الرئيسية المفاهيم تأثير راشومون: الحقيقة لم تَعُد واحدة!

تأثير راشومون: الحقيقة لم تَعُد واحدة!

لوحةٌ من الرّوايات المتضاربة تُشكِّل واقعاً غامضاً، حيث تصبح الحقيقة مجرّد انعكاسٍ مشروخٍ في مرآة السَّرد

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

تأثير راشومون، أو ما يُعرف بـ"Rashomon Effect"، ليس مجرَّد مصطلحٍ عابرٍ في علم النّفس أو سطور النّقد السّينمائيّ، بل هو نافذةٌ على دهاليز النّفس البشريّة، حيث تتقاطع الرّؤى، لتتشكَّل من الحقيقة الواحدة فسيفساء نابضةً بالرّوايات المتضاربة. تلك الظّاهرة الّتي أبدع في تجسيدها المخرج اليابانيّ أكيرا كوروساوا في رائعته الخالدة «راشومون» عام 1950، لم تبقَ حبيسة الشّاشة البيضاء، بل تسلَّلت إلى قاعات المحاكم، وزوايا غرف الاجتماعات، وأحاديث العابرين في تفاصيل الحياة اليوميّة؛ لتُلقي علينا السّؤال الأثقل والأكثر مكراً: تُرى، هل الحقيقة واحدةٌ حقّاً أم أنّ لكلِّ عينٍ راشومونها؟

تعريف مفهوم تأثير راشومون

يُشير تأثير راشومون إلى ميل الأشخاص لرواية نفس الحدث بصورٍ متناقضةٍ، نتيجةً لاختلاف دوافعهم، ووجهات نظرهم، وطرق إدراكهم وتفسيرهم للوقائع. تُظهر هذه الظّاهرة كيف يُمكن لعقولنا أن تعيد تشكيل الأحداث بطريقةٍ تتماشى مع قناعاتنا أو مصالحنا أو حتّى مشاعرنا غير الواعية، فيتحوَّل الحدث الواحد إلى مشهد تتعدَّد فيه الرّوايات بتعدُّد الرّواة.

متى يظهر تأثير راشومون؟

عادةً ما يظهر هذا التّأثير في المواقف الّتي تتضمَّن شهاداتٍ متعدِّدةً عن حادثةٍ معيَّنةٍ، كحوادث المرور، والتّحقيقات القضائيّة، والصّراعات داخل بيئات العمل، وحتّى في الذّكريات العائليّة أو القصص الّتي تنتقل عبر الأجيال. فحين يستمع الباحث أو القاضي أو المستمع إلى أكثر من شاهدٍ، قد يُفاجأ بتفاصيل مختلفةٍ تماماً حول نفس الواقعة، بل وقد تكون هذه التّفاصيل متضاربةً بشكلٍ يصعب معه التّوفيق بينها.

الأسباب النفسية وراء التناقض في الروايات

لا ينبع هذا التّأثير من مجرَّد سوء نيّةٍ أو رغبةٍ في الكذب، بل يمتدُّ إلى جذورٍ أعمق في النّفس البشريّة؛ فالعقل لا يُسجِّل الأحداث كآلة تصويرٍ محايدةٍ، بل يختار ويركِّز ويُهمل وفقاً لعوامل نفسيّةٍ وشخصيّةٍ، كالتّوقعات السّابقة، والحالة الانفعاليّة لحظة الحدث، وميول الفرد ودوافعه. كما تتدخَّل آلياتٌ، مثل: الإسقاط، والتّحيُّز التّأكيديّ، وتلوين الّذاكرة لتُعيد تشكيل الصّورة الذّهنيّة للحدث بما يتماشى مع المنظور الذّاتيّ.

تأثير راشومون في الحياة اليومية وإدارة الأعمال

لا تقتصر هذه الظّاهرة على نطاق الأفراد فقط، بل تنعكس آثارها بقوَّةٍ في المؤسّسات والشّركات. فحين تقع أزمةٌ داخل فريق عملٍ أو يحدث خللٍ في مشروعٍ ما، تُصبح محاولات فهم ما جرى معقَّدةً بفعل تعدُّد الرّوايات. كلُّ طرفٍ يرى المشكلة من زاويته الخاصَّة، ويُبرز ما يدعمه ويتجاهل ما يُدينُه، ممَّا يصعِّب الوصول إلى قرارٍ عادلٍ أو تقييمٍ موضوعيٍّ. وتكمن خطورة هذا الأثر في أنَّه قد يؤدِّي إلى تصعيد النّزاعات، وتعميق الخلافات، وتراجع الثّقة بين أفراد الفريق.

التمييز بين الحقيقة والتصوُّرات

يُعدُّ التّمييز بين الحقيقة والتّصوُّر الذّاتي من أكبر التّحدِّيات الّتي يُثيرها تأثير راشومون؛ فكيف يمكن الوصول إلى الحقيقة وسط هذا الضّباب؟ يعتمد ذلك على قدرة القائد أو المحقِّق أو المستمع على تفكيك الرّوايات، والبحث عن القواسم المشتركة، ومحاولة فهم الدّوافع النّفسيّة الّتي قد تكون وراء كلِّ شهادةٍ. كما أنَّ تقنيات مثل المقابلات المعمَّقة، وتحليل لغة الجسد، وتفكيك السّياق الزّمنيّ والتّسلسليّ للأحداث قد تُساعد في تقليص هذا التّأثير، لكنَّ القضاء عليه تماماً يظلُّ أمراً صعباً.

لماذا يهمُّنا فهم تأثير راشومون؟

في عالمٍ يموج بالصّراعات، والتّعدُّدية الثّقافيّة، وتباين الخلفيّات، يصبح فهم هذا التّأثير أداةً حيويّةً لفهم الآخر، وتخفيف حدّة النّزاعات، وبناء حواراتٍ قائمةٍ على الإنصات العميق والتّسامح. كما يُمكِّن الأفراد والقادة من التّحلِّي بوعي نقديٍّ حيال ما يُقال ويُروى، وعدم التّسرُّع في تصديق أو إنكار الرّوايات من الوهلة الأولى.

يبقى تأثير راشومون درساً بليغاً في هشّاشة الذّاكرة البشريّة، ونسبيَّة الحقيقة، وتعقيد النّفس. وكلَّما تعمَّق فهمنا له، ازدادت قدرتنا على التّميّيز بين ما يُقال وما حدث فعلاً، لنقترب خطوةً نحو إدراكٍ أكثر اتّزاناً وموضوعيَّةً للحياة.

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
آخر تحديث:
تاريخ النشر: