيادة الضَّرائب على الشَّركات وعدم تحقيقها لأيِّ هامش ربحٍ، بل خسائر متزايدة، ممّا أدَّى إلى خروجها.
الاختلالات الهيكلية
الشَّكوى من البيروقراطيَّة وطول أمد إجراءات الاستثمار والحصول على التَّصاريح لا ينتهي، وذلك على الرَّغم من البوابة الإلكترونيَّة وصناديق الاستثمار المُعلن عنها وإعلانات الحكومة المُستمرَّة عن تزليلِ العقباتِ أمام المُستثمرين، إلّا أنَّ الأمرَ على أرض الواقع أوضح صعوبةً أكبر بكثيرٍ من دولٍ قريبةٍ للغاية، وخصوصاً السُّعوديَّة والإمارات اللّتين كانتا من أكثر الدُّول الجاذبة للاستثمارات التي خرجت من مصر، سواءً كانت شركاتٍ وطنيَّةٍ أو أجنبيَّةٍ على الرَّغم من حجم السُّوق الصَّغير. [3]
انخفاض نسبة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد
يقولُ أحمد المستكاوي، كبير الاقتصاديّين في الهيئة العامَّة للاستثمارِ والمناطقِ الحرَّة في حوارٍ مع Business Monthly إنَّ استثمارَ القطَّاع الخاصّ في المُشروعات الكُبرى لا يتجاوز 26% من إجمالي الاستثمارات، وهو ما يُشكِّلُ مصدر قلقٍ، ويُؤكِّد الكثير من الاقتصاديّين وأصحاب الشَّركات الَّتي خرجت من مصر أنَّ المنافسةَ مع الشَّركات الحكوميَّة والخاضعة للمؤسَّسة العسكريَّة مستحيلٌ تقريباً، فهي شركاتٌ لا تدفعُ ضرائبَ، وتعتمدُ على موظَّفين من الجنود لا يحصلون على رواتب؛ لأنَّهم في فترة تجنيدٍ إجباريٍّ، ممَّا يجعلُ تكلفة التَّشغيل مُضاعفةً على الشَّركاتِ الخاصَّةِ مع منافسةٍ غير عادلةٍ.
شاهد أيضاً: 6 حيل نمو بسيطة للشركات الناشئة
كيف يحدث انسحاب الشركات من مصر؟
يحدثُ انسحاب الشَّركات من مصر بأكثر من طريقةٍ، ووفقاً للتَّجارب المُتنوِّعة لعشرات الشَّركات، والَّتي تمثَّلت في: [4]
- الإغلاق التَّامُّ للمصانع: كما حدثً في جنرال موتورز ومرسيدس ونستلة وغيرها من شركاتٍ أجنبيَّةٍ كان لها مصانع عاملةٌ، فأغلقتها وسرَّحت العمالة.
- الاندماج مع شركاتٍ خارج مصر: مثلما حدث مع شركة أبيتيتو الَّتي تأسَّست في مصر لتوصيل طلبات البقالة، إلَّا أنَّها اندمجت مع شركة "جملتي" السُّعوديَّة، وأصبح اسمها نومو وانتقلت إلى الرّياض.
- وقف العمليَّات التّجاريَّة: كما حدثَ مع شركة "تابي" الإماراتيَّة لخدمات الشّراء الآن والدَّفع لاحقاً، والَّتي أوقفت عمليَّاتها التّجاريَّة بعد 5 أشهر فقط في السُّوق المصريّ؛ نتيجة معدَّلات التَّضخُّم المرتفعة وانخفاض قيمة العملة، وأوقفت شركة "جلوفو" لطلب وتوصيل الطَّعام عمليَّاتها بالطَّريقة نفسها.
- بيع الحصص: كما حدث مع فودافون العالميَّة الَّتي باعت حصَّتها في فودافون مصر والبالغة 55% إلى STC السُّعوديَّة، وعلى الرَّغم من أنَّ فودافون العالميَّة أوضحت أنَّ القرارَ يأتي لتركيز استثماراتها، إلَّا أنَّ التَّصريحات لم تخلُ من إشارةٍ واضحةٍ إلى أنَّ السُّوق المصريَّ لم يعد الأفضل للشَّركة.
تداعيات خروج الشركات من مصر
أكَّدت تقارير البنك المركزيّ المصريّ أنَّ البلاد فقدت استثماراتٍ بقيمة 8.5 مليار دولارٍ في 2019، وقبل تداعيات كوفيد وحرب روسيا وأوكرانيا، لترتفعَ الخسائر إلى 21 مليار دولار وبقيمة 90% من الاستثمارات الأجنبيَّة المباشرة بعد الحرب، وبالإضافة للتَّراجع الكبير في السِّياحة، والَّتي كانت تعتمدُ بطريقةٍ واضحةٍ على روسيا وأوكرانيا، فإنَّ انسحابَ المزيد من الشَّركات من مصر أصبح له الكثير من التَّداعيات الكارثيَّة، ومن أهمّها: [5]
- الارتفاعُ الكبيرُ في معدَّلات التَّضخُّم؛ ليصلَ في بعض الأوقات إلى 45% قبل أن يهبطَ إلى 39%، ويواصلُ الهبوط إلى أقلَّ من 30%.
- الانخفاضُ الحادُّ في القدرة الشّرائيَّة للمواطنين؛ لتصلَ إلى السّلع الرَّئيسيَّة مثل الألبان والبقوليَّات.
