تأثير دانينغ كروجر: متى يقودنا الجهل إلى الثقة الزائدة؟
ظاهرةٌ نفسيّةٌ تدفع غير الخبراء إلى المبالغة في تقدير معرفتهم، بينما يشكّك الخبراء في قدراتهم، ممّا يؤثّر على الأداء واتّخاذ القرارات في مختلف المجالات

تأثير دانينغ كروجر، أو ما يُعرف بـ"Dunning Kruger Effect"، هو أحد أكثر الظّواهر النّفسيّة شيوعاً في حياتنا اليوميّة، حيث نجد أشخاصاً يفتقرون إلى المعرفة أو المهارات في مجالٍ معيّنٍ، لكنّهم في الوقت ذاته واثقون جدّاً من قدراتهم، بل وربما يرون أنفسهم أكثر كفاءةً من الخبراء الحقيقيّين. هذه الظاهرة، الّتي تمّ إثباتها علميّاً، تفسّر لماذا قد يعتقد البعض أنّهم يعرفون كلّ شيءٍ في حين أنّهم لا يدركون مدى جهلهم. وفي المقابل، نجد أن ذوي الخبرة الحقيقيّة غالباً ما يشكّكون في قدراتهم بسبب إدراكهم لتعقيد المعرفة. هذه المفارقة تخلق فجوةً كبيرةً في الإدراك، قد تؤثّر على قرارات الأفراد، سواء في العمل، أو الحياة الشّخصيّة، أو حتّى في المجال السّياسيّ والاقتصاديّ.
ما هو تأثير دانينغ كروجر؟
يُشير تأثير دانينغ كروجر إلى ميل الأشخاص ذوي المعرفة المحدودة إلى المبالغة في تقدير مهاراتهم وكفاءتهم، بينما يميل الخبراء الحقيقيّون إلى التّقليل من شأن معرفتهم. تم اكتشاف هذه الظّاهرة من قبل الباحثين ديفيد دانينغ وجاستن كروجر في أواخر التّسعينيات، عندما لاحظا أنّ الأفراد غير الأكفّاء يفتقرون إلى الوعي اللّازم لتقييم مهاراتهم بشكلٍ صحيحٍ. إذ تؤدّي هذه الظّاهرة إلى وجود فئةٍ من الأشخاص الّذين يعتقدون أنّهم "يعرفون كل شيء"، بينما في الحقيقة يفتقدون إلى المعرفة الأساسيّة الّتي تؤهّلهم للحكم الصّحيح على الأمور.
شاهد أيضاً: النظرية المعرفية: كيف تُفسِّر عمليّات التّفكير؟
المراحل الأربع لتأثير دانينغ كروجر
يمكن تقسيم تأثير دانينغ كروجر إلى أربع مراحل رئيسيّةٍ تعكس تطور الإدراك لدى الأفراد:
-
مرحلة الثّقة الزّائدة (قمة الجهل): عندما يكتسب الفرد معرفةً بسيطةً في مجالٍ معيّنٍ، يشعر بأنّه أصبح خبيراً، رغم افتقاره إلى الفهم العميق، ويميل إلى التّصرّف بثقةٍ مفرطةٍ والاعتقاد بأنّه يملك إجاباتٍ لكلّ الأسئلة.
-
مرحلة الشّك (وادي اليأس): بعد التّعرّض لمزيدٍ من المعرفة، يبدأ الفرد في إدراك مدى تعقيد الموضوع، ممّا يؤدّي إلى انخفاض ثقته بنفسه، وتتميّز هذه المرحلة بالوعي بالمحدوديّة الذّاتيّة والبدء في التّشكيك في القدرات الشّخصيّة.
-
مرحلة الصّعود التّدريجيّ (منحنى التّعلّم): مع مزيدٍ من الخبرة والممارسة، يبدأ الشّخص في استعادة ثقته، ولكن هذه المرّة بشكلٍ أكثر توازناً. ويتعلّم الفرد أنّه لا يملك جميع الإجابات، لكنّه قادر على تطوير مهاراته وتحسين معرفته.
-
مرحلة الخبرة الحقيقيّة (قمّة الحكمة): يصل الفرد إلى مستوىً عالٍ من الخبرة، ولكنّه يدرك أنّه لا يزال هناك الكثير ليتعلّمه، ويتميّز بالثّقة المتزنة والقدرة على التّقييم الموضوعيّ للمعرفة.
لماذا يحدث تأثير دانينغ كروجر؟
في إحدى المحاضرات الجامعيّة، وقف طالبٌ حديث العهد بعالم الفلسفة، وبتحدٍّ واضحٍ، بدأ يجادل أستاذه في نظريّاتٍ معقّدةٍ، مقتنعاً بأنّه يملك إجاباتٍ تفوق ما يقدّمه المنهج الأكاديميّ؛ لم يكن يدرك حينها أن معرفته السّطحيّة جعلته فريسةً سهلةً لهذا التّأثير. لا تنبع هذه الظّاهرة من الغرور وحده، بل هي نتيجةٌ طبيعيّةٌ لآليّة التّفكير البشريّ، فعندما يخطو الإنسان أولى خطواته في مجالٍ جديدٍ، يتوهّم بسرعةٍ أنّه قد فهم الصّورة الكاملة؛ لأنّه ببساطةٍ يفتقر إلى الأدوات النّقديّة الّتي تجعله يدرك مدى تعقيد المعرفة الحقيقيّة.
الأمر لا يتوقّف عند الأفراد فحسب، بل يمتدّ إلى المؤسّسات وحتّى إلى المجتمع ككلٍ. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من السّهل لأيّ شخصٍ أن يعبّر عن رأيه بثقةٍ مفرطةٍ، مدعوماً بمنصّاتٍ تُعزّز التّحيّز المعرفيّ، حيث يتمّ تداول المعلومات المضلّلة بسرعة البرق دون تمحيص.ٍ وهكذا، يجد الكثيرون أنفسهم عالقين في وهم المعرفة، غير مدركين أنّهم بعيدون عن الفهم الحقيقيّ.
كيف يمكن تجنب تأثير دانينغ كروجر؟
كان هناك طبيبٌ مبتدئٌ، خرج لتوّه من سنوات الدّراسة الطّويلة، وقد شعر أنّه بات قادراً على تشخيص جميع الأمراض بمجرّد سماع الأعراض. لكن مع أوّل حالةٍ معقّدةٍ، اكتشف كم كان مخطئاً. إدراك الإنسان لحدود معرفته ليس بالأمر السّهل، لكنّه الخطوة الأولى لكسر دائرة الثّقة الزّائفة.
الحلّ لا يكمن فقط في التّعلّم، بل في الانفتاح على النّقد البنّاء، فأولئك الّذين يتقبّلون تصحيح أخطائهم، ويبحثون عن آراء أكثر خبرةً، يصبحون أكثر وعياً بحدود معرفتهم. كما أنّ القراءة المستمرّة، والتّحقّق من المعلومات، وعدم التّسرع في الأحكام، كلّها أدواتٌ تساهم في بناء وعيٍ أعمق وأكثر توازناً.
تأثير دانينغ كروجر هو أحد العوامل الّتي تفسّر لماذا يبالغ البعض في تقدير معرفتهم، بينما يشكّ الخبراء في أنفسهم، إذ تؤثّر هذه الظّاهرة على طريقة تفكيرنا واتّخاذ قراراتنا في جميع جوانب الحياة، ممّا يجعل التّعلّم المستمرّ، والنّقد البنّاء، والتّفكير النّقديّ أدواتٍ ضروريّةً للحدّ من تأثيرها.