برنامج الظل الوظيفي: أن ترتدي حذاء من سبقوك قبل الالتزام الكامل
جسرٌ يُسهّل الانتقال من النظريات والمعلومات إلى التطبيق العملي، مُعززًا بذلك جودة وفعالية التدريب
عندما كان ستيف جوبز، مؤسس شركة أبل، يبحث عن طرقٍ لتحفيز الشباب على دخول عالم التكنولوجيا، قرّر تقديم برنامج الظل الوظيفي للشبان الراغبين في فهم أعماق هذا المجال. كان يدعوهم لمرافقته في اجتماعاته وأنشطته اليومية، مما أتاح لهم فرصةً فريدة للتعرّف على كيفية إدارة واحدةٍ من أكبر شركات التكنولوجيا في العالم.
كان لهذه التجربة تأثيرٌ كبير، لا على الشبان الذين شاركوا فيها فحسب، بل على جوبز نفسه. فقد كتب في إحدى تغريداته على موقع تويتر، التي تابعها ملايين من المعجبين: "أنا متحمسٌ للغاية لرؤية هؤلاء الشبان ينمون ويتطوّرون. هذه ليست مجرّد فرصة لهم للتعلّم، بل هي فرصةٌ لي أيضاً لأتعلّم منهم".
هذه القصة، وإن لم تغطِّ جميع أشكال التظليل الوظيفي، إلّا أنّها تسلّط الضّوء على الأهمية الكبيرة لبرامجه، حيث توفر للأفراد فرصةً للحصول على تجربةً عمليةً في مجالاتهم المهنية المحتملة. كما تعدُّ فرصةً ممتازةً لبناء علاقاتٍ مهنيّةٍ قوية قد تكون البوابة لفرص وظيفية مستقبلية. أمّا فوائد الجوانب الأخرى للتظليل المهني، فسنتناولها عندما نغطي تلك الجوانب، فما هو برنامج الظل الوظيفي إذاً؟
مفهوم الظل الوظيفي
تخيّل للحظة أنك تقف أمامٍ بيت قديم، كنت تحلم بشرائه في صغرك. يظهر البيت جميلاً ومريحاً من الخارج، ولكنه يحتاج إلى بعض الترميم. هذا البيت ليس مجرد مأوى، بل هو استثمار كبير، استثمار قد يأكل معظم مدخراتك.
لكنّ حلم الطفولة ليس كافياً لتقدم على هذا الاستثمار، أليس كذلك؟ لن تقدم على شراء البيت فقط بناءً على مظهره الخارجي أو حلم الطفولة أو الإعلانات الجذّابة. ستدخل البيت، تتفحّص كل غرفة، وربما تقضي فيه ليلة. لماذا؟ لأنك تريد التأكّد من صحة قرارك، تريد أن تعيش التجربة قبل اتخاذ القرار النهائي. الأمر عينه وجب أن ينطبق على المسار المهني، وهنا جاء برنامج الظل الوظيفي.
برنامج الظل الوظيفي هو مثل جولتك التفقدية في ذلك البيت القديم، لكن في مكاتب الشركة، مرتدياً حذاء الموظف الذي يشغل وظيفة أحلامك، ماشياً وراءه كظلّه، ومن هنا جاء مصطلح الظل الوظيفي المترجم عن "Shadowing Job". فالتظليل الوظيفي هو فرصتك للتعرف على جوانب الوظيفة من الداخل، حيث تقف بجانب محترف في المجال وتتعلم من تجربته العملية قبل أن تتورّط في مسار مهنيّ لا يناسبك.
يمكن أن يستغرق البرنامج يوماً واحداً فقط، مما يعطيك نظرةً سريعةً على الوظيفة والمهام المطلوبة فيها. ولكن في بعض الحالات، خاصة للأدوار المعقدة أو المتخصّصة، قد يكون من الأفضل أن يستمر التظليل لمدة أسبوع أو أكثر. هذا يعطيك فرصةّ أفضل لفهم الدور بشكلٍ كامل ولتقييم ما إذا كان هذا هو المسار الذي ترغب في اتّباعه.
السؤال المنطقي الآن، مصلحة هذه العملية أو هذا التدريب واضحةَ جليّة للموظف أو الراغب في الوظيفة لكن ماذا عن الشركة؟ لماذا قد ترغب بـ "احتمال موظف" يركض بين الأقدام؟
ما الذي تجنيه المؤسسات من برنامج الظل الوظيفي؟
برنامج الظل الوظيفي ليس مفيداً للراغب بالوظيفة فحسب، بل يعود بالنفع على المؤسسة التي يفكر في التوظّف فيها. فهي تمنح المؤسسة فرصةً لتقييم مدى ملاءمته للدور الذي يطمح للحصول عليه. ما يقلل معدل الدوران إلى حدٍّ بعيد، ما يخفّض بدوره تكاليف التدريب والبحث عن موظفين وكل ما يأتي مع ذلك من تعقيدات. الأمر الذي تدفع "زابوس" (Zappos) لأجله $1000 للمتدرّب الواحد فيما يعرف بـ "العرض" (The Offer).
زابوس، ولتتجنّب تبعات أخطاء التوظيف، تقول لموظفيها الجدد بعد أسبوع تقريباً من التدريب: "إذا قررت الاستقالة اليوم، سندفع لك مقابل الوقت الذي عملت فيه، بالإضافة إلى منحك مكافأة قدرها 1000 دولار".
هذه اللحظة تعتبر كالفحص النهائي بعد تجربة "الإقامة في البيت القديم". هل ستقرر البقاء والاستثمار فيه، أم ستأخذ المال وتبحث عن فرصة عملٍ أفضل؟ لذا وبكل ثقة يمكننا القول، إن التظليل الوظيفي يخفّض التكاليف المادية والمعنوية ويزيد من هامش الربح والرضا الوظيفي في المؤسسات.
متى يُستخدم برنامج الظل الوظيفي؟
عندما ينضّم الموظف الجديد إلى الشركة، يُواجه تحدياتٍ متعدّدة تتعلق بفهم العمل والتأقلم معه. هنا يظهر دور التظليل الوظيفي كجسرٍ يُسهّل الانتقال من النظريات والمعلومات إلى التطبيق العملي، مُعززاً بذلك جودة وفعالية التدريب.
كما أنّ برنامج الظل الوظيفي يُعتبر كبوابة للتطوير المهني داخل الشركة نفسها. إذ يُمكن للموظف الحالي، من خلال التظليل، الاطّلاع على الأقسام والمسميات الوظيفية التي يُمكنه الانتقال إليها الآن أو في المستقبل.
وفي هذا السياق، يُصبح برنامج الظل الوظيفي فرصةً لا تُقدّر بثمن للتعلّم والتطوير، حيث يُمكن للموظف الاطّلاع على خبرات شخص ذي كفاءة عالية، دون الحاجة للانخراط في برامج توجيه مُعقّدة أو دوراتٍ تدريبية طويلة ومملّة.
وفي سياق التدريب مُتعدد التخصصات، يُعزّز برنامج الظل الوظيفي مرونة الموظفين ويُوسّع مجال مهاراتهم.
وأخيراً، يُمكن استخدام التظليل الوظيفي كأداة فعّالة في عمليات التوظيف. يُمكن تضمين جلسة تظليل تستغرق من 15 إلى 30 دقيقة في المقابلات، لتُعطي المتقدمين نظرة واقعية على ما يُتوقع منهم، مما يُساعد في تقييم مدى ملاءمتهم للدور الذي يُرشحون له.
لم تقتنع بعد! دعنا نعدّد فوائد التظليل الوظيفي إذاً
هناك العديد من المزايا التي يمكنك الاستفادة منها عند المشاركة في تجربة التظليل الوظيفي. دعنا نستعرض بعضها:
فتح أبواب التواصل المهني:
يعد برنامج الظل الوظيفي مفتاحاً للتعرف على الشخصيات البارزة في مجالك المهني. ليس هذا فحسب، بل يمنحك أيضاً الفرصة للقاء مع أصحاب العمل المحتملين وبناء شبكة علاقات قوية يمكنك الاعتماد عليها للحصول على نصائح وإشارات مهنية.
مساعدتك في تحديد مسارك التعليمي والوظيفي:
إذا كنت متردداً بشأن الجامعة التي ترغب في الانضمام إليها، أو التخصص الذي تودّ اختياره، أو حتى الوظائف التي تنوي التقدم لها بعد التخرج، فإن التظليل الوظيفي يُعطيك الصورة الكاملة ويُساعدك في تحديد أهدافك المهنية.
تقديم فرصة للتعرّف على شركة معينة:
إذا كنت تفكر في الانضمام لشركة معينة، فإن التظليل يُعتبر الوسيلة المثلى لفهم ثقافة الشركة والقيم التي تُحكمها، مما يُمكنك من اتخاذ قرار مُستنير.
اكتشف الأدوار الانتقالية في شركتك:
برنامج الظل الوظيفي يُعتبر فرصة ذهبية لاستكشاف ميولك المهنية الأخرى داخل نفس الشركة. بالتعاون مع قسم الموارد البشرية، يُمكنك التظليل لدى زملائك في أقسام مختلفة لتحديد إذا ما كنت ترغب في الانتقال إلى دور جديد عند توفر فرصة.
مساعدتك في تحديد المجالات التي تحتاج إلى تطويرها:
عند التظليل، يُمكنك الانتباه للمهارات -سواءً الفنية أو التواصلية- التي تُعتبر جزءاً أساسياً من الوظيفة. هذا يُساعدك في تحديد الدورات التدريبية والمهارات التي قد تحتاج لاكتسابها لتأهيل نفسك للوظيفة المستهدفة.
الوجه المظلم لبرنامج الظل الوظيفي:
انخفاضات مؤقتة في الإنتاجية:
فترة التظليل ليست فترة تعارف وراحة، بل هي لحظة توقّف في عجلة الإنتاجية. المحترفون يتركون مهامهم الأساسية، ويصبح عبئاً على ظلالهم التركيز على مهام جديدة. ولكن، في النهاية، هذا الانخفاض في الإنتاجية يُعتبر استثماراً مُظلماً يُدر عائداته عندما يُطبّق الموظفون مهاراتهم الجديدة بفعالية أكبر.
قد يكون من الصعب تنظيمه:
تنظيم جداول الأشخاص المُظَلَّلين والمظِّللين يُعتبر مهمة شاقة تُشبه معركةً لوجستية. ليس لمجرد أنك تحتاج لمواءمة الجداول الزمنية، بل لأنّ عليك التعامل مع التوتر والضغط النفسي الذي يأتي مع تحديد من يُظلل ومتى وكيف.
لماذا تتجاهل الشركات العربية برنامج الظل؟
برنامج الظل الوظيفي فرصة ذهبية للتعرّف على تفاصيل العمل من الداخل، لكن للأسف، يواجه الباحثون عن هذه البرامج في الشركات العربية عقباتٍ متعددة. منها الثقافة المؤسسية التي قد تكون غير مُرحبة بالفكرة، خصوصاً في الشركات التي تُفضل الهيكلية والتسلسل الهرمي.
إضافةً إلى ذلك، هناك نقص في الوعي بفوائد هذه البرامج وكيفية مساهمتها في تطوير الموظفين وجذب المواهب الجديدة. ولا يمكننا تجاهل مخاوف بعض الشركات من مشاركة معلومات حساسة مع أشخاص ليسوا جزءاً من الفريق ومخاوف الموظفين من استبدالهم إذا باحوا بـ "سرّ الكار".
من الجدير بالذكر أيضاً أن تنظيم هذه البرامج يتطلب موارد زمنية وبشرية قد لا تكون متوفرة، وهو ما يجعل بعض القرارات تُركّز على أولويات أخرى تعتبرها الشركة أكثر أهمية. وفي بعض الحالات، تُفضّل الاعتماد على الطرق التقليدية للتوظيف والتدريب بدلاً من التظليل.
كما أنّه وفي ظل عدم وجود نماذج ناجحة يُمكن الرجوع إليها، يصعب على الشركات تقدير القيمة الحقيقية لبرنامج الظل الوظيفي. ولكن يُهمنا التأكيد على أن هذه العوامل ليست شاملة وقد تختلف باختلاف الشركة والبيئة التي تعمل فيها.
رسالة أخيرة، إذا كنت صاحب قرار في شركتك، فكّر في هذا البرنامج بشكلٍ جدي وادرس تجارب الشركات الأجنبية إن لم تجد ما يشبع فضولك في العربية.
أمّا إذا كنت موظفّاً أو طالباً يسعى لاختيار مسارٍ مهني يجعله يذهب إلى دوامه كأنّه في موعدٍ غرامي، ابحث عن شركات تقدّم هذا البرنامج. وإن لم تجد، رافق أحداً تعرفه يعمل بمجالٍ تهتّم به، إن أمكن، لبضعة أيّامٍ إلى عمله.