- ارتفاع تكلفة خدمة الدَّيْن الحكوميّ بعد انسحاب الكثير من الشَّركات من خدمة الدَّيْن.
- انتشارٌ أكبر للبطالة، والَّتي تعدُّ نسبتها مرتفعةٌ في مصر بالفعل لتزيد حدَّتها مع تسريح العمالة، وبالتَّالي ترتفع نسبة الجرائم والهجرة غير الشَّرعيَّة.
- الانهيار الشَّديد للعملة، نتيجة النَّقص الحادّ في التَّدفُّقات الاستثماريَّة، والَّتي كانت من أهمِّ مصادر العملة الأجنبيَّة، وبالتَّالي ارتفاع نسبة الدُّيون المصريَّة وغلاء الأسعار.
حلول مشكلة انسحاب الشركات من مصر
لكلِّ هذه التَّداعيَّات السَّابقة وتأثيراتها الاجتماعيَّة والسّياسيَّة الخطيرة على البلاد، فإنَّ إيجادَ حلولٍ لأزمة انسحاب الشَّركات من مصر يجب أن يكونَ على قمَّة أولويات الحكومة المصريَّة، وسواءً بتنفيذ مقترحات صندوق النَّقد الدُّوليّ أو طلبات رؤساء دول الخليج العربيّ، فإنَّ عدم حلِّ هذه الأزمة على المدى القريب قد يُدخل البلاد قريباً للغاية في نفقٍ مظلمٍ جديدٍ لا نهاية له، ومن أهمّ الحلول المطروحة: [6]
التحرير الكامل لسعر الصرف
فعلى الرَّغم من أنَّ الحكومة المصريَّة حرَّرت سعر الصَّرف بالفعل في مارس 2024، إلَّا أنَّ هناك مؤشِّراتٌ أنَّها ما تزال تتدخَّلُ في السَّيطرة عليه، وبالتَّالي تفقدُ ثقة وكالات التَّصنيف الائتمانيّ، مثل موديز وستاندرد آند بورز وفيتش وغيرها، والَّتي خفَّضت التَّصنيف الائتمانيَّ لمصر عدَّة مراتٍ في السَّنوات السَّابقة، ولم ترفعه ثانيةً، على الرَّغم من الإصلاحات، ومن الواضح أنَّها تنتظرُ رؤية تحسُّنٍ واضحٍ في الاقتصاد المصريّ قبل رفع التَّصنيف الائتمانيّ، والَّذي سيطمئن الشَّركات إلى جدوى الاستثمار في مصر.
تقليل سيطرة الحكومة على الاقتصاد
وهو يعدُّ المطلبً الأساسيَّ لكلٍّ من صندوق النَّقد الدُّوليّ والشَّركاء العرب، بحيث توافقُ الحكومة على الخصخصة الكليَّة أو الجزئيَّة لصناعاتٍ أساسيَّةٍ وتقليل السَّيطرة الحكوميَّة والعسكريَّة عليها.
اقتصاص الفساد وعلاج البيروقراطية
فهذا من الحلول الأساسيَّة لكلِّ المُشكلات في مصر على الإطلاق، وليس فقط الاستثمار، فعلى الرَّغم من إطلاق بواباتٍ إلكترونيَّةٍ حكوميَّةٍ للتَّعامل مع الخدمات المتنوِّعة وزيادة معدَّلات الاعتماد على الدَّفع الإلكترونيّ، إلَّا أنَّ مستوياتِ الفساد الَّتي يُكشف عنها يوميّاً، والَّتي وصلت إلى مستوياتٍ خانقةٍ ما تزال تتسبَّب في الكثير من المعوّقات الاقتصاديَّة والخسائر بملايين الدُّولارات في وقتٍ تعاني فيه البلاد من نقصٍ حادٍّ في العملة.
شاهد أيضاً: سبب فشل قادة الشركات الناشئة: الملل
وفي النّهاية، فإنَّ الجميعَ بلا استثناءٍ يتفقُ أنَّ السُّوق المصريّ غنيٌّ للغاية بالموارد والمُستهلكين والعمالة الماهرة في كلّ المجالات، كما أنَّ انخفاضَ أسعار التَّشغيل يعدُّ نقطة قوّةٍ لا جدال بها؛ لذا فإنَّ أزمةَ انسحاب الشَّركات من مصر يُمكن حلُّها بقدرٍ كبيرٍ من الشَّفافيَّة والإصلاحات الحقيقيَّة، وليس مجرَّد بياناتٍ لا أساس لها على أرض الواقعِ.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين الجمعة البيضاء والجمعة السوداء؟ كلّ من الجمعة البيضاء والسوداء يُطلقان على يوم التّسوق الكبير في نهاية شهر نوفمبر، ولكنّه عُرف في العالم الغربي بالجمعة السوداء، ويتزامن عادة فقط مع عيد الشكر واليوم الذي يليه، ولكنّه في العالم العربي يمتدّ لمدّة 4 أيام على الأقلّ لمحاولة الابتعاد عن يوم الجمعة في البداية ولإطالة فترة التّسوق، حتّى أنّ بعض المتاجر أصبحت تُطلق عروضها من بداية نوفمبر، بل أيضاً من أكتوبر.
- لماذا تعتبر الجمعة السوداء مهمة للاقتصاديين؟ لأنّها تعتبر مقياساً للقدرة الشرائية وتحديد الإنفاق التقديريّ للمُستهلكين.