تسونامي الذكاء الاصطناعي قادم: هل الشركات الإماراتية مستعدة؟
ما نشهده اليوم يعيد تشكيل أسس العمل والتّفكير والإبداع بشكلٍ جذريٍّ
هذا المقال متوفّر بلغته الأصليّة الإنجليزية، بقلم جيغار ساجار هنا
لقد شهدتُ عبر العقود تحوّلاً عجيباً في عالم الأعمال، تحوّلاً لم يكن ليخطر على بالٍ إلّا نفرٌ قليلٌ ممّن امتلكوا القدرة على قراءة المستقبل. فمنذ أن بزغت شمس الإنترنت، ثمّ تفجّرت وسائل التّواصل الاجتماعيّ كالطّوفان، كانت كلّ قفزةٍ تكنولوجيّةٍ تعيد تشكيل استراتيجيّات الشّركات وطرائق عملها، كأنّ العالم يخلق من جديدٍ مع كلّ اكتشافٍ.
لكن، ما نشهده اليوم من ثورة الذّكاء الاصطناعيّ ليس كأيّ شيءٍ مضى، فهو موجةٌ عاتيةٌ، أو قل تسونامي جارفٌ، يعد بأن يلقي بظلاله الكثيفة على كلّ ما عرفناه من قبل. هنا في الإمارات، لطالما تفاخر قادة الأعمال بقدرتهم على استباق الزّمن، وعلى التّقدّم بخطواتٍ أمام العالم في مجالات الابتكار. وهذا حقٌّ، فقد كنّا دوماً أسرع الأمم في التّكيّف مع التّحوّلات التّكنولوجيّة. لكنّ هذه المرّة، الأمر مختلفٌ. هذه المرّة، نحن أمام تحوّلٍ يفوق التّصوّر.
إنّ التّغيير التّكنولوجيّ الّذي نشهده اليوم لا يعيد تشكيل طرائق عمل الشّركات فحسب، بل يدفعنا إلى إعادة تصوّرٍ جوهريٍّ لماهيّة الشّركات نفسها، وكيف تفكّر، وكيف تبدع القيمة. ويبقى السّؤال معلّقاً في الهواء: هل تستطيع شركاتنا في الإمارات أن تواكب هذا المدّ العظيم؟
ومن تجربتي الطّويلة، أدركت أنّ البقاء لا يكون للأقوى دائماً، بل للأكثر مرونةً وقدرةً على التّكيّف. ولهذا، أقولها بوضوحٍ: على الشّركات في الإمارات أن تستعدّ لأعظم اختبارٍ للتّكيّف عرفه هذا الجيل.
أبعد ممّا تراه العين
إنّ ما نشهده اليوم من تطوّراتٍ في مجال الذّكاء الاصطناعيّ قد يدهش البعض، ولكنّه، في الحقيقة، ليس إلّا البداية. نعم، تستطيع أن تطلب من روبوتٍ أن يكتب لك ردّاً على بريدٍ إلكترونيٍّ، أو أن يخبرك بعاصمة دولةٍ، بينما تستعدّ لخوض مسابقة معلوماتٍ عامّةٍ. لكن هل هذه هي غاية الذّكاء الاصطناعيّ؟ هل هذه هي حدوده؟
تذكّرت، وأنا أفكّر في هذا السّؤال، تلك الأيّام الأولى الّتي ظهرت فيها السّيّارات. يومها أطلق النّاس عليها اسم "عرباتٍ بلا خيولٍ"، لأنّهم لم يستطيعوا تصوّرها إلّا من خلال ما عرفوه سابقاً. ألسنا نرتكب الخطأ نفسه اليوم مع الذّكاء الاصطناعيّ؟ ألسنا نحصره في إطار "برامج حاسوبيّةٍ يمكننا الدّردشة معها"؟
لقد تعلّمت، من خلال خوضي لتجارب عديدةٍ في عالم المشاريع التّقنيّة، أن أنظر دوماً إلى ما وراء الأفق. الأسئلة الّتي تقضّ مضجعي ليست عن الشّركات الّتي ستصمد أو المهارات الّتي ستكون مطلوبةً في المستقبل، بل عن الكيفيّة الّتي ستعيد بها التّقنيّات الجديدة، كحال الذّكاء الاصطناعيّ، صياغة المعادلة الكاملة لخلق القيمة في عالم الأعمال.
وفقاً لدراسةٍ حديثةٍ أعدّتها شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" (PwC)، يمكن للذّكاء الاصطناعيّ أن يضيف للاقتصاد العالميّ ما يصل إلى 15.7 تريليون دولارٍ أمريكيٍّ بحلول عام 2030، وهذا رقمٌ يتجاوز النّاتج الإجماليّ للصّين والهند مجتمعين. وفي دراسةٍ أجرتها جامعة أوكسفورد، يتوقّع أن تصبح 47% من الوظائف الحاليّة مؤتمتةً تماماً بحلول أوائل الثّلاثينيّات من هذا القرن. أمّا المنتدى الاقتصاديّ العالميّ، فقد ذهب إلى القول بأنّ 65% من الأطفال الّذين يدخلون المدارس اليوم سيعملون في وظائف لم تخترع بعد.
استعدّ للمستويات الخمسة من الذّكاء الاصطناعيّ
وفقاً لمعلوماتٍ من الدّاخل تمّت مشاركتها مع بلومبرج، فإنّ "أوبن إي آي" ومقرّها سان فرانسيسكو - الشّركة الّتي تقف وراء أداة الذّكاء الاصطناعيّ المنتشرة في كلّ مكانٍ الآن، شات جي بي تي (ChatGPT) - لديها خارطة طريقٍ لخمسة مستوياتٍ من تطوير الذّكاء الاصطناعيّ. المستوى الأوّل هو الذّكاء الاصطناعيّ الّذي لدينا اليوم - إنّه جيّدٌ حقّاً في مهامٍّ محدّدةٍ مثل الإجابة على الاستفسارات أو التّعرّف على الوجوه أو ترجمة اللّغات، ولكنّه ليس جيّداً تماماً.
المستوى الثّاني هو المكان الّذي يمكن فيه لجهاز الذّكاء الاصطناعيّ التّعامل مع مهامّ التّفكير المعقّدة، مثلما يستطيع البشر. إنّها خطوةٌ كبيرةٌ. في يوليو، لمّح سام ألتمان، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة "أوبن إي آي"، إلى أنّ شركته قد تكون قريبةً من المستوى الثّاني من الذّكاء الاصطناعيّ. منذ ذلك الحين، أصدرت الشّركة "معاينةً o1"، وهي نسخةٌ أوّليّةٌ من نموذج o1 القادم، الّتي تعرض قدراتٍ محسّنةً في التّفكير وحلّ المشكلات والقدرة على التّكيّف عبر مهامّ متنوّعةٍ، ممّا يشير إلى تقدّمٍ كبيرٍ نحو تطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ الأكثر استقلاليّةً وتطوّراً.
المستوى الثّالث هو عندما يمكن أن يطابق الذّكاء الاصطناعيّ الذّكاء مع أذكى البشر في أيّ مجالٍ. والمستوى الرّابع هو عندما لا يفكّر الذّكاء الاصطناعيّ فحسب، بل يأتي بأفكارٍ رائدةٍ دون توقّفٍ. والمستوى الخامس؟ هذه هي النّقطة الّتي يتفوّق فيها الذّكاء الاصطناعيّ على البشر بكلّ طريقةٍ يمكن تخيّلها. هذا هو المستوى الّذي يمكن فيه الذّكاء الاصطناعيّ أن "يقوم بعمل المنظّمات".
إليك تجربةً فكريّةً: تخيّل شرح هاتفك الذّكيّ لشخصٍ من عام 1850. تخيّل الآن محاولة شرح المستوى الخامس من الذّكاء الاصطناعيّ لأنفسنا اليوم. هذا هو حجم التّغيير الّذي نناقشه.
حتميّة العمل
بالنّسبة للمؤسّسات الإماراتيّة الّتي تقف على مفترق الطّرق التّكنولوجيّ هذا، يمثّل كلّ مستوًى متقدّمٍ من الذّكاء الاصطناعيّ نقلةً نوعيّةً أساسيّةً في كيفيّة تصوّر الأعمال نفسها. وسيكون هذا التّحوّل عميقاً وبعيد المدى، ويمسّ كلّ جانبٍ من جوانب عمليّاتنا، بدءاً من قاعات التّداول في مركز دبي الماليّ العالميّ إلى مصانع مناطق خليفة الاقتصاديّة في أبوظبي.
مع تقدّمنا من خلال مستويات الذّكاء الاصطناعيّ هذه، سنشهد إعادة تشكيلٍ غير مسبوقةٍ للحمض النّوويّ التّنظيميّ. سيتمّ أتمتة المهامّ المعرفيّة الرّوتينيّة، من التّحليل الماليّ إلى إدارة سلسلة التّوريد، بشكلٍ متزايدٍ، ممّا يسمح للقوى العاملة لدينا بالتّركيز على أفضل ما يفعله البشر: التّفكير الاستراتيجيّ والذّكاء العاطفيّ وحلّ المشكلات الإبداعيّ. إذا كنت رئيساً تنفيذيّاً، فهذا هو الوقت المناسب للتّفكير في المستقبل، وكيف ستستعدّ لهذه التّغييرات الواردة.
إذن، ما هي الخطوات الّتي يمكن لقادة الأعمال في الإمارات اتّخاذها اليوم؟ أوّلاً، استثمر في محو الأمّيّة حول الذّكاء الاصطناعيّ عبر مؤسّستك. شجّع فرقك على فهم ليس فقط ماهية الذّكاء الاصطناعيّ، ولكن كيف يمكن تطبيقه في مجال عملك المحدّد. ثانياً، ضع في اعتبارك شراكاتٍ مع الشّركات النّاشئة في مجال الذّكاء الاصطناعيّ أو شركات التّكنولوجيا لتجربة مبادرات الذّكاء الاصطناعيّ. على سبيل المثال، نجحت شركة طيران الإمارات في دمج الذّكاء الاصطناعيّ لتعزيز خدمة العملاء، في حين تستخدم ماستركارد الرّائدة عالميّاً في مجال المدفوعات الذّكاء الاصطناعيّ للكشف عن الاحتيال. توضّح هذه الأمثلة الفوائد الملموسة للتّبنّي المبكّر.
سيصبح اتّخاذ القرار في مجالس الإدارة لدينا أكثر تعقيداً بشكلٍ كبيرٍ، مدعوماً بأنظمة الذّكاء الاصطناعيّ الّتي يمكنها معالجة كمّيّاتٍ هائلةٍ من البيانات دون تحيّزٍ بشريٍّ. ستتمّ ضغط دورات الابتكار الّتي استغرقت سنواتٍ في شهورٍ أو حتّى أسابيع.
ومع ذلك، فإنّ هذا التّحوّل لا يخلو من التّحدّيات. تعدّ العقبات التّنظيميّة والمخاوف المتعلّقة بخصوصيّة البيانات ونقص المواهب الماهرة من العوائق الكبيرة. لسدّ الفجوة بين النّيّة والعمل، يجب على الشّركات تطوير استراتيجيّاتٍ شاملةٍ تعالج هذه القضايا. يعدّ تنفيذ سياساتٍ قويّةٍ لحوكمة البيانات، والاستثمار في برامج إعادة مهارات الموظّفين، وتعزيز ثقافةٍ تتبنّى التّغيير خطواتٍ أساسيّةً إلى الأمام.
مواجهة التّحديات
في حين يتوقّع 87% من المديرين التّنفيذيّين أن يسهم الذّكاء الاصطناعيّ التّوليديّ في تعزيز الأدوار الوظيفيّة، إلّا أنّ 35% فقط هم من نفّذوا مبادراتٍ شاملةً لإعادة تأهيل المهارات حتّى الآن.
بالنّسبة لقادة الأعمال في الإمارات، يتطلّب هذا التّحوّل إعادة التّفكير جذريّاً في كيفيّة هيكلة مؤسّساتنا. ينبغي أن نصبح مصمّمين لنموذجٍ جديدٍ من بيئات العمل، حيث يعمل البشر وأنظمة الذّكاء الاصطناعيّ بتناغمٍ وسلاسةٍ. ويتطلّب ذلك إعادة تصميم أساليب العمل، وإعادة تعريف الأدوار الوظيفيّة، والأهمّ من ذلك، تعزيز ثقافة التّعلّم المستمرّ والتّكيّف السّريع مع المتغيّرات.
ستكون المؤسّسات الّتي تحقّق التّوازن المثاليّ بين البصيرة البشريّة وقدرات الذّكاء الاصطناعيّ هي الرّابحة في هذا المشهد الجديد. تلك المؤسّسات الّتي تسرع في دمج الذّكاء الاصطناعيّ ضمن عمليّاتها ستكتسب قدراتٍ غير مسبوقةٍ تمكّنها من أتمتة العمليّات، وتعزيز عمليّة اتّخاذ القرار، وتقديم تجارب مخصّصةٍ على نطاقٍ واسعٍ.
لكنّ النّقطة الجوهريّة هنا تكمن في أنّ الرّيادة في مجال الذّكاء الاصطناعيّ لا تتعلّق فقط بالاستثمار في التّكنولوجيا الحديثة. إنّها تتطلّب شجاعةً لإعادة تصوّر نماذج الأعمال التّقليديّة، ومرونةً للتّعلّم والتّكيّف بسرعةٍ، وحكمةً للتّعامل مع الآثار الأخلاقيّة والثّقافيّة النّاتجة عن دمج الذّكاء الاصطناعيّ.
لا يمكن تجاهل القضايا الأخلاقيّة المرتبطة بالذّكاء الاصطناعيّ. تشمل هذه القضايا التّحيّز في الخوارزميّات، والتّأثير على الوظائف، والاستخدام الأخلاقيّ للبيانات. على الشّركات أن تضمن أنّ أنظمتها القائمة على الذّكاء الاصطناعيّ تتسم بالشّفافيّة، والنّزاهة، والمساءلة. على سبيل المثال، يتطلّب التّنفيذ الأخلاقيّ للذّكاء الاصطناعيّ العمل على إزالة التّحيّزات الّتي قد تؤثّر سلباً على مجموعاتٍ معيّنةٍ بشكلٍ غير عادلٍ.
هذا الالتزام يصبح أكثر أهمّيّةً في سياقنا الثّقافيّ الفريد، حيث تلتقي القيم التّقليديّة مع الابتكار الحديث. لدى الشّركات الإماراتيّة فرصةٌ فريدةٌ لإظهار كيف يمكن للذّكاء الاصطناعيّ أن يستخدم بطريقةٍ تحترم التّراث الثّقافيّ وتعزّزه، مع دعم التّقدّم الاقتصاديّ في الوقت ذاته.
ثورة الذّكاء الاصطناعيّ ليست بعيدة المنال؛ إنّها تحدث الآن. الخيارات الّتي تتّخذ اليوم ستحدّد نجاح المؤسّسات في المستقبل القريب. لذا، أدعو قادة الأعمال إلى اتّخاذ خطواتٍ عاجلةٍ: تثقيف فرق العمل حول إمكانات الذّكاء الاصطناعيّ، والاستثمار في المبادرات التّكنولوجيّة، وإعادة تصميم نماذج أعمالهم بما يتماشى مع هذا التّحوّل الكبير.
عن الكاتب:
جيغار ساجار هو رائد أعمالٍ متسلسلٌ ومؤسّس شركة "تري ليف" (Triliv)، وهي شركةٌ عائليّةٌ مقرّها الإمارات، تركّز على إدارة الثّروة وتنميتها عبر استراتيجيّاتٍ استثماريّةٍ مبتكرةٍ.