تعويم العملة الوطنية.. متى يكون فعلياً في مصلحة الدولة؟
تعويم العملة الوطنية قرار سيادي لمعالجة الاقتصاد، رغم فوائده، يتسبب بآثار شديدة على الفئات الفقيرة والمتوسطة، ويستلزم شروطاً لتحقيق نجاحه
تعويم العملة الوطنية من القراراتِ السِّياديةِ التي تلجأُ إليها الأنظمةُ السِّياسيَّةُ لتصحيح المسار الاقتصاديِّ في المقام الأوَّل، ويُتركُ سعرُ العملة وقتها ليتحدَّدَ وفقاً للعرضِ والطَّلبِ التِّلقائيِّ في السُّوقِ بما يضمنُ بيع وشراء الأصولِ بالسِّعرِ نفسه في البلدان المختلفة، ولكنَّ هذا الإجراء على الرَّغمِ من فوائده على الاقتصاد المحلِّيِّ والعالميِّ، إلَّا أنَّهُ من القراراتِ شديدةِ الصُّعوبةِ على الأنظمة النّامية لما له من تبعاتٍ شديدةٍ على الطَّبقات الفقيرة والمتوسَّطة مع ارتفاعٍ شديدٍ في التَّضخُّم، قد لا تتمكّنُ الكثيرُ من فئات الشَّعب من مواكبته؛ لذا تختار معظم الدُّول النَّامية سعر الصَّرف الثَّابت أو المربوط لتضمن مناخاً مستقرّاً أكثر للاستثمار الأجنبيِّ.
لكن قد تضطرُّ الدَّولةُ تحت العجز الشَّديد في ميزان المدفوعات وزيادة سيطرة السُّوقِ السَّوداء وبيع العملات الأجنبيَّة خارج النِّطاقِ الرَّسميِّ مع التَّراجعِ الشَّديدِ في الاحتياطيّ الأجنبيّ أن تتخذَ إجراء تعويم العملة الوطنية، والذي عندما يتمُّ دون إصلاحاتٍ اقتصاديَّةٍ قويَّةٍ وراسخةٍ فإنَّ النَّتيجةَ قد لا تكون دائماً في مصلحة الدَّولة.
فما الشُّروطُ التي يجب أن تهتمَّ بها الدَّولةُ قبل تعويم العملة؟ وما المميّزات التي تحصلُ عليها؟ وما أهمُّ المخاطر والتَّحدّيات وطرقُ تجنُّبها بكفاءةٍ فعليَّةٍ؟ كلُّ هذا وأكثر سنتعرَّفُ عليه في الأسطر المُقبلة.
معنى تعويم العملة النقدية
يعني تعويم العملة النَّقدية أن يُتركَ سعرُها يُحدَّدُ من خلالِ سوق الصَّرف الأجنبيّ وفقاً للعرض والطَّلب عليها مقارنةً بالعملات الأخرى، وهنا تتداول دون أيّ قيودٍ على العكس من العملات ذات سعر الصَّرف الثَّابت، ويعني التعويم أيضاً أن سعرَ العملة لا تُحدِّده الحكوماتُ والبنوك المركزيَّة، وإن كان بالإمكان أن تتدخَّلَ برفع سعر الفائدة لتحجيم التَّضخُّم إذا لم يتَّجه سعرُ العملة وفقاً لتوقُّعات الحكومة أو كانت مُقيَّمةً بأقلِّ من قيمتها، وأصبحت الحكومات الآن تتنافسُ في رفع سعر الفائدة لرفع قيمة عملاتها حتَّى إذا كان هذا سيؤدّي إلى عجزٍ في الميزان التّجاريّ. [1]
أسباب تعويم العملة
تلجأُ الدُّولُ إلى تعويم العملة الوطنية لمجموعةٍ من الأسبابِ، ومن أهمِّها:
-
الأوضاع الماليَّة والاقتصاديَّة غير المستقرَّةِ والتي غالباً ما تتزامن مع كوارث طبيعيةٍ أو إنسانيَّةٍ مثل وقت انتشار كوفيد-19 أو الحروب أو الثَّورات، والتي تؤثِّرُ بشكلٍ مباشرٍ على الاستثمار الأجنبيّ وتؤدِّي إلى عجزٍ صارخٍ في ميزانِ المدفوعاتِ.
-
عندما يضطرب سوق العملة بشدَّةٍ وتكثر المضارباتُ ويكون السِّعر الرَّسميُّ أقلَّ بكثيرٍ من سعرِ السُّوقِ السَّوداء، ممَّا يُؤثّر سلباً على حجم الاحتياطيّ الأجنبيّ وتزيد فاتورة الاستيرادِ.
-
عندما تجدُ الدَّولةُ التزاماتها الخارجيَّة من الدُّيون الخارجيَّة أو الدَّاخليَّة أكبرَ بكثيرٍ ممَّا تحقِّقهُ من دخلٍ فتضطرُّ إلى التَّعويم لخفضِ سعر العملة الوطنية وجذب الاستثمارات وتقليل الدَّين الدَّاخليّ.
فوائد تعويم العملة الوطنية
يتزامنُ تعويم العملة الوطنية عادةً بعددٍ من الاحتجاجاتِ خصوصاً من الطَّبقاتِ الفقيرةِ والمتوسِّطةِ، ولكنَّ على الرَّغمِ من هذا فإنَّ هذا القرار يكون ضروريّاً في الكثيرِ من الأحيان لتحقيق فوائد ضخمةٍ، ومن أهمِّها: [2]
-
تحقيق الاستقرار في ميزان المدفوعات: عندما تنخفض قيمة العملة الوطنيَّة، فإنَّ صادراتِ البلاد سوف تكون أرخص، وبالتَّالي سيزيدُ الإقبال على منتجاتها أكثر، وبالتَّالي تحقيقُ التَّوازن في ميزان المدفوعاتِ، وهو ما يعني أنَّ صادراتِ البلدِ تكونُ أكثرَ من وارداتِها، وبالتَّالي ترتفعُ قيمةُ عملتها.
-
ارتفاعُ الاحتياطيّ النَّقديّ الأجنبيّ: وهو أمرٌ شديد الأهمّيَّة لتعزيزِ النُّموِّ الاقتصاديِّ واستيرادِ السِّلعِ الرأسماليَّةِ التي تدخل في التَّصنيع، فعند تعويم العملة يتخلَّى الكثيرون عن العملات الأجنبيَّة وتتراجع المضاربات التي تُقلِّل سعر العملة الوطنيَّة.
-
تعزيز كفاءة السُّوق: فإنَّ اقتصادَ أيِّ بلدٍ يُؤثِّرُ على أسعار الصَّرف في مختلفِ الأسواقِ العالميَّةِ، ويُعزِّزُ محافظَ البلدانِ، وبالتَّالي يمنعُ هيمنةَ عملةٍ أو سلَّةِ عملاتٍ معيَّنةٍ على مجريات الاقتصاد.
ما هي شروط تعويم العملة؟
للانتقال النَّاجح من سعر الصَّرف الثَّابت إلى التعويم أو تحرير سعر الصَّرف، فإنَّ مختلفَ تجارب الدُّولِ منذ عامِ 1971، ومنذ اتّباع هذا النّظام في تحديد أسعار الصَّرف بيَّنت ضرورة وجود شروطٍ محدَّدةٍ لمنعِ الآثارِ السَّلبيَّة، ومن أهمّ شروطِ التعويم النَّاجح للعملة الوطنيَّة: [3]
-
توفُّرُ سوقِ صرفٍ أجنبيٍّ عميقٍ ومرنٍ، فمن دون التَّداول الحرّ للعملة بتوفّر احتياطيٍّ نقديٍّ أجنبيٍّ وسهولة الحصول عليه، فإنَّ التعويم قد يُضعفُ العملة الوطنيَّة بمعدلاتٍ كارثيَّةٍ.
-
وجودُ سياسةٍ نقديَّةٍ متماسكةٍ من البنكِ المركزيّ، بحيث يتدخَّل لشراء أو بيع العملة المحلّيَّة للتَّأثيرِ على اتّجاهات سعرها مع القابلية للتَّحكُّم في أسعار الفائدة لرفع قيمة العملة.
-
نقطةُ ارتكازٍ قويَّةٌ بديلةٌ تحلُّ محلَّ سعر الصَّرفِ الثَّابتِ، وتؤدِّي لاتِّزانٍ في سعر العملة، مثل اللُّجوء إلى الصَّادرات أو بيع الأصول أو الاستثمار الأجنبيّ أو غيرها من إجراءاتٍ لتجنُّب التَّذبذب الضَّخم في سعر العملة، وبالتَّالي التَّأثير سلباً على الاستثمار.
-
توفرُ أنظمةٍ اقتصاديَّةٍ شديدة الكفاءة لمراجعة تأثيرِ تعويم العملة الوطنية على كلٍّ من القطاعينِ العامّ والخاصّ ومحاولة التَّقليل من الآثار السَّلبيَّة.
أنواع تعويم العملة النقدية
عندما تتَّجه الدَّولةُ إلى تعويم العملة الوطنية، فإنَّها عادةً ما تتَّخذُ واحداً من نوعين من أنواع تعويم العملة، وهما:
-
التعويم المدار أو الموجه: وفيه تتبع الدَّولة سعر صرفٍ حرٍّ للعملة الوطنيَّة، ولكن مع إشرافٍ وتدخلٍ محدودٍ من البنك المركزيّ، بحيث تكون العملة مستقرَّةً بشكلٍ كبيرٍ، ممَّا ينعكسُ إيجاباً في النّهاية على التَّعاملات التّجاريَّة بين الدَّولة وشركائها الدَّاخليّين أو الخارجيّين، فلا تسمح عموماً بهامش ارتفاعٍ أو انخفاضٍ أكثر من 1-2%، بحيث تكون الأسعار في نطاقٍ شبه ثابتٍ.
-
التعويم الحرُّ أو الخالص: وهو النِّظام الذي يتحدَّدُ فيه سعر العملة الوطنيَّة بناءً على آلية العرض والطَّلب فقط والقُوَّة الشّرائيَّة للعملة، فلا تتدخَّل الدَّولة نهائيّاً في تحديد سعر الصَّرف، وهو النُّوعُ الأكثر اتّباعاً في الاقتصادات القويَّة والمُتقدِّمة مثل بريطانيا وأمريكا وسويسرا.
ولكن في العموم يؤكِّد الاقتصاديُّون أنَّه لا يوجد نظام تعويمٍ بالكامل، إذ عادةً ما تدخل البنوك المركزيَّةُ بأشكالٍ متفاوتةٍ للسَّيطرة على سعر عملتها بتغيير سعر الفائدة، ممَّا يكبحُ التَّضخُّم وإنْ كان يُؤثِّر على عملات البلاد الأخرى، ممَّا أدَّى إلى حروب عملاتٍ خفيَّةٍ بينَ الدُّول، خصوصاً مع التَّقلُّبات الاقتصاديَّة والحروب وغيرها.
شاهد أيضاً: كيف تحمي استثماراتك من هوامير البورصة المفتوحة؟
مخاطر تعويم العملة الوطنية
على الرَّغمِ من فوائد تعويم العملة الوطنية، فإنَّ هناك مجموعةً من المخاطرِ التي تجعلُ هذا القرار شديد الصُّعوبة في الكثير من الأحيانِ ليشبهَ تقريباً قرار بتر أحد الأعضاء، ومن أهمّ هذه المخاطر:
التقلُّب الشَّديد في سعر الصَّرف
عند عدم وجود احتياطيٍّ نقديٍّ كبيرٍ وعجزِ ميزان المدفوعات، فإنَّ العملةَ قد تتعرَّضُ إلى تذبذبٍ شديدٍ في قيمتِها بين يومٍ وليلةٍ، ممَّا يُؤثِّر بشدَّةٍ على الاستثمارات الأجنبيَّة، ويُقلّلُ من الثّقة في الاقتصاد الكُلّيّ.
تخصيص موارد الدَّولة
عند تعويم العملة الوطنية دون استراتيجيَّةٍ اقتصاديَّةٍ قويَّةٍ وتعرضها للتَّذبذب، فإنَّه يصعبُ على الدَّولة بشدَّةٍ وضعُ استراتيجيَّاتٍ طويلة الأمد؛ لأنّها ببساطةٍ لا تعرفُ بالضَّبطِ سعر العملة وهل تعتمد سياسةَ التَّصدير أم الاستيراد؟ وهل تبدأُ في مشروعات بنيةٍ تحتيَّةٍ عملاقةٍ أم لا؟ لذا تُخصِّصُ الموارد لأهدافٍ مُحدَّدةٍ قريبة المدى لتقليل الخسائر، ولكنَّها في الوقت ذاته لا تضمنُ التَّنمية المستدامة.
تقييد الانتعاش الاقتصاديّ
يؤدِّي التعويم إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد بشدَّةٍ، وفي الوقت ذاته يمكن لبعض الدُّولِ منعُ الاستيراد من مناطق عملتها منخفضةٌ حتَّى لا تُشكِّلَ خطراً عليها، وهذا ما فعلته أمريكا مع الصّين وأوروبا، فقد أصبحتِ البضائع الأمريكيَّة مهدَّدةً بفعل انخفاض أسعار منافسيها من الدُّول الأخرى، وبالتَّالي لا يكون التعويم قد حقَّقَ هدفهُ من الانتعاش الاقتصاديّ للدَّولة.
زيادة المشكلات الدَّاخليَّة
عند تعويم العملة عادةً ما ترتفعُ أسعار الإنتاجِ بشدَّةٍ وتعمل الشَّركاتُ على تسريح قدرٍ كبيرٍ من العمالة، ممَّا يزيد من البطالة وترتفع الأسعار نتيجة ارتفاع فاتورة الاستيراد وتراجع الإنتاج، وقد يتمكّنُ الاقتصادُ من التَّعافي سريعاً أو يظلُّ لسنواتٍ طويلةٍ يعتمد على المساعدات الخارجيَّة؛ ممَّا يفاقمُ من الدُّيون ومن المشكلات الاقتصاديَّة.
وفي النِّهاية، إنَّ تعويم العملة الوطنية يُمكن أن يكونَ من أكثر القرارات فائدةً لاقتصاد الدَّولةِ، ولكن يجب في البداية التَّغلُّب على التَّحدّيات التي تواجهُ مثل هذا القرار من مراعاةٍ للفئات الفقيرة والمهمشةِ؛ لتجنبَ أيّ خللٍ اجتماعيٍّ أو أمنيٍّ أو سياسيٍّ، كما لا بدَّ من اتّباعِ خطَّةٍ اقتصاديَّةٍ قويَّةٍ قبل وخلال تعويم العملة للحماية من التَّقلُّبات الكبيرة مع الاحتفاظ باحتياطيٍّ نقديٍّ أجنبيٍّ قويٍّ يسمحُ بالتَّداول الحرِّ للعملة، وإلَّا ستنشط السُّوق السَّوداء من جديدٍ وتبقى المشكلات الاقتصاديَّةُ كما هي، بل ويتفاقم التَّضخُّمُ والبطالةُ وترتفع معدَّلات الفقر في البلاد.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين تحرير سعر الصرف وتعويم العملة؟ تحرير سعر الصرف إجراء أكثر شمولاً ويشمل مجموعة إجراءات سياسية واقتصادية للحدّ من سيطرة الحكومة على سعر العملة، ويُمكن أن تؤدّي هذه الإجراءات للاختيار بين التعويم الحُرّ أو المُدار وفقاً لكفاءة تلك الإجراءات ونجاحها في كبح التّضخم وإجراء الإصلاحات الاقتصاديّة.
- الفرق بين تخفيض العملة وتعويم العملة؟ تخفيض العملة هو إجراءٌ تلجأ إليه الدولة لتقليل سعر عملتها مع الحفاظ عليه ثابتاً في الوقت ذاته في محاولة لكبح السّوق السّوداء وتحقيق توازن أكبر في ميزان المدفوعات، لكن التعويم هو ترك السّعر حُرّاً وفقاً للعرض والطّلب ووفقاً لحجم الاحتياطيّ من النّقد الأجنبيّ.
- هل تعويم العملة قرار صحيح؟ تعويم العملة قرار صحيح في حالة وجود سياسةٍ نقديّةٍ قويّةٍ ومستقرّةٍ وإنتاجٍ محلّيٍّ قويٍّ وعدم اعتماد على الاستيراد بطريقةٍ أساسيّةٍ تجعل ثمن التعويم باهظاً سواء على المدى القريب أو حتّى البعيد